علي أبو الطحين
في يوم قائض من أيام شهر حزيران سنة 1996، كنت في لندن لزيارة مهرجان الكتب القديمة السنوي الدولي، حيث تقام عدة معارض للكتب النادرة والقديمة في غضون اسبوعين، وفي اماكن متفرقة من العاصمة البريطانية، يشارك فيها المئات من بائعي الكتب القديمة في بريطانيا، أضافة الى أخرين من مختلف البلدن الاوربية ومن امريكا و استراليا.
نظمت اوقاتي لزيارة ثلاثة من هذه المعارض، حسب الوقت المتاح لي. المعرضان الأول والثاني متقاربان في المكان وأعتدت زيارتهما، فالكتب فيهما ذات أسعار مناسبة، وأصبحت لي صداقات مع معظم البائعين المختصين بكتب الشرق الأوسط. أما المعرض الثالث، وهو ما أود أن أتحدث عنه، فهو من المعارض الفخمة، حيث الأسعار الملتهبة والخيالية، وتم تنظيمه في قاعة كبيرة في أحد الفنادق الراقية في ريجينت ستريت قريباً من ساحة البيكادلي في قلب لندن.
أختياري لهذا المعرض كان للأطلاع والتفرج أكثر مما هو للبحث عن كتب نادرة للأقتناء. فرواد المعرض اغلبهم من هواة الكتب الأثرياء، وحتى العارضين، فهم من مكتبات العالم المتخصصة بالتحف النادرة من الكتب والمطبوعات. فالزيارة لمثل هكذا معارض لا تختلف كثيراً عن زيارة المتاحف بحق، لما تراه من طبيعة الكتب المعروضة وطريقة عرضها.
أحد البائعين المختصين بكتب الرحلات كان يعرض كتاباً بحجم كبير، يفوق حجم الجريدة، وضعه مفتوحاً على مسند خشبي كبير، ما أذهلني ليس حجم الكتاب، وانما اللوحة التي فتح عندها الكتاب، لا أعلم أذا كان ذلك مقصوداً أم بالصدفة، كان الكتاب مفتوحاً على لوحة رائعة ملونة لطاق كسرى بواجهته الامامية الكاملة قبل سقوط الجزء الأيمن في منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر. أستأذنت من البائع لتصفح الكتاب، فرأيت عنوانه على الغلاف :”لوحات لمناظر في نينوى والبلاد المقدسة”وفي صفحة العنوان الداخلية،”لوحات بين الخليج الفارسي والبحر الأسود”للرسام روبرت كلايف، طبع الكتاب في لندن سنة 1852. ويحتوي على 24 لوحة فنية لمناظر من العراق وتركيا وسوريا، نصفها في العراق، فبالأضافة الى طاق كسرى، هناك لوحات لبغداد والموصل وكربلاء والعمادية والشيخ عادي وغيرها. سعر الكتاب كان فقط، ثمانية آلاف باون أسترليني (12 ألف دولار). وللمقارنة هناك نسخة معروضة اليوم للبيع في احدى مكتبات لندن بسعر ثلاثين ألف باون أسترليني (45 ألف دولار).
في حديثي مع البائع علمت أنه من يوركشاير، ولا يبعد بيته أكثر من ساعة بالسيارة عن بيتي، سألته أذا كانت لديه بعض الكتب عن العراق والشرق الأوسط للبيع، فسلمني قائمة لمجموعة من كتب الرحلات في مكتبته لم يأتي بها، فهي لا تليق بهذا المعرض الفخم، قائلاً : لعل في القائمة ما يفيدك.
في طريق العودة بالقطار كنت اتصفح مشترياتي من الكتب وقوائم الكتب والكتلوكات، فوقع نظري على كتاب مهم عن العراق في قائمة صاحبنا من يوركشاير، بعنوان”عبر خمسة ولايات تركية”ومؤلفه مارك سايكس، مطبوع سنة 1900. وكتاب أخر في القائمة أثار أهتمامي بعنوان”ذكريات جون كيتو”أعدها جونثان ريلاند وطبعت في سنة 1856. كنت أعرف ان هناك جون كيتو في بغداد بين سنة 1829 و 1832، في كتاب انثوني غروفز عن بغداد المطبوع سنة 1832، لكن يا ترى هل هو ذات جون كيتو في هذا الكتاب.
