جعفر الخليلي
مكتبة الامام كاشف الغطاء من أشهر المكتبات الشخصية في مدينة النجف مدينة العلم والعلماء، وهي المكتبة التي أسسها الشيخ عليّ آل الشيخ محمّد رضا آل الشيخ موسى كاشف الغطاء، ولم تكن يوم تأسست مكتبة عامة، موقوفة للمطالعة كما هي الآن،
وإنما كانت مكتبة خاصة يمتلكها الشيخ عليّ والد المرجعين الدينيين الشيخ أحمد كاشف الغطاء، والشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء، ويرجع تأريخ أول تأسيسها إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري، فقد شبت مع الشيخ عليّ رغبة ملحة في البحث عن الكتب النادرة وجمعها، واستنساخها، وكانت لآل كاشف الغطاء ولا سيما لجدهم الشيخ جعفر الكبير مكتبة كانت من أندر المكتبات، وأوسعها جمعاً للكتب المخطوطة، كما سيجيء الحديث عنها في بحث المكتبات الخاصة، والكثير من هذه الكتب كانت فريدة في بابها وقد جمعها الشيخ جعفر الكبير من مختلف الأقطار الإسلامية إما بطريق الشراء أو مما كان يهدى إليه، ثم انتقلت هذه المكتبة إلاّ القليل منها إلى ابنه الشيخ موسى بطريق الوراثة ومنه إلى أخيه الشيخ عليّ، وقد تسرب من ذلك القليل شيء إلى البيوت، ومن هذا القليل المتسرب ما قد وصل شراء وإرثاً إلى الشيخ عليّ آل الشيخ محمّد رضا والد الإمامين الشيخ أحمد والشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء، فكان هذا بمثابة النواة والمحفزّ للشيخ عليّ على الاهتمام بالكتب النادرة أكثر، مما ضاعف هوايته، وولعه، في اقتناء الكتب النادرة وقد اشتد هذا الولع عند الشيخ عليّ حتى دفع به إلى التجوال والتطواف في ايران والهند والحجاز بحثاً عن الكتب وشرائها واستنساخها.
جاء في كتاب (هكذا عرفتهم) عن الشيخ عليّ ومكتبته: "وهنالك شيء آخر له قيمته في شهرة الشيخ عليّ ثم في نشأة ولديه ـ الشيخ أحمد الذي صار بعد ذلك مرجعاً من أكبر المراجع الدينية، وزعيماً كاد ينفرد بزعامة الشيعة وحده، ثم تلاه أخوه الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء الذي صار هو الآخر من أكبر الزعماء الروحانيين بعد أخيه ـ ألا وهو المكتبة فقد كان للشيخ عليّ كاشف الغطاء مكتبة انفردت بالكثير من الكتب العربية المفقودة، وضمت مئات من الكتب النادرة التي بذل الشيء الكثير للحصول عليها، وكانت تعتبر المكتبة الاُولى في الشرق من حيث جمعها للنادر والمفقود من الكتب، وعلى الرغم مما بيع منها بعد وفاته، فهي اليوم لا تزال في عداد المكتبات المهمة وإن كان مجموعها لا يزيد على بضعة آلاف كتاب جمعها بشق الأنفس كما يقولون، ولقد روي فيما روي عن حرصه في اقتناء الكتب: انه بينما كان منهمكاً مرة في استنساخ كتاب خطي في أحد الجوامع باسطنبول إذ جاءه أحد الضباط للقبض عليه بناء على أمر السلطان عبدالحميد الثاني متهماً إياه بالتواطؤ مع (أبي الهدى) في تدبير مؤامرة سياسية نمت عليها قصيدة نسب نظمها إلى أبي الهدى، وأبو الهدى هذا كان من أقرب المقربين إلى السلطان عبدالحميد، ولكن الشيخ عليّ قال للضابط:
كل من حدثك باني سأترك عمل استنساخ هذا الكتاب قبل أن أصل إلى نهاية الفصل الذي يستلزم الانتهاء من استنساخه نحو ساعة، أو أكثر، فلا تصدق ذلك.
وهكذا اضطر الضابط بداعي الاحترام إلى الانتظار حتى يتم الشيخ نقل هذا الفصل من الكتاب! ولقد كان الشيخ يجمع كتبه على هذا النحو من الحرص والاستمانة حتى أتم جمع تلك المكتبة النفيسة الثمينة".
