غياب - رحيل ألفارو موتيس ألطف الرجال وفق غارثيا ماركيز القائل: إن الموت مسرح للدمى

غياب - رحيل ألفارو موتيس ألطف الرجال وفق غارثيا ماركيز القائل: إن الموت مسرح للدمى

رلـــى راشـــد
كاتبة لبنانية
"موتيس". كلمة واحدة أوردها الروائي الحاصل على نوبل الآداب، غبريال غارثيا ماركيز، على حسابه الرسمي على موقع"تويتر"، بعدما وصله خبر وفاة صديقه الكاتب. جاء ذكر إسم جدّ جيل"الفورة اللاتينية"ألفارو موتيس، عارياً من أي إضافات، كاستدعاء يقول عمق ندبة سيخلفها رحيله في جسد غارثيا ماركيز المتعب،

المنهك أصلا من صدمة رحيل رفيق عزيز آخر، الكاتب كارلوس فوينتيس قبل عام ونيف. جمع بين غارثيا ماركيز وموتيس ما يزيد على المجاملات اللفظية الخاوية، واتفقا على عدم تبديد الصلة الرفيعة القائمة بينهما في كلام فائض. لكن رحيل موتيس كسر ميثاق الصمت عفويّا، من طريق ما قلّ ودلّ، عبر كلمة انتحاب أفصح من المعلّقات.