بعد أيام كنت في بيت بائع الكتب في يوركشاير، وأول ما تلقفت في يدي كتاب ذكريات جون كيتو، رحت ابحث في الفهرس عن بغداد، ولم يخب ظني، وجدت فصلا بعنوان”بغداد”في مائة صفحة، يسبقه فصل عن الرحلة من لندن الى بغداد، وبعده أخر من بغداد الى لندن.
كان جو كيتو قد قدم الى بغداد في نهاية سنة 1829، بصحبة طبيب الأسنان والمبشر أنثوني غروفز، ليكون مرافقاً ومعلماً لأولاده. قام غروفز بتأسيس مدرسة في بغداد للأرمن، وكان قد جلب معه مطبعة الى بغداد كما ذكر في ذكرياته، ربما هي أول مطبعة في العراق، لكن لا نعرف أذا كان قد طبع فيها شئ يذكر. ذكريات ورسائل جون كيتو من بغداد تصف فترة مهمة من حياة المدينة، حيث كان شاهداً على أكبر مأساة في تاريخها الحديث حينما فقدت بغداد ثلث سكانها في غضون ثلاثة اسابيع. تكدست فيها جثث الموتى في الشوارع بسبب الوباء، ثم حدث فيضان دجلة الذي سبب سقوط آلاف البيوت، وكانت المدينة فوق كل ذلك، تحت حصار الجيش العثماني بقيادة علي رضا باشا اللاز، الذي جاء للقضاء على المماليك في زمن داود باشا سنة 1831.
أما مارك سايكس، وهو ضابط في الأستخبارات العسكرية البريطانية، فيشمل كتاب رحلته الى خمسة ولايات تركية، رحلته الى بغداد قادماً من دمشق عن طريق حلب وعانه، يصف فيها بغداد بأنها أكثر مدن الشرق نظافة حين زارها في شباط سنة 1899، ومن بغداد رحل سايكس الى الموصل مروراً بكركوك. نسخة الكتاب هذه تعود الى مكتبة وزارة الدفاع البريطانية وهي مهداة من مارك سايكس الى رئيسه في الاستخبارات. ولابد من الأشارة الى ان مارك سايكس هو المفاوض البريطاني الذي عرفت بأسمه معاهدت سايكس-بيكو سنة 1916 التي قسمت الشرق الأوسط.
رغم مرور أكثر من عشرين عاماً على حصولي على هذين الكتابين، لم تقع في يدي، سوى نسخة واحدة أخرى فقط لكل منهما، فهما من نوادر الكتب العراقية.
رحلات مجهولة في العراق :
روبرت موني 1825
ضمن مجموعة كتب البرفسور روبرت مايكل بيرل، التي عرضت في مزاد سوثبيز الخاص بالكتب النادرة للشرق الأوسط في خريف سنة 1999، التي اشرنا اليها سابقا، كان هناك رحلة فارسية قام بها احد العاملين في شركة الهند الشرقية وأسمه روبرت قطن موني بعنوان،”جولة في بلاد فارس"، وهي مجموعة رسائل عن مشاهداته وانطباعاته كان يبعثها خلال طوافه في المدن الأيرانية في رحلة بين سنة 1824 و 1825.
تتضمن الرحلة ثلاثة رسائل للمؤلف من العراق، حيث كان في طريق عودته الى الهند، عن طريق كرمنشاه الى خانقين وبعقوبة، ثم الى بغداد ومنها أتخذ مركب نهري في دجلة الى البصرة.
