مغامرات مقرول لألفارو موتيس

مغامرات مقرول لألفارو موتيس

راجعها:جون أبدايك
ترجمة: نجاح الجبيلي
إن الشاعر وكاتب النثـر “ألفارو موتيس” الذي ولد في “بوغوتا” ونشأ في بروكسل وأقام في نيومكسيكو، والملتزم بكسب العيش لا بد من أنه غالباً ما يأسف على الساعات العديدة التي قضاها في السفر إلى الموانئ الكئيبة يلقي تحيات غريبة حين كان مديراً للعلاقات العامة في شركة “ستنادرد أويل” في كولومبيا ثم عمل لمدة ثلاث وعشرين سنة في مكسيكو سيتي

في مصانع الإعلام كمدير للمبيعات في أقسام التلفزيون لعدة شركات للأفلام في هوليود. ومع ذلك فبدون هذه المهنة المتنقلة أنى له أن يتيح مثل هذه الثـروة الغريبة من التفاصيل المتعلقة بالبحر والملاحة والأرصفة والفيض الهذياني من التفاصيل الجغرافية والطهوية التي أضفت سحراً ورنيناً كونياً إلى حكاياته التي هي بطول الرواية القصيرة (النوفلا) عن الحارس “مقرول”؟
هذه الحكايات، المنتجة باندفاع من وحي مؤجل حين كان موتيس في الستين من عمره، قد أعطت له مكانة عالمية، وفي عام 2002 حصل على جائزة “نوشدادت” للأدب. وكتب مغامرات “مقرول” السبعة المنشورة بشكل منفصل (وحين كان في التاسعة والسبعين أعلن عن العمل على القسم الثامن) وقد جمعت عام 1993 بعنوان “ مغامرات مقرول “ وترجمتها إلى الإنكليزية “ أديث غروسمان” “ وصدرت عن (دار نشر “ نيويورك ريفيو بوك”).
إن هذا المجلد الضخم الورقي العلاف، بمقدمة محكمة لفرانسيسكو غولدمان، لها تأثير مهدئ للكلاسيكية المولودة حديثاً “دون كيخوته” تتحرك شخصيتها المركزية الظليلة بشكل مسلّ والمتماسكة على نحو عنيد، حول الكرة الأرضية إلى حد ما مثل “الفارس ذو السيماء الحزينة” وهو يجتاز سهول أسبانيا.
يوظف موتيس تنويعاً مذهلاً لنسيج السرد وستراتيجياته وهو يلاحق حوادث ذات غرابة كونرادية. ويشمل المنهج السردي، كالذي لكونراد، بصورة رائعة جمع قصة متماسكة من وثائق متفرقة وإشاعات بعيدة وسرديات ثانوية مصاغة بإحكام على شرفات مدارية. ومع ذلك ينكر “موتيس” أي تأثير من كونراد ذاكراً بدلاً منه “بروست” و “ديكنز” كونهما ملهمين رئيسيين له ويستشهد غولدمان بقوله “ التأثير الحقيقي هو مؤلف ينقل بطاقة ورغبة قوية ليحكي قصة وهذا لا يعني أنك تريد أن تكتب مثل “ديكنز” بل بالأحرى حين تقرأ “دكنز” تشعر بطاقة تصويرية تستعملها لنهاياتك الخاصة” إن مشكلة الطاقة، في عصر ما بعد الحداثة الأضعف هذا، تظل تنشأ في ملاحقة “ موتيس” للشخصية الحرة الغامضة الظليلة الجذابة بشكل يتعذر تفسيره، وواسع المعرفة على نحو مرتجل. إن مقرول بحار متواضع له معارف طموحون على الأرض، وهو جوّال يميل إلى فقدان الاهتمام بمغامراته قبل أن يصل إلى النتيجة.
القراء الذين اطلعوا بصورة خفيفة على حداثة أمريكا اللاتينية سيصغون إلى أصداء النذر الكونية لبورخس وبراعة خوليو كورتاثار المتشظية وتشاؤمية مخادو دو أسيس الهشة وشيء حماسي منحرف في زميل موتيس الكولومبي وصديقه الحميم غابرييل غارسيا ماركيز – حس بالاتساع الكريم كما يحدث حين يجلسنا مضيّف رسمي لتناول الغداء مزود بالمؤن لتمتد الجلسة حتى المساء. إن أوصاف الأطعمة التي تؤكل والشرابات التي تشرب بين ازدهار الخبرة الطعامية الكوزموبوليتانية هي مألوفة لدى موتيس – حتى لو جاع الزاهد المتقشف مقرول. قد يتذكر الأمريكان ملفيل – وهو قضية ارتباط أكثر منه تأثير.