تعرّف غبريال غارثيا ماركيز الى ألفارو موتيس في 1949 في كارتاخينا، وقد حمل القدر الكاتبين الكولومبيين بعد أعوام عدة الى المكسيك، كأن لا مفرّ من تعميق الودّ. وصل موتيس الى المكسيك في 1956 تطارده تهمة فساد ماليّة أدخلته الزنزانة، خمسة عشر شهرا، بينما وفد غارثيا ماركيز الى البلاد على متن القطار في 1961، قادما من الولايات المتحدة الأميركية. في المكسيك، وقد توطّدت علاقة موتيس بجاره غارثيا ماركيز أو"غابو"للمقرّبين، لتبلغ في مرحلة معينة أمكنة حيث يتّخذ الواقع أبعادا أدبيّة. يخضع غابو كل فصول روايته"مئة عام من العزلة"الآيلة الى التشكّل، لمصفاة ذهن موتيس الأدبي الحادّ، ليقرّ لاحقاً بأن ثمة جزءا محوريا من ألفارو، في جميع كتبه تقريبا. نمَت بين المؤلفين، صداقة وثيقة يبيّنها نص - تحية عنوانه"صديقي موتيس"حيث توجه غارثيا ماركيز الى موتيس بوصفه"ألطف رجال العالم"، في عيد ميلاده السبعين. في حين تمهّل موتيس عند الرابط الجميل المشترك عينه في نص"ما أعرفه عن غبريال"تضمّنته النسخة الإحتفائية برواية"مئة عام من الوحدة"في 2007، لمناسبة بلوغها عامها الأربعين وبلوغ صاحبها غارثيا ماركيز عامه الثمانين. نقرأ:"تشارَكنا أنا وغبريال ساعات كثيرة من السعادة الفائضة وأخرى من الشكّ والحرمان، لا تقلّ عنها عدداً. سافرنا الى ثلاث قارات، وتقاسمنا الكتب والموسيقى والأصدقاء. بدا كل ما اختبرته إلى جانبه جائزة إستثنائية في عتمة قدر الأيام". في 2001، عندما نال موتيس جائزة ثرفانتس المهيبة، صفّق له غارثيا ماركيز من دون أن تفوته الإشارة إلى"ان الإمتياز وصل إلى عامه السادس والعشرين، وهو يُمنح لموتيس إذاً، متأخرا خمسة وعشرين عاما!".
عندما سئل موتيس عن راهنه وعن صلاته بالماضي وإذا كنا نتعلّم منه، أكّد انه ينبغي لنا إنقاذ لحظات من طفولتنا، عبر إدخالها الحاضر. دعا الى أن يستعيد الراشد تلقائيةً فقدها، لعلّه يقبض على العالم ونداءاته. في ماضي موتيس الشخصي حيثيات تبدأ مع الولادة في بوغوتا في 1923 وتمرّ بالطفولة في بلجيكا قبل العودة الى مسقطه في 1932. لن يكمل قارئ الشعر النهم دراسته إنما سينصرف الى مجموعة من المهن"غير المحتملة"، وتلك كلمة عزيزة عليه، ستحلّ كلازمة في نصوصه. سيغيّر موتيس الأشغال كما يغيّر المرء الثياب، فيصير مذيعاً ثم وكيلاً إعلانياً لشركة"ستاندرد أويل"النفطيّة التي تتهمه باختلاس الأموال وتتسبب بحبسه، ليخرج من التجربة برواية"يوميات ليكومبيري"في 1960.
يستدعي كل تكريم ملائم للراحلين، القراءات البديهية والتمهيد لأخرى. ربما تكون أفضل طريقة للإحتفاء بموتيس بعد وفاته في عقده التاسع، التنقيب في حيوات هذا الكولومبي الحالم بالزوارق، المختلفة، كشاعر وناثر ومبتكر لأشكال تقع بين هذين النوعين الأدبيين. ارتبط قدره التأليفي بالسلسلة الروائية"ماكرول البحّار"خصوصا، وتلقّى منجزه الكتابي امتيازات عدة،"الجائزة الوطنية للآداب"في كولومبيا (1974)، وخافيير فيياوروتيا في المكسيك (1988) وجائزة"ميديسيس"في فرنسا (1989) و"جائزة أمير أستورياس"(1997) وسواها.
في مقال"حوار الطُرش"نشره في صحيفة"إيل باييس"في 1986، كتب ألفارو موتيس"على رغم كل ما قيل، لم يخلق الإنسان ليتصالح مع أشباهه. قدره أن يغدو أسوأ خصم للآخرين". الرأي بديهي إذا تأمّلنا من قرب، مسار شاعر الخيبة والمنفى موتيس، حيث الطبيعة المتمرّدة إستعارة عن منفى الناس الزمني. لم يلبث ماكرول الشخصيّة، أن يصير موتيس. جال العالم مثله وحيداً وتائهاً ودخل الموانئ والفنادق القذرة لينجو كقارب متهالك مأخوذ في رحلة بحرية أبدية، بين الجحيم والغبطة المنصرمة. ليس ماكرول المتخيّل موتيس فحسب، وفق ما قال غبريال غارثيا ماركيز، وإنما هو نحن جميعا. توزّع في أكثر من عنوان، ليصير محطّ اهتمام في التخييل خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية. بات هذا الرجل، نظير"ايل كيخوتي"، بدفع من مبادراته المبالغ فيها والمفتقرة الى الأمل، وتعاطيه مع القانون والموت فضلاً عن صداقاته وعلاقاته الغرامية غير المحتملة. لحق موتيس ببطله ماكرول في بحثه المستديم وغير المنتظم عن المطلق. وعلى غراره، جعل التناقضات والإلتباسات في المواقف العلنيّة، قراءة شعرية. والحال ان عمليه الأدبيين الأهم"الأعمال الضائعة"و"عناصر الكارثة"كانا في الشعر تحديدا، حيث بيّن قدرة على الإذهال وأتى بحكاية عياديّة عن العالم، وراح ينظر إليه بدءا من كولومبيا. دخل ماكرول القرن الحادي والعشرين بسهولة ليكمل السؤال عن ألغاز الحياة وتبدّلات الجسد واللقاء مع الآخر وهشاشة كل ابتكار. اخترعه موتيس ليواجه به فشل التاريخ. أقحمه في المتاهات الدنيوية ليخرج منها واعياً ان الموت مسرح للدمى.
تعامل موتيس مع كتبه كما مع أبنائه، أبقاها بعيدة منه، قبل أن يستنهضها لتعيش. حقّق منعطفاً أساسياً في القصيدة الكولومبية والناطقة بالقشتالية، ملقياً المرء في وسط المشاهد الإستوائية الطبيعية. دعا الشاعر في إحدى قصائده:"لتباغِتكَ المنيّة/ فيما لا تزال أحلامك متّقدة". التزم موتيس دعوته، فغاب ممتلئاً بالمرح والحيوية.

عن صحيفة النهار اللبنانية