وصل موني الى بغداد في منتصف نيسان سنة 1825، في عهد الوالي داود باشا، ووجد ان كل شئ فيها يختلف عما ألفه في بلاد فارس، فالبيوت تبنى من الطابوق الجيد، وبعضها من الراقي جداً، وترتفع في البناء الى ثلاث او اربعة طوابق، تدور حول باحة كبيرة وسط الدار، وأستغرب من النظافة بالمقارنة مما رأه في المدن الفارسية ربما باستثناء أصفهان. أستقر موني في القنصلية البريطانية، التي كانت برعاية الأرمني آغا سركيس، تحت إشراف المقيم البريطاني في البصرة الكابتن روبرت تيلر. تجول موني في أسواق بغداد الحديثة والمليئة بالبضائع. وعندما حل شهر رمضان بعد أيام من وصوله، رأى أن الأسواق تضاء في الليل، حيث تبدأ الحركة والضجيج بعد الإفطار. وبينما هو جالس في أحد المقاهي لشرب القهوة، بدأت فرقة موسيقية تصدح بالموسيقى والأغاني، وعلم ان هذه الأغنية كما قيل له هي في رثاء القنصل البريطاني كلوديوس جيمس ريج، بعد وفاته قبل بضعة أعوام، وهي احد الأغاني المفضلة لدى البغداديين، لما يكنون له من محبة!!
يصف لنا موني في رسائله من بغداد شئ من حياة الجالية الأوربية، وبين ان الأوربيين في بغداد يتزوجون في العادة من سيدات أرمنيات، ويعتقد أنهم بذلك يحصلون على المعلومات عن طريق زوجاتهم بشكل أفضل من القنوات الأخرى. ولاحظ أن أغلب هؤلاء الأوربيين تطبعوا بعادات وتقاليد البلد، فالنساء لهم جناحهم المعزول ولا يكشفون وجوههم الى الغرباء، وعلى العموم تعيش الجالية المسيحية بقيود التقاليد الإسلامية البائسة كما يقول.
يضع موني في احد الرسائل شئ من التفصيل لزيارته الى بيت أنطوان زفوبودا تاجر البلور الأوربي الذي قدم الى بغداد قبل بضع سنوات وتزوج من فتاة أرمنية تدعى يوفيمي مرادجان. يستغرب موني من تأقلم زفوبودا بالعادات الشرقية، فحين استقبله في بيته، لم يكن يرتدي لا القبعة ولا ربطة العنق ولا حتى معطف. وبعدما أدخله الى غرفة الاستقبال المطلة على باحة البيت، تقدمت زوجته تحمل له الجبوك للتدخين. كانت الزوجة مبهرجة بعمامة كبيرة متعددة الالوان ملفوفة على رأسها ومملؤة بالعملات الذهبية الصغيرة، تتراقص مع كل حركة من رأسها. وتضع على جسمها ثوباً طويل وجميل، مفتوح عند الذراع ومطوي الى الأعلى، وتتمنطق بحزام فضفاض مرصع كذلك بالعملات الذهبية اللماعة. بعد حديث قصير باللغة الفارسية التي تجيدها خرجت وأحضرت لهم القهوة ومن ثم الشربت حتى أنتهت الزيارة، ويعلق موني على النساء في الشرق قائلاً :”أنهم الى درجة ما عبيد، لكن بسحر عجيب، يتمتعون بذلك”.
خلال وجود موني في بغداد وصل قادماً من البصرة صديقه ألكسندر تيلر شقيق المقيم البريطاني روبرت تيلر وبصحبته زوجة القنصل تيلر واطفالها في طريقهم الى لندن. كان الكابتن روبرت تيلر قد تزوج فتاة أرمنية تدعى روزا موسكو خلال عمله في القنصلية البريطانية في مدينة بوشهر، وانتقل الى البصرة قنصلا سنة 1818 تحت ادارة المقيم البريطاني العام كلاديوس ريج في بغداد. وبمناسبة وصولهم الى بغداد نظم آغا سركيس، وكيل القنصل، حفلة على شرفهم. يقول موني كنت محظوظاً لحضور هذه الحفلة بصحبة ألكسندر تيلر، حيث حضرت مجموعة كبيرة من المسيحيات البغداديات السافرات بحضور راقصة ومغنية في تلك سهرة، ويستدرك لم تكن السيدات بذلك الجمال، ربما بسبب حبة بغداد التي تصيب وجوههم، ويقول كنت أتمنى أن أكون رساماً لأضع لوحة جميلة لهذه الحفلة.