سر اعجابي بزكي مبارك

سر اعجابي بزكي مبارك

عبد الرزاق الهلالي/ باحث وأديب راحل
ان علاقتي بالمغفور له الدكتور زكي مبارك قصة تبدأ فصولها منذ ان كنت طالبا بدار المعلمين العالية عام 1937/ 1938 عندما قرأت في الصحف مع غيري من الناس خير انتدابه لتدريس الادب العربي في الدار فكان لهذا الخبر رنة فرح وسرور، لا في وسطنا الطلابي فحسب بل في الاوساط الادبية كافة، تلك الاوساط التي رحبت بصاحب (النشر الفني) و(مدامع العشاق)

و(الاخلاق عند الغزالي) و(حب ابي ربيعة) و(الموازنة بين الشعراء) ترحيبا عظيما واخذت الصحافة العراقية تشيد بفضله وادبه وتذكر قراءها بمواقفه الادبية ومساجلاته مع كبار ادباء العروبة في ارض الكنانة وغيرها قبل قدومه الى بغداد.
ولقد كانت للدكتور زكي مبارك في اذهان ادباء العراق صورة ادبية رائعة اذ عرفوه اديبا قوي الحجة صريح العبارة لايخشى في الحق لومة لائم، وان خرج عن المألوف في ما يكتب او يساجل ويناقش.
كانت هذه الصفات التي يتصف بها هذا الاديب الكبير معروفة لدى ادباء العراق فلا عجب ان تستقبله الاوساط الادبية في بغدداد استقبالا يليق بمكانته في دنيا الثقافة والادب او يكرمه ادباء العراق باجمل ما يكرم به اديب عظيم!.
ثم بدأنا نحن طلاب دار المعلمين العالية نستمتع باحاديث استاذنا الجديد، وتؤخذ بطريقته في التدريس واسلوبه في تقديم المادة وايصال المعلومات الى اذهاننا، فاذا نحن امام طراز جديد من الاساتذة، شدنااليه شداً، بشخصيته المحببة، وروحه المرحة، وعلمه الغزير وادبه المتدفق وتعليقاته النادرة ولطائفه الساحرة، حتى اذا بدأ يلقي محاضراته في قاعة الحقوق ثم بنشر مقالاته عن (ليلى المريضة في العراق) على صفحات مجلة الرسالة القاهرية ويتحدث من على منبر الاذاعة العراقية او في النوادي والمنتديات الادبية، زدنا اعجابا به وتعلقا بشخصيته ورحنا بشعور او بغير شعور، نشارك في ذلك الجو الادبي الذي اوجده في العراق وخارج العراق، نحضر محاضراته ونقرأ ما يكتبه في الرسالة والصباح والمكشوف او في جرائد ومجلات العراق، التي وجدت في تلك المحاضرات والمقالات والاحاديث، المعين الذي تستقي منه لتروي ظمأ قرائها بافنين من العلم الوثقافة والادب. هذا هو واقع العراق عندما احتضنت بغداد هذا الاديب الكبير، وذلك هو وضع الادباء معه، هنا او هناك، فلا عجب اذا قيل عن (الزكي المبارك) انه بحق وحقيق قد ملأ الدنيا وشغل الناس.
اما انا فقد كنت مع جماعة من طلاب الادب مدفوعين اكثر من سوانا من المعجبين بهذه الشخصية الادبية الفذة حيث اتخذنا من (جريدة الهدف) الاسبوعية لصاحبها السيد عبد المجيد حسن الغزالي الميدان الذي تعرض فيها نثار قلم الدكتور ونعكس اراءه في شتى المواقف الثقافية والادبية ونستتبه فيما يراه او يقترحه من وسائل للنهوض بالحركة الادبية في العراق وما الى ذلك من القضايا الادبية والاجتماعية التي عرضنا بعضا منها في هذا الكتاب.
ثم اخذت ايام السنة الدراسية التي انتدب خلالها الدكتور زكي مبارك تمر سراعا، ولكنه مع كل هذا كان كتلة عمل دائب ونشاط منقطع النظير فهو علاوة على يامه بواجبات التدريس في دار المعلمين العالية كان يسهر الليالي في كتابة فصول (عبقرية الشريف الرضي) وحلقات عدة من سلسلة احاديث (ليلى المريضة في العراق) ويساهم في اجتماعات المؤتمر الطبي العربي الذي انعقد في شهر شباط من تلك السنة ويزور حواضر العراق الكبرى ويسجل ما جرى له فيها وما عنّ عنها من احاديث وذكريات ضمتها صفحات ليلى المريضة او (وحي بغداد) او (ملامح المجتمع العراقي) بعد ذاك.
