البرتو مورافيا كاتباً مسرحياً

البرتو مورافيا كاتباً مسرحياً

شاكر الجبوري
تشير سيرة البرتو مورافيا إلى أنه ليس روائياً وقاصاً وكاتب مقالات فحسب، بل رجل مسرح أيضاً، فقد جرب العمل المسرحي في فترة مبكرة من حياته الأدبية، ثم ابتعد عنه ليتفرغ لكتابة الرواية والقصة القصيرة، ثم عاد مرة اخرى إلى المسرح بعد الحرب العالمية الثانية، أملاً منه في أن يجد المخرج الذي يمكن أن يتحاور معه ويستوعب أفكاره.

لكنه وجد بعد فترة أن العمل في المسرح لا يضيف شيئاً إلى تجربته السردية. ورغم ذلك فقد كتب 12 مسرحية منها: بياتريك سنسي، الإله كيرت، ولماذا يا إيزيدور؟ والأخيرة هي المسرحية الوحيدة المترجمة إلى العربية. أخذ مورافيا اسم المسرحية، واحدى شخصياتها من الاسم الشخصي للشاعر الفرنسي لوتريامون، ولم يكن اختياره لهذا الاسم من قبيل الصدفةً، بل له علاقة خفية بالبنية الدلالية للنص، من دون أن يفصح عنها. تفضح المسرحية، بمقاربة ساخرة ولاذعة، أساطير المجتمع الاستهلاكي، والقيم الزائفة للطبقة البورجوازية في العالم الرأسمالي، من خلال رؤية طليعية، شبيهة برؤية مسرح العبث، لهذا المجتمع الهش، المطواع، الذي تختلط عنده الحقائق بالأكاذيب والأوهام، الفاقد القدرة على النقد والتمييز، القائم على الزيف وتقديم السلعة في إطار أقرب إلى التمثيل والخداع، وقد وظّف مورافيا، في صوغ الحوار المسرحي، أسلوباً يحاكي الأسلوب نفسه الذي تعتمده وسائل الإشهار في الترويج للمنتجات الاستهلاكية، ولكنه أضفي عليه طابعاً غرائبياً وكاريكاتيرياً ليفضح أقنعة التضليل والمكر التي ترتديها شركات انتاج السلع والموضة لإشاعة ثقافة الاستهلاك، وتحويلها إلى تقاليد وأعراف تقدّس المظاهر والخزعبلات. يجري الحدث المسرحي في صالون مزين بالأثاث المتشابه، إيزيدور شاب في التاسعة عشرة من عمره، أمه بونا في الأربعين، وأبوه جيوستو في الخمسين. كلهم يرتدون ثيابا شبيهة بثياب التماثيل التي تعرض في واجهات المتاجر. وبرغم أن كل حوارات الأب والأم موجهة إلى ابنهما إيزيدور، فإنه يظل طوال الوقت ينصت اليهما من دون أن ينطق بكلمة، لكنه في مقابل ذلك يقوم بحركات وإيماءات كثيرة. في هذا الفضاء الذي تطغى عليه مفردات الموضة والسلع الاستهلاكية ثمة شرخ كبير بين الابن إيزيدور وأبويه، الأول متمرد وناقم على كل شيء يحيط به، ولذلك يرفض الرد عليهما، ويريد أن يغادر المنزل، غير آبه بتوسلاتهما وتضرعهما إليه بأن يقدم لهما تفسيراً. ويوحي موقف إيزيدور إلى وجود قطيعة بين ثقافته وثقافة المجتمع الاستهلاكي الذي يرمز إليه أبواه، فهما على العكس منه تماماً لا يكتفيان باستعمال افضل المنتجات، كما يقولان، بل يكرسان حياتهما لها، ويعملان من أجل الامتثال لآداب السلوك، التي تنص عليها الصور والشعارات الإشهارية، ضمنياً أو بشكل صريح. لقد صارا يتبعان أعراف وتعاليم ديانة زائفة هي ديانة الاستهلاك البورجوازي بدلاً من الوصايا العشر التي كانا يقتديان بها قديماً، وأخذا يكرسان حياتهما للمستحضرات، ويتصرفان على وفق المعايير التي تمليها عليهما، ويعترفان عن طيب خاطر بأنهما يكدان لتعويض الفضائل العائلية- التي تنصحهما بها الصناعة الغذائية- بالدعارة والعنف اللذين تمتدحهما الصناعة السينمائية، ويقدران صناعة السيارات التي تقتني منهما التهور، وصناعة الكراسي والأرائك والأسرة التي تغريهما بالكسل، وصناعة الخمور والمشروبات الروحية العذبة التي تحولهما إلى كحوليين، وصناعة التبغ السرطانية، وصناعة لوازم الدفن التي تشتهي موتهما. وبإزاء صمت إيزيدور المطبق فإن ابويه يحاولان استمالته بوصف يوم نموذجي في حياتهما، وهو في الحقيقة يوم يلخص السلوك الاستهلاكي للمجتمع الخاضع لاستراتيجيته التضليلية، وأنماط الإشهار التي تدعو إليه، ولكن بإسلوب يكشف عن تعرية مورافيا له وكشفه للأساطير التي يقوم عليها. وحين ينتهي الأبوان من وصف يومهما النموذجي لابنهما يحاولان إقناعه بأنهما لم يقترفا ما يبعث على الخجل، وليس ثمة ما يسوّغ مآخذه عليهما، ولكن إيزيدور يفتح فمه أخيراً، وهو يهم بمغادرة المنزل، ليقول لهما كلمةً واحدة هي:"اللعنة”! وبها يختم مورافيا مسرحيته ذات الفصل الواحد، فنستنتج أنه اتخذ الاسم الأول للوتريامون عنواناً لها لكي يوحي بأن شخصية الابن أقرب ما تكون إلى شخصية ذلك الشاعر المتمرد، المسعور، العنيف الذي انتفض بقوة، في شعره وسلوكه، ضد كل ما يشكل الحياة الاجتماعية: اي ضد البشر، والحب، والأخلاق البورجوازية التي كانت سائدة في عصره..