زكي مبارك وطنياً

زكي مبارك وطنياً

كريمة زكي مبارك
لعل من أنصع الصور التي يمكن لنا أن نرى زكي مبارك من خلالها تلك الأيام التي عاشها الأديب الكبير الراحل د. زكي مبارك قبل الاعتقال وأيام الاعتقال أيام الثورة المصرية سنة 1919 كان زكي مبارك يومها شيخاً معمما، وكان شابا إذ أن مولده كان في الخامس من أغسطس 1891، وكان يخطب في المساجد والكنائس ضد الاحتلال البريطاني لمصر،

وفي إحدى المرات حضر وفد الصحافة الأوربية وتبارى خطباؤهم في تأييد القضية المصرية، وقام الشيخ زكي مبارك ورد عليهم باللغة الفرنسية وبدأ خطبته بأن أنشد قول لافونتين: "حق الأقوى هو دائماً الأفضل".
وعلى هذا الأساس مضى وألقى خطبة فصيحة.
ومن تلك الأيام كان زكي مبارك يبيت في الجامع أثناء اشتعال الثورة، ولا يدخل غرفته في حي الغورية إلا في الليل، وقد حاصرها الإنكليز عدة مرات فلم يجدوه، وقضى ثلاثة أشهر شريداً طريداً لا يعرف أين يبيت، وكان مأواه غرفة فوق سطح بيت من " السبتية " بحي القللي في القاهرة، كان يقيم فيها عند أحد أصدقائه الشباب من بلدته سنتريس منوفية وهو أنيس ميخائيل.
يقول الدكتور زكي مبارك 1)
لم تكن لي رغبة في الاعتقال مع أنه فرصة للراحة من متاعب الحياة التي كنت أقاسيها أيام الثورة، فقد عشت مشرداً مدة تزيد على شهرين لأنه كان من الخطر أن أبيت في منزلي وهو في ذلك الوقت شقة صغيرة في شارع الغورية، ومن أدب الإنكليز احترام المعابد، وإذن فلا خوف من الإقامة في الأزهر الشريف بالليل، ولكنها إقامة متعبة فقد كان يتفق أن أقضي بعض الليالي بدون عشاء (2) (في إحدى الليالي مضيت إلى المنزل وأوقدت مصباحاً فاستهوتني القراءة وأنا أجهل ما سيقع، فقد طرق الباب طارق يقول: “ افتح الباب يا أستاذ “. من هذا الطارق؟
هو مأمور قسم الدرب الأحمر ومعه خمسة عشر جندياً. ذلك المأمور هو المرحوم الشيخ محمد فرج وكان هواه مع الثورة، فلم يعتقل أحداً من الثائرين إلا وهو راغم، فقد كانت أمور الحكومة إلى السلطة العسكرية.
قلت: (والكلام ما زال للدكتور زكي مبارك) قلت: أنا أفهم ما تريد يا حضرة المأمور ولكني أرجو أن تمهلني لحظات... ثم أهويت على الكتب فاخترت ما أحتاج إلى مراجعته من الأدب العربي والأدب الفرنسي، وربطت تلك الكتب في (بطانية) وخرجت محروساً يعناية الله المصورة في المأمور والجنود.
دخلت المحافظة وعلى باب المحافظة وجدت قسيساً يقول: أنا الشيخ زكي مبارك فاعتقلوني واتركوه... ولكن هذا لم يمنع بشىء فعمامة القسيس سوداء وعمامتي بيضاء.
دخلت المحافظة أولا فقد كان هذا واجباً إدارياً ثم مضت العربة إلى قصر النيل، وهناك قال الجندي الذي يصحبني: في أمان الله يا أستاذ... ثم أصعدوني إلى غرفة في المعسكر تشرف على النهر المبارك، فنظمت كتبي وأخذت أقرأ ما اخترته من الأدب الفرنسي.
وجاء الليل فأويت إلى مضجعي، وصحوت مع الفجر فتوضأت وصليت ثم نظرت فرأيت منظراً في غاية الجمال، رأيت أسراباً من الحمام ترفرف على النهر مع الشروق، ورأيت صور النخلات القائمة بالشاطىء الأيسر تتموج مع الأمواج... إنه منظر رائع... لن أنساه ماحييت.
ومن صباح اليوم التالي من أيام الاعتقال بعد شروق الشمس بساعات حضر رجل ضخم من رجال الحبس البريطاني ومعه مترجم، وأخذ في استجوابي بالصورة الآتية:
- أنت متهم عندنا بتهمتين خطيرتين، التهمة الأولى هي اشتراكك في تحريض المصريين على الثورة. بخطب كثيرة في الأزهر.
ـ هذا صحيح فما هي التهمة الثانية؟
- التهمة الثانية هي اشتراكك في تحرير المنشورات الثورية.
- هذا صحيح أيضاً.
- ولكن بريطانيا العظمى لا تصفح عمن يقترف هاتين الجنايتين إلا بشرط.
- ماهو ذلك الشرط؟
- هو أن يكتب بخطه أنه أخطأ وأنه تاب، فإن كتبت هذا سأفرج عنك في الحال.
ويرد عليه زكي مبارك قائلاً:
- إنك تطلب المستحيل يا حضرة الكومندان.
- وإذن ستبقى هنا.
- أنا مسرور بذلك.
- مسرور؟ كيف؟
- لأنني أشارك بريطانيا العظمى في إحتلال قصر العيني.
ويستطرد زكي مبارك قائلاً: كانت السلطة العسكرية تعطينا سبعة عشر قرشاً في اليوم فاشتركت في جريدة الأهالي وكان الأستاذ عبد القادر حمزة يصدرها في الإسكندرية.