وعن هذه المكتبة يقول جرجي زيدان "ومكتبة الشيخ عليّ بن الشيخ محمّد رضا الجعفري كاشف الغطاء وهي مكتبة قديمة حوت اُمهات الكتب، ويتيمات المصنفات، في نفائس العلوم، والفنون، وأكثرها مكتوب في العصور الخالية، ومن محتوياتها كتاب (مقاييس اللغة) الذي يطبع اليوم في مصر و (الطراز) للسيد عليّ خان في اللغة و (المجمل) لابن فارس، وغيرها وهي أكبر مكتبة في النجف".
وكان الشيخ عليّ من الهمة والنشاط بحيث لم يفتر عن: الاستنساخ والكتابة والتعليق على الكتب وتدوين الوثائق التاريخية وهو في أقصى حدود الشيخوخة، حتى استطاع أن يجمع هذا الكنز الثمين من الكتب النادرة التي انفردت بها مكتبته.
يقول الشيخ عليّ الشرقي "ولعشاق الكتب نوادر كثيرة في وادي غرامهم هذا، منها اني دخلت على أحد هؤلاء الغلاة في هذا المذهب، وهو الشيخ عليّ آل كاشف الغطاء في مكتبته الصغرى التي اقتصرت على ما ورّقه بيده، ونسخه بخطه، فوجدته جالساً على الأرض، وأمامه طاولة صغيرة عليها كتاب مفتوح ومحبرة، وقد شد على عضده مساطر خفيفة من الخشب شداً محكماً يمنع الرعشة التي في يده، لأنه شيخ وهنت قواه، وقد شارف على التسعين من عمره، وكان لابساً ثوباً سميكاً خصص للكتابة، تراه مخططاً بألوان، وألوان من مسح القلم، ورذاذه، وكان في يده قلم من الخيزران
القوي، وكان مشغولا بالنسخ فسألته عن عمر ذلك الثوب قال: بأن عمره يناهز السبعين وهو عندي أطيب من الغلالة التي يصفها الشاعر بقوله:
كاذيال خود أقبلت في غلالة
مصبّغة والبعض أقصر من بعض"(1) وحين توفي الشيخ عليّ تولى المكتبة الإمام الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء وقد بيعت بضع مخطوطات منها بعد وفاة الشيخ عليّ، ثم نالت هذه المكتبة من عناية الإمام كاشف الغطاء الشيء الكثير، وهو الذي أخرجها من حيز الملكية الخاصة، إلى المنفعة العامة، وأضاف إليها كتبه الخاصة وأفرد لها مكاناً في مدرسته الواقعة بمحلة العمارة بجوار مقابر آل كاشف الغطاء وعين لها مشرفاً، وأصبحت منذ ذلك اليوم وحتى هذا اليوم مرتاداً للباحثين والمؤلفين، والزائرين، الذين يؤمون النجف وهي مسماة باسم الإمام كاشف الغطاء لأنه هو الذي وقفها وجعلها وقفاً للعموم.
ومن هذه الرسالة التي أجاب بها الإمام الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء الشاعر القروي المتشبع شعره بالروح الوطنية حين كتب للإمام بأنه سيهدي ديوانه لهذه المكتبة نعرف مدى اعتزاز الإمام بالكتب النفيسة ثم نعرف نظرته لهذه المكتبة أو نظرة الناس لها على الأصح.
لقد كتب الإمام كاشف الغطاء إلى رشيد سليم الخوري الشاعر القروي يقول:
"أطلّت علينا منك يوماً سحابة بدا برقها يعلو وأبطا رشاشها
فلا غيمها يصحو فييأس طامع ولا ودقها يهمي فتروى عطاشها
عزيزي الشاعر القروي، بل شاعر الدنيا، بل شاعر الملأ الأعلى، أفليست هذه الدرر التي تنظمها في سلك العروض، والقوافي، والحكم التي ترسلها آيات باهرات في قوالب ألفاظ، تملك القلوب وتسحر الألباب، أليست هي وحي الملأ الأعلى، وعالم المثال، بل المثل العليا؟ أليست هي الحكمة المتدلية من أرواح الأزلية، وألواح الأحدية، (ومن يؤت الحكمة فقد اُوتي خيراً كثيراً) فإذاً الشاعر القروي هو الشاعر النبوي، والثائر العلوي، أتاني كتاب، نعم كان قد أتاني كتاب منك، وما هو بكتاب، بل هو على ايجازه، واعجازه، كتائب، كتائب عوارف، وسحائب معارف، بل عواطف، تعدنا فيه بارسال ديوانك ليس لنا بل لعامة اُدباء النجف، وإن شئت فقل لاُدباء الدنيا فإن (مكتبتنا العامة) هي للدنيا بل وللآخرة.