ولو سألنا الدكتور زكي مبارك عن السر في كل هذا النشاط لاستمعنا اليه وهو يقول.. "لا تسألوني كيف ظلمت نفسي فاعددت هذه المحاضرات وانشأت معها مقالات كثيرة جدا نشرتها في صحف مصر ولبنان والعراق ورججت الحياة الادبية في بغداد رجا عنيفا، فذلك كان اقل ما يجب ان اصنع في مقابل الثقة التي شرفتني بها حكومة العراق".
ثم يقول..
"- وقد تفضلت الطبيعة العراقية فاتحفتني بانفس ما يمتلكون وهو ليل بغداد، ولن اترك لكم هذا الليل، ولهذا الليل ايها السادة احاديث فقد عرفت كيف استطاع علماء العراق ان يملأوا الدنيا علما وادبا، ليل بغداد هو الذي سيخلق زكي مبارك من جديد.
وما انكر ايها السادة اني عرفت فيما سلف ليلا اطول من ليل بغداد، هو ليل باريس، ولكن ليل باريس على طوله كان طيع الصباح بفضل ما هنالك من ملاء وفتون، اما ليل بغداد فلا يعرف شيئا من ذلك، هو ليل العلم، سيصيرني واسفاه، من كبار العلماء!".
وانه اذن لم يعرف طعم الحياة في بغداد، لانه فضى جميع لحظاته والقلم في يده، واتفق من الحبر اضعاف ما انفق من الماء القراح، واحصى ما كتب في هذه الفترة فاذا هو يزيد على خمسة آلاف صفحة!.
وفيما هو منصرف بكل ما وهبه الله من همة ونشاط لخدمة الادب العربي باسلوبه المشرق الجميل اذا بالقدر القاسي يودي بحياة احد الاساتذة المصريين في كلية الحقوق العراقية فيذهب مأسوفا عليه نتيجة اطلاق الرصاص عليه من قبل تلميذ كان في ازمة نفسية عنيفة، فاذا بهذه الفاجعة الالية تكشف عن الجوهر المكنون في نفسية الدكتور زكي مبارك الذي وقف يدافع عن العراق ويرد كيد المغرضين ويقول..
- ان من الجريمة ان تنسب هذه الجريمة الى اهل العراق، هي جريمة فردية يسأل عنها جانيها المسكين الذي قتل نفسه بلا ترفق، هي سحابة صيف سيعقبها الصحو والصفاء!!.
وقرأ الشعب العربي بأسف ما كانت تخطه اقلام بعض الكتاب في مصر ضد العراق والعراقيين بسبب هذا الحادث الفردي، كما قرأوا ما كان يكتبه الدكتور زكي مبارك وغيره من احرار الكتاب العرب في ارض الكنانة عن هذا الحادث المحزن المفجع فيزداد الاعجاب بموقفه وتتعالى الاصوات في ربوع الرافدين مقدرة هذه المشاعر العربية الصادقة والروح القومية النبيلة تصدر عن الزكي المبارك فاذا (نادي المثنى) في بغداد ينتخبه (عضو شرف) فيه، واذا الحكومة العراقية تكرمه بمنحه (وسام الرافدين) فننتهز نحن طلابه ومحبوه هذه المناسبة فنصدر عددا خاصا من جريدة (الهدف) البغدادية نجدد له فيما كتبنا على صفحاتها من نثر وشعر، مشاعر الحب والتقدير والوفاء اعترافا لجهوده التي بذلها في العراق ومواقفه النبيلة من اجل الدفاع عن سمعة العراق.
وتزداد بغد ذاك بين الدكتور زكي مبارك واهل العراق (على حد تعبيره) اواصر الحب والمودة يوما بعد يوم ويكتب بعد ما لمسه منهم من مشاعر الحب والتقدير قائلا..
