من يوميات كتبي في لندن : أهمية الكتب المهداة والموقعة

من يوميات كتبي في لندن : أهمية الكتب المهداة والموقعة

علي أبو الطحين
لهواة الكتب رغبة كبيرة في أقتناء الكتب الموقعة والمهداة من قبل المؤلف، أو النسخ التي لها علاقة بالمؤلف، هذه النسخ تسمى في مصطلح هواة وجامعي الكتب، Association Copy، ربما يمكن تسميتها باللغة العربية، الكتب المنسوبة. اي التي تتعلق أو تنسب بطريقة أو بأخرى الى المؤلف، ومهداة الى صديق أو قريب أو شخصية عامة.. الخ.

ومن خلال هوايتي وعملي في الكتب القديمة سقطت في يدي عشرات من تلك الكتب المنسوبة المهمة، سواء كانت باللغة العربية أو الانكليزية، منها ما احتفظ به لنفسي، وأخرى أحرص على ان تكون في يد من يحرص عليها.

من الكتب الانكليزية المهمة في حوزتي، كتاب أرنولد ولسن، نائب الحاكم السياسي في بغداد، وفيه يهدي الكتاب بخطه باللغة الانكليزية والفارسية الى الدكتور موريس يونغ الطبيب في شركة النفط الفارسية – البريطانية في عبادن، والتي اصبح ولسن مديرها، بعد مغادرته بغداد، أثر ثورة العشرين في العراق. وكذلك كتاب الخاتون المس غيرترود بيل، حيث حصلت على كتابها الصغير النادر المطبوع في البصرة باللغة الانكليزية، سنة 1917، والمعنون”العرب في بلاد الرافدين". هذه النسخة مهداة وموقعة من المس بيل في صفحة العنوان كما يلي : الى الميرزا محمد خان صاحب، مع أطيب الأماني من غيرترود بيل. وكذلك وقع في يدي كتابها عن سوريا المطبوع في لندن سنة 1907 وفيه اهداء من والدها السير هيو بيل الى السيد أرنست ريشموند، شقيق زوج اختها، إلسا بيل. وفي نسخة من كتاب رسائل مس غريترود بيل، وجدت أهداء ورسائل من زوجة أبيها، فلورنس بيل وأختها الى صاحبة تلك النسخة، فيها أطراء وأعجاب بقابلية المس بيل بالكتابة السريعة بدون اي تصحيح او مراجعة. والغريب أني حصلت على تلك النسخ باسعار عادية وزهيدة لم يدرك البائعون قيمتها، عادت علي بأرباح مضاعفة.
ومن المؤلفين العراقيين، وجدت نسخة من كتاب الدكتور المؤرخ العراقي الأستاذ زكي صالح باللغة الانكيزية عن تاريخ العراق وفيه أهداء جميل الى المؤرخ البريطاني العلامة أرنولد توينبي. وكان الدكتور زكي صالح قد نشر بحثا بالانكليزية في الدفاع عن أرنولد توينبي ضد حملة لاذعة شنها عليه المؤرخ هيو تريفور ـ بوير، استاذ التاريخ الحديث بجامعة اكسفورد.
ووجدت أهداء في كتاب له أهمية تاريخية. فخلال بحثي وتجوالي في سوق الكتب القديمة في القاهرة في بداية سنة 2009، وقع تحت نظري ضمن مجموعة من الكتب الرخيصة خارج احد المكتبات، كتاب مذكرات العقيد الركن صلاح الدين الصباغ، فرسان العروبة في العراق. والكتاب كما هو معروف صدر في نهاية سنة 1956، تحت يافطة الشباب العربي، دون ذكر اسم الناشر او مكان الطبع، ولم يكن هناك معلومات عن الجهة الحقيقة التي حققت تلك المذكرات وهيأتها للنشر، وأن لم يكن سراً بان الكتاب قد تم طبعه في دمشق.
فكانت المفاجأة في الأهداء والتوقيع في صفحة العنوان، من قبل السيد نزار صلاح الدين الصباغ، الابن الأكبر للشهيد، وهو يهديه الى أحد كوادر حزب البعث في سوريا، الملازم الأول نعسان زكار، وكان زكار ضابط في المخابرات السورية، كما علمت بعدها. وأرى من الضروري للأمانة التاريخية ان اضع الاهداء كما هو في الكتاب.
الاخ الملازم الاول نعسان زكار المحترم - دمشق
لقد أخرجتَ هذا الكتاب بيدك من الظلام الى النور، وابديت من الملاحظات السديدة ما دلني على اخلاصك العميق ووعيك القومي الصادق، وأشرفت على طباعته وتصحيحها ليخرج في ثوب رائع يتناسب مع روعة المبدأ الذي يبشرّ به، والعقيدة التي يؤمن بها، والهدف الذي يسعى اليه، وحرصت على ان تكون أميناً في نقل المخطوطة الاصلية من مذكرات والدي الى القارئ العربي، كل ذلك باشراف العربي الحر المقدم الركن عبد الحميد السراج وتوجيهه، رغماً عن مؤامرات الاستعمار ومعارضة اذنابه في نشر الكتاب. فاقبل مني هذه النسخة يا عزيزي تحية تقدير واعجاب لهذه الخدمة القومية التي اسديتها لوجه الله والعروبة، اخذ الله بيدنا جميعاً لرفع راية العروبة والاسلام.
المخلص / نزار صلاح الدين الصباغ
دمشق 20 شباط 1957