تعني كلمة “غافيرو” في الأسبانية “ الحارس”؛ مقرول كان وحيداًً كصبي في سنواته الأولى في البحر- “ عليّ أن أرتقي إلى قمة الصاري الأطول وأخبر الطاقم ماذا كان في الأفق “ – وإسماعيل أيضاً كان رجلاً ماهراً ويشعر بنفسه “ فوق الأرصفة الصامتة بمئة قدم يخطو على طول المحيط وكأن الصواري ركائز عملاقة” ويفكر ملياً مع نفسه في “ مشكلة الكون”. وكلا الكاتبين، خلال ذاتيهما الأخريين المسافرين، ينظران بعناد إلى كون ما، على الرغم من أنه خلو من الرب ظاهرياً، إلا أنه مازال يبدو طافحاً بالمعنى الميتافيزيقي الغامض.ويفكر إسماعيل قائلاً:” شيء من الدلالة المعينة تكمن في كل الأشياء، وإلا فإن كل الأشياء تساوي لا تساوي إلا قليلاً والعالم المدور نفسه ليس سوى صفر فارغ”.
بدأ موتيس شاعراً وحتى نشر حكايات مقرول كان معروفاً على الرغم من أن صوته في المكسيك كان يذاع بصورة واسعة. وعلق بصوته في النسخة الأسبانية للمسلسل التلفزيوني “ المنبوذون”. ظهر مقرول كشخصية في قصائد موتيس حين كان الشاعر في التاسعة عشرة وكان له حضور دائم في شعره منذ ذلك الحين. ووفق لموتيس أدرك حين كان ينقح الترجمة الفرنسية لقصيدة النثر المعنونة “ ثلج الأدميرال” بأنها “ لم تكن قصيدة بل قطعة من الرواية” و “ بحس عال بالضعف يواصل كتابة الرواية ويرسل مخطوطاتها من ثلاثمائة صفحة لوكيله في برشلونة مع التنازل عن الحق، يستحق حياء مقرول “ لا أعرف أي شيطان هذا”. كان يكرر التأكيد بأنها كانت ببساطة “ رواية مدهشة تماماً” و خلال خمس سنوات أنتج أكثر من ستة كتب عن مقرول.
في الواقع إن “ ثلج الأدميرال” أشبه بقصيدة ومن بين جميع تلك الروايات القصيرة فهي الأشد كثافة وسريالية منها في أجوائها. يبدأ المؤلف بالوصف التفصيلي المهيب لكيفية التقاط طبعة جميلة معروضة في مخزن للكتب في برشلونة من مجلد من القرن التاسع عشر عن اغتيال دوق أورليان والعثور في جيب في الخلف على خرائط وجداول الأنساب وعدد من الأشكال التجارية الوردية والصفراء والزرقاء المغطاة بالكتابة الصغيرة جداً “ إلى حد ما اعتقدت أنها كتبت بيد مرتجفة ومحمومة بقلم قرمزي متعذر محوه “ مسوّدة أحياناً بلعاب المؤلف”.تدل الوثيقة المتصدعة مذكرات مقرول التي حفظت حين رحل إلى نهر زوراندا بزورق بخاري يسير بالديزل مسطح القعر. إن القبطان في هذه المهنة الخيالية وهو يندب سيدة مفقودة يبقي نفسه شبه ثمل؛ ميكانيكي القارب هو هندي صامت؛ و سيماء الربان وإشاراته وصوته وميزاته الشخصية الأخرى تحمل درجة مثالية من عدم الوجود بحيث لا يمكن أن تبقى أبدا في ذاكرتنا”. المسافر الآخر الوحيد هو “عملاق أشقر هادئ يعلك بضعة كلمات بلهجة سلافية غير مفهومة تقريباً. ويستهلك باطراد تبغ كريه اشتراه له الربان بسعر باهظ”. يتجه مقرول إلى بعض المنشرات المروجة للإشاعة بعيدا عند اعلى النهر ما وراء المنحدر الغادر حيث كان يأمل أن يرتب نقل وبيع قطع الاشجار اسفل النهر. ويظهر المشروع بلافائدة بقدر ما هو غامض. يقول لنفسه: هذه الكوارث وهذه القرارات الخاطئة منذ البداية وهذه النهايات الميتة التي تؤلف قصة حياتي تعاد كرة بعد أخرى. مهنة متحمسة من أجل السعادة دائماً مخادعة ومضللة وتنتهي بالحاجة إلى هزيمة كاملة، إنها غريبة تماماً إلي، في قلب أعماقي.