" وقد فكرت كثيرا في الاسباب التي جعلت لي هذا الحظ المرموق في (العراق) ثم رأيت ان الاسباب كلها تنتهي الى سبب واحد وهو الصدق، فما تحدثت عن العراق الجميل الا وانا صادق، واذا قيل ان العراق يجزيني وفاء بوفاء واخلاص فاني اقول، اني سأقضي دهري كله مدينا للعراق، ولن استطيع اداء ما للعراق في عنقي من ديون ولو بذلك دمي وروحي في حب العراق واهل العراق.".
وفي الوقت الذي يقف منه العراق شعبا وحكومة هذا الموقف اعترافا بما قدم للعلم والثقافة والادب وما بذل من اجل العرب والعروبة، نجده في وطنه لا يجازي الا بالتنكر والاغفال والاهمال، فهو على الرغم من مؤهلاته العلمية والثقافية والادبية لم ينل بعض ما كان يتمتع به من هم دونه علما وفضلا وادبا، لماذا؟ لانه صريح لا يعرف الكذب والرياء والتزلف والنفاق فلا عجب ان نراه برما بحياته في وطنه، بعد ان حاربه بعض ذوي السلطة والبأس حتى في رزقه وحرموا عليها لقمة العيش بينما كان الزعانف والامعات يتنعمون باعلى الرتب والمناصب، وفي وسط هذا الجو الظالم تثور نفسه وتنعكس مشاعره في قصائده ومقالاته.
اما انا فقد بقيت مخلصا لاستاذنا الكبير شأني في هذا الشعور شأن كثير من ادباء العراق فقد كنت من بين كتاب العدد الخاص من جريدة الهدف البغدادية الذي صدر بمناسبة منحه وسام الرافدين عام 1940 ثم تمر الايام فاكتب مقالا في مجلة الاقلام العراقية عام 1965 بعنوان (زكي مبارك في العراق).
ولكني وجدت وانا أعد هذا المقال كثيرا من الصفحات والملامح الادبية الرائعة التي تنعكس نشاط الدكتور زكي مبارك، وجهاده الثقافي في ربوع الرافدين ووقفت على نتائج انتدابه للتدريس في دار المعلمين العالية وآثارها البعيدة في نفسه وفي حياته الادبية ومشاعره القومية. حتى اذا ضممت بعضها الى بعض رأيت تقديمها كتابا باسم (زكي مبارك في العراق) خدمة للادب والثقافة والتاريخ.
وبعد:
فسواء كنت من تلامذة الدكتور زكي مبارك في دار المعلمين العالية الذين عناهم بقوله:
"واما تلاميذي فليس بيني وبينهم ما يوجب العقاب فقد قدمت اليهم جميع ما املك من المعارف الادبية والعلمية والفلسفية وسيصيرون باذن الله من اشرف خدام العراق الخ!".
او كنت من (اهل العراق) او كنت من (ابناء بغداد)، اقول سواء كنت من هؤلاء، او اولئك فلقد تأثرت اشد التأثر وانا استمع اليه مخاطبا اهل بغداد قائلا..
"سافارقكم يا اهل بغداد، وانا محروم فاذكروني بالشعر يوم اموت وما اريد شعر القوافي وانما اريد شعر الارواح!!".
وعلى هذا عزمت على اخراج هذه الدراسة بسبب جميع تلك الروابط والدوافع، جاعلا مما جاء فيها من مشاعر واحاسيس نحو هذا الاديب العربي الكبير (شعر الارواح) الذي اراد، آملا ان يجد فيها القارئ المنصف صورة واضحة المعالم عن حقيقة هذه الشخصية العربية الفذة التي تركت لها في حياة العراق الحديث صفحات نيرة يقرأها العراقيون بل العرب اجمعون بكل اعجاب وتقدير.
واخيرا فهذا هو كتاب (زكي مبارك في العراق) اضعه بين يديك ايها القارئ وليس لي في نهاية هذه المقدمة الا ان اختمها بأبيات الدكتور رحمه الله وهو يخاطب بغداد قائلا:

ابغداد هذا آخر العهد فاذكري
مدامع مفطور على الحب بكاء
سيذكرني قوم لديك عهدتهم
يحبون ظلامين ضري وايذائي
ستذكر ارجاء الفراتين شاعرا
تفجر عن مكنونة الدر عصماء
سيسأل قوم من زكي مبارك
وجسمي مدفون بصحراء صماء
فان سألوا عني ففي مصر مرقدي
وفوق ثرى بغداد تمرح اهوائي