وكذلك كتب السيد نزار صلاح الدين الصباغ اهداء آخر داخل غلاف هذه النسخة، مقابل صفحة العنوان كما يلي:
عزيزي الملازم الاول نعسان زكار :
انني استعرض جميع ما كُتب، فلا تميل نفسي إلا الى ما كتبه الانسان بقطرات دمه..
ان من يكتب سوراً بدمه لا يريد ان تتلى تلك السور تلاوة، بل يريد ان تستظهرها القلوب
من كتاب (هكذا تكلم زرادشت) ص 55
مع تقديري واعجابي الفائقين لصدق وطنيتك وعروبتك واخلاصي لك
نزار صلاح الدين الصباغ
دون شك هناك الكثير من الأهداءات والتعليقات المهمة والمفيدة، قد تكون لها قيمة تاريخية واجتماعية تضمها كتب محفوظة في خزانات العديد من القراء وهواة الكتب، بل وحتى المكتبات الوطنية، تنتظر من يكتشفها.


مفاجأت من سواقط الكتب

سواقط الكتب وأعني بها الآشياء التي توضع وتحشر بين صفحات الكتاب، والتي غالباً ما ترى عند تقليب صفحات الكتب المستعملة. أنا على يقين هناك الكثير من بائعي الكتب أو حتى المقتنين لها، قد مرت عليهم الكثير من هذه السواقط عند شراء الكتب القديمة. ولهم ذكريات جميلة مع العديد من تلك اللقى والمفاجأت. بالطبع قد يكون أغلب هذه السواقط تافه ليس له قيمة، كقصاصة ورق، أو بطاقة بريدية، أو تذكرة حافلة، وفي بعض الأحيان وردة جافة أو ورقة شجر يابسة، تكون قد تركت أثر اً قبيحاً في صفحات الكتاب. لكن أيضاً، قد تتفاجأ ببعض الصور أو الوثائق التاريخية المهمة، أو رسالة من شخصية كبيرة، أو حتى أوراق نقدية، والكثير حتماً من قصاصات الجرائد والمجلات التي تتعلق بموضوع الكتاب، أو حتى دراسة نقدية للكتاب، كما وجدت في أحد المرات.
في صيف سنة 2012 وصلتني مجموعة كبيرة من كتب الخليج من بائع في الولايات المتحدة. كان ضمن تلك المجموعة، كتاب للضابط البريطاني ويليم روبرت هيّ، يعرفه القارئ العراقي من كتابه المهم المعنون،”سنتان في كردستان". عمل الكابتن روبرت هيّ كضابط سياسي في كردستان بعد الحرب العظمى وعمل بعدها لسنوات عديدة قنصلا لبريطانيا في امارات الخليج العربي، ووضع كتاب عن عمله في الخليج بعنوان”امارات الخليج الفارسي”سنة 1959. وجدت داخل هذا الكتاب بطاقة دعوة موجهة من قبل قبل المقيم البريطاني في البحرين روبرت هيّ وزوجته الى السيد فلودز وزوجته على العشاء في المقيمية البريطانية في المنامة. ومع هذه الدعوة هناك صورتان فوتوغرافيتان كبيرتان. الصورة الأولى تجمع جلوساً، الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، حاكم البحرين ذلك الوقت، مع المقيم روبرت هيّ وآخرين في قصر القضيبية، قصر شيخ البحرين. وقد ذكر خلف الصورة بقلم الرصاص، كانون الثاني سنة 1952. وهناك تعليق مطول باللغة الانكليزية، يكاد يكون مقالة قصيرة عن هذا اللقاء في قصر القضيبية، حيث تم فيه منح وسام الفروسية البريطاني K.C.M.G. من الملك جورج السادس ملك بريطانيا، الى الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة. والصورة الثانية للشيخ سلمان وهو واقف وقد تقلد الوسام البريطاني المذكور. كان الكتاب يباع في تلك الايام بحوالي 50 دولار للنسخة، لكن مع وجود هذه السواقط من الصور في الكتاب دفع لي احد هواة الكتب من البحرين مبلغ 400 دولار ثمناً لهذه النسخة.
