غياب ألفارو موتيس.. رحــالـــة مــدن وثقــافــات

غياب ألفارو موتيس.. رحــالـــة مــدن وثقــافــات

لم يكتشف القارئ العربي الروائي الكولومبي الكبير ألفارو موتيس، إلا في عام 2005، حين ترجم له صالح علماني، رواية أولى (أعتقد أنها لا تزال وحيدة لغاية الآن) بعنوان «عبده بشور الحالم بالسفن» (دار المدى)، على الرغم من أن اسمه مرّ في واحدة من روائع روايات أميركا اللاتينية،

التي قرأها العرب بكثافة وهي «مئة عام من العزلة"لماركيز. إذ إن الروائي الكولومبي الآخر، صاحب نوبل للآداب، كان أهدى كتابه هذا إلى صديق عمره «موتــيس». بيد أن الاسم مرّ من دون أن يعلق في ذاكرتنا. «والأنكى"من هذا أن اسم ماركيز بالعربية، بقي تقريباً مسيطراً على «المخيلة العربية»، بمعنى أن النقد عندنا، حين يتحدث عن أدب أميركا اللاتينية الروائي، لا يذكر سوى ماركيز وربما اسمين آخرين، متناسياً أن تلك القارة الكبيرة، مليئة بكتّاب لا يقلون جدارة وجمالا عن هذه الأسماء القليلة.
في أيّ حال، لست في وارد «تأنيب"لا النقد ولا القارئ. بل أن أكتب عن موتيس الذي وافته المنية الأحد الماضي، عن تسعين عاماً، بسبب أمراض في القلب والتنفس، وهو الذي يُعد واحداً من قمم الأدب الأميركي اللاتيني.
قد تصح تسمية موتيس بأنه واحد من أولئك «الكُتّاب الرحالة»، وهو تعبير حاضر في جميع آداب العالم. إذ، هل نستطيع فعلا أن نقرأ هوميروس في «إلياذته"أو في «الأوديسة"من دون أن نفكر بهذه الرحلات التي قام بها أبطاله؟ هل كان «ابن بطوطة"غير هذا السابر لمناخات ولبلدان، متأملا فيها، محاولا أن يتماهى معها عبر الكتابة؟
المجــــــــاز
بالتأكيد، تطور مفهوم الرحلة والكتابة عنها في العصور الحديثة، لكن ثمة تساؤلا لا بدّ من أن يطرح، هل أن التعبير «الإعلاني»، المستعمل اليوم، في الكتابة الغربية تحديداً، يستدعي «مفهوماً» خاصاً لمعنى الكتابة أو «فكرة"تنم عن فاعلية حقيقية لدرجة أنها لا تحدد شيئاً ولكنها تحوي أمراً شاسعاً، ضبابياً، يطفو بدوره في محيط غير محدد السمات والمعالم؟ في العمق، أي كاتب لا تنطبق عليه صفة «الرحالة»؟ ربما غالبيتهم، قد حاولوا أن يقاربوا ويواجهوا «الهُنا» و«الهُنالك»، وبالطبع، لا تقاس جودة العمل أبدا بعدد الكيلومترات التي يقطعها المرء، سيراً على الأقدام أو على جواده أو في سيارته. لكن «سحر التعازيم"لا يزال ينهكنا لدرجة أننا نستمر في إفراد قسط من «الصدق» أو لنقل قسطاً من «العمق الميتافيزيقي» لذاك الذي يرى العالم من زاوية نظر ممنوعة على الذي يبقى مقيماً في مكانه ولا يبارحه.
ألفارو موتيس، يكتب من الطرف النقيض لهذا الاتجاه. فمن رحلاته المتعددة لا يحتفظ سوى بالمجاز الأكثر بداهة والأكثر شيوعاً، أي ذاك الذي يحمله إلى مسار الحياة: إلى إبحار غير مؤكد بما يحمله من سكون وعواصف، من شرود فوق اليم ووصول إلى مرافئه، من فرح اللقيا وبؤسها، من هذه الرغبة في التوقف والإبحار مجدداً... رحلة يعرف كل واحد منّا وجهتها الأخيرة، الجنوح النهـائي على مقعد رملي أو الغرق في عرض البحر. بهذا المعنى، يبدو هذا الاجــتياز، «اجتــيازاً دنيئاً» دوماً، مدمراً، بيد أن هناك دومـاً أيضاً العديد من الكائنــات الاستثنائيــة التي تملك القدرة والشجاعة على تحويل قدرها. إنها هذه الأرواح القوية التي تفرض أهميتها على ألفارو موتيس، لا اللوحات ولا البحار.
الفارو موتيس، شاعر قبل أن يكون روائياً، إذ تردد كثيراً قبل أن ينشر أعماله السردية التخييلية. أحد أول كتــبه «توقف ترام ستيمر الأخير"حمل الإهداء التالي: «إلى غ. غ. م. هذه القصة التي أرغب في أن أرويها له منذ زمن بعيد، بيد أن صخب الحياة لم يتح لي ذلــك». كان يتخيل نفسه إذاً مبدعاً القصص مثل معاصره الشهير غابرييل غارسيا ماركيز الذي يقول عنه «ذاك الذي أصبح معلماً من معلمي فن رواية الأشياء التي تحدث للآخرين»، هذه الأشياء التي حولت في عمله الأدبي.