نعم وما أحلى المواعيد والأماني كما قال الشاعر: (أماني من ليلى حسان كأنما) الخ.. نعم ثملنا أو سكرنا بوعدك قبل أن نشرب الخمرة، أو قبل أن نراها، أو كما قال العارف للصوفي، أو كما فرض ابن الفارض (سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم) فنحن كما في الكلام الدارج: نشكرك سلفاً سواء وفيت، أو نفيت، وبررت بوعدك، أم أبيت، فإن كتابك يكفينا عن ديوانك، نجعله غرة ديواننا، وطرة عنواننا، ونحتفظ به كما تحتفظ الملوك بخزائنها، والأرض بمعادنها، فأسلم للعروبة والعبقرية والإسلام، و السلام، ولأبيك الروحي".
صدرمن مدرستنا العلمية 9رجب الأصم1373هـمحمدالحسين آل كاشف الغطاء والمكتبة تحتوي اليوم على عشرة آلاف مجلد يبلغ عدد المخطوط منها نحو (2100) مجلد وبين هذه المخطوطات كتاب (الحصون المنيعة) في طبقات الشيعة، بخط مؤلفه الشيخ عليّ كاشف الغطاء، مؤسس هذه المكتبة
الأول، وهو في تسعة مجلدات، يعد من أكبر وأهم المصادر لتراجم الرجال، وأحوالهم، وقد اعتمده كل المؤلفين الذين عنوا بتأريخ الأدب الحديث، وتأريخ البيوتات النجفية، وقد سأل منا مرة الإمام محمّد الحسين ما إذا كنا نستطيع الاشراف على تصنيفه، وتبويبه، لنتولى إخراجه كله أو استخراج مواضع مستقلة منه، فعظم علينا الأمر وتهيبناه. ومن أشهر ما احتوت عليه هذه المكتبة من المخطوطات هو:
1 ـ (سلوة العارفين واُنس المشتاقين) لمحمد بن الملك الطبري مخطوط يرجع تأريخه إلى 459 هجرية.
2 ـ (الأنوار النبوية في صحاح الأخبار المصطفوية) للحسن بن محمّد الصاغاني مخطوط يرجع خطه إلى سنة 692 هجرية.
3 ـ (المعرفة في اُصول الحديث) للحاكم ابن عبدالله صاحب المستدرك، مخطوط يرجع تأريخه إلى سنة 425 هجرية.
4 ـ (شرح الشاطبية) لمؤلفه محمّد بن مهدي مخطوط سنة 700 هـ تقريباً.
5 ـ (أنوار اليقين في إمامة أمير المؤمنين) لمؤلفه المنصور بالله أمير المؤمنين الحسن بن محمّد بن أحمد بن يحيى بن يحيى الهادي إلى الحق أحد اُمراء اليمن وقد فرغ من تأليفه سنة 1108 هجرية.
6 ـ (النهاية) لابن الأثير في باطن مدينة الموصل سنة 605 هـ وعليها خط المؤلف.
7 ـ (نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر) لضياء الدين بن يوسف بن يحي أحد أئمة الزيدية (جزءان).
8 ـ الإيمان من كتاب (الكافي) للكليني مخطوط سنة 708 هـ.
9 (مناقب أمير المؤمنين) لأحمد بن إسماعيل بن يوسف القزويني مخطوط سنة 805 هـ.
10 ـ (شرح المعالم) في اُصول الدين لمؤلفه فخر الدين الرازي مخطوط سنة 801 هـ.
11 ـ (تحفة الأزهار) للسيد ضامن بن شدقم. وهنالك عدد كبير من قواميس اللغة (كجوهرة القاموس) ليحي بن شفيع القزويني، ومن التفاسير (كالوجيز في تفسير القرآن العزيز) للشيخ عليّ العاملي، والدواوين الشعرية كديوان (الساعاتي) و (شرح ديوان المتنبي) لابن جني المخطوط سنة 700 هـ و (شرح ديوان المتنبي) للواحدي المخطوط سنة 750 هـ وعشرات المصاحف المخطوطة بالخطوط الفنية مما تنفرد بها مكتبة الإمام كاشف الغطاء.
عن موسوعة العتبات المقدسة