وقد لا تحمل تلك السواقط بالضرورة قيمة مادية، لكن معلوماتية مهمة ومثيرة. كما حدث في كتاب عادي جداً اشتريته ضمن مجموعة من الكتب من احد مزادات الكتب القريبة من لندن. والكتاب كان”المخفي من حياة لورنس العرب"، وهو من الكتب المتوفرة الرخيصة، وضعه المؤلفان فيليب نايتلي وكولن سيمبسون وصدر في سنة 1969. في هذا الكتاب وجدت اوراق ورسائل بعثت الى المؤلفان من شخص اسمه جون بروس. كتب بروس في رسالتة شتائم نحو البرفسور ارنولد شقيق لورنس ووصفه بأبشع الاوصاف، ويخبر بروس المؤلفان بانه سوف لن يرسل لهم الصور التي وعدهم بها لضمها في الكتاب، وانه يسحب كلامه ولا يوافق على نشر المعلومات التي اباحها لهم بخصوص حياة لورنس السرية. رحت ابحث في نص الكتاب عن اسم جون بروس وما هي قصته في حياة لورنس العرب.
كان لورنس كما كشف عنه في الكتاب، مضطرب نفسيا ويعاني مما يعرف بالمازوخية، فهو يتلذّذ بالضرب والألم. فشاءت الصدف ان يلتقي لورنس بهذا الشاب الاسكتلندي الناصح البسيط وهو عاطل يبحث عن عمل. فرتب معه وأقنعه بالتدريج بأنه بحاجة تحت طلب جهات عليا بالخضوع الى الضرب المبرح، ويجب ان تكون هناك آثار على جسده من هذه الألام حتى تقتنع تلك الجهات بما يتعرض له. وهكذا كان لورنس يدعو بروس للقدوم من اسكتلندا الى اكسفورد او لندن كل بضعة شهور ليقوم بتلك المهمة بالضرب على قفاه وجسده حتى يغيب عن الوعي من شدة الألم، مقابل مبلغ مادي جيد، واستمر هذا الحال عدة سنوات. فوجدت في هذه الرسائل دليل على صدق ما طرحه المؤلفان من حقيقة جون بروس وعلاقته الغريبة بلورنس العرب.
أما المقالة النقدية التي وجدتها، فهي للدبلوماسي البريطاني دونالد هولي، وكانت بين صفحات كتاب بعنوان”غزوات الخليج”المطبوع سنة 1991، للمؤرخ الامريكي الدكتور بول ريتش، يتحدث فيه عن تاريخ الخليج، بعد أحداث الغزو العراقي للكويت سنة 1990. والدكتور ريتش مؤرخ متخصص في دراسة الجمعيات السرية والماسونية، وهو ماسوني بالاساس، وكان قد عمل عدة سنوات في السعودية والامارات وقطر.
كان دونالد هولي قد توفى في سنة 2008، وعرضت مكتبته للبيع بعد وفاته، فحصلت احدى مكتبات لندن العريقة على كتب الرحلات والمطبوعات النادرة والمهمة بمبلغ 900 ألف جنيه استرليني (حوالي مليون ونصف دولار حينها)، وطرحت الكتب العادية للبيع في مزاد للكتب في غرب لندن، كانت حصتي منها مجموعة تضم ما يقارب 300 كتاب من المطبوعات الحديثة نسبيا، منها نسخ مكررة من مؤلفات هولي عن الخليج العربي. كان دونالد هولي قد عمل عدة سنوات في السودان تعلم فيها اللغة العربية وبعدها اصبح وكيل سياسي في امارات ساحل عمان (دولة الامارات اليوم)، ثم في السفارة البريطانية في مصر وبعدها كقنصل تجاري في بغداد بين 1968 و 1971، ثم سفيراً في سلطنة عمان.
وجدت مسودة مقالة هولي النقدية عن كتاب بول ريتش حشرت بين صفحات الكتاب، لم يتسنى له نشرها، يدافع فيها بمرارة ضد أتهام بول ريتش لدور بريطانيا الاستعماري ودور الماسونية خلال أكثر من قرن ونصف في الخليج، ويدافع هولي كذلك بحرقة عن تناول ريتش لتاريخ حكام دول الخليج المظلم وشذوذهم، ودور القناصل البريطانيين في احتضان هؤلاء الحكام وقيادتهم. فتح لي كتاب بول ريتش افاق مهمة في القراءة النقدية لتاريخ الخليج، كانت أمنيتي وما زالت في ان ارى كتاب”غزوات الخليج”مترجماً الى العربية.