صحيح أن الرواية «الحقيقية»، كما يقال عنها دائماً، ليست من أعماله. إنه أقرب من هوميروس ومن الأناشيد: سرديات صغيرة ومقاطع متمحورة حول شخص يعطيها وحدتها، في نهاية الأمر. في كلّ واحدة من رواياته/ «أشخاصه» يظهر لنا العديد من الأبطال الثانويين الذين، بدورهم، يصبحون نقطة الارتكاز في الروايات اللاحقة. ثمة وجه واحد نعود لنجده في كلّ عمل من أعمال الفارو موتيس، كما لو أنه أراد بذلك أن يسجل أمامنا البعد الملحمي، بُعد «ماكرول الغافيرو»، بطل عدد من كتبه، أو لنقل هذا الشخص الذي يأتي من لا مكان، الأشبه بعوليس ولكن من دون إيثاكا، التائه بخياره الشخصي، الذي «تغذى"بقناعة واحدة «أن كل شيء قد ضاع من دون أثر ومنذ الأزل».
عبده بشور أو «الحالم بالسفن» شخصية معروفة عند قراء موتيس. إذ هو حاضر منذ «المغامرة"الأولى، أي منذ كتاب «ثلج الأميرال»، هو الرفيق الذي لا يفترق بتاتا عن ماكرول الغافيرو، صاحب المغامرات الأكثر صعوبة والأكثر فروسية. حتى انهما، أي عبده وماكرول، تقاسما ذات يوم حب امرأة واحدة، حب إيلونا، تلك المرأة التي تحرق «الحياة نفسها بجميع أشكال اللهب».
إلا أنّ بشور، شخص مخالف لماكرول. إنه اللبناني الذي «تربى بتآلف مع القرآن»، وهو الذي ينادي بشكل «شبه نبوي بهذه القدرية المعكوسة»، إذ كان يؤمن بأنه لا يزال علينا القيام بكلّ شيء بعد، وبأن الآخرين هم الذين يفقدون كل شيء. هؤلاء الآخرون الحمقى المتعذر استردادهم، الذين يفخخون العالم بجدلهم البدائي وبتخلفهم المموه. انه رجل مشاريع، جميع أنواع المشاريع حتى أكثرها استحالة والتي يرمي بنفسه داخلها لاعتقاده أنه إذا امتنع عن القيام بذلك فهذا معناه الاقتناع بأن ننهزم أمام الموت. كان شخصاً يحتقر القوانين (ربما لأنه لبناني؟)، لأنها ليست سوى نتاج الخوف والضعف وعوارض الهزيمة التي تقبلناها. لا يحب المال لكنه يرغب في ضمّ كل المال التي أعطتنا إيّاه الحياة. ففي هذه المباراة التي خاضها ضد الخضوع بدا المال بمثابة لوحة كان يسجل عليها النتيجة.
شفافية
حكايا موتيس مكتوبة بشفافية. إنها عن كائن أشبه بالأساطير إذ تعرف كيف ترتفع فوق الكارثة المشتركة، وتعرف كيف تفرض قانونها على هذه اللعبة غير المحددة التي تغير قواعدها في كل لحظة، ونميل عادة إلى تسميتها بالقدر. من هنا حين يروي عنها، فكما لو أنه يكتب عن سير قديسين، عبر لوحات متفرقة. إذ ثمة متعة تجدها في النص، في كتابة هذه «الأسطورة المذهلة. عبقريته في السرد والقص تشبه هذه العجينة الرقيقة، الناعمة، الخفيفة، التي يحصل عليها وهو يعجن كل كنوز حكايات الأدب الكوني. وكما أن كل شخصياته موجودة في كل مكان، من سان بطرسبرغ إلى سيدني ومن فانكوفر إلى بور سعيد، نجد الكاتب، ومن دون أن يكتب ذلك مطلقاً، وهو «يؤرخ"ويعلق على أوروبا القروسطية، على الروايات «البروتونية»، على القصص «التوسكانية»، على الأساطير الهندية كما بالطبع على الخبريات العربية، كي يجدد في كل لحظة هذه السعادة في القراءة.
هذه المهارة في مزج الأشياء، هذه الأمكنة الفريدة، هذه الألوان والحقب، هذه الثقافات المختلفة تعطي لعملية السرد هذه العجينة المتفردة. يستطيع موتيس بالطبع أن يستدعي عالم اليوم، تكرير النفط، هذه المدن المنذورة إلى خراب المخدرات، أوهام الطموح والرغبات التي ترسمها التكنولوجيا عبر»الكومبيوتر»، إلا أن لا عمر لقصته، أو لنقل يشبه عمرها هذه المحيطات التي يبحر عبده بشور فوق مياهها، وهو هذا الرحالة الأبدي الذي يسير في قافلة، هي منذ بداية الإنسانية، لا تنتهي في شق طريقها من دون أن تعرف لماذا ولا إلى أين.

عن جريدة السفير اللبنانية