من دفتر الصحفي الراحل عبد القادر البراك

من دفتر الصحفي الراحل عبد القادر البراك

في مساء يوم الجمعة المصادف 22 شباط من عام 1924 جرت في بغداد أول عملية اغتيال سياسي في تاريخ العراق الحديث إذ بينما كان السيد توفيق الخالدي متوجها الى داره سيراً في احد ازقة مجلة جديد حسن باشا اعترضه شخص مجهول واطلق عليه اربع عيارات نارية أردته قتيلا في الحال وعند وصول الشرطة إلى محل الحادث


ومشاهدة المجني عليه تقرر نقله الى المستشفى لاجراء الكشف الطبي عليه وبعد اتخاذ الإجراءات المطلوبة تبين ان الجاني اطلق عياراته من الخلف فاخترقت ظهره ومزقت قلبه وقضت عليه في الحال وان الاطلاقات كانت من عيار 9 ملم ولم يعلن عن الحادث إلا بعد مرور يومين على أمل العثور على الفاعل ولكن جهود التحقيق ذهبت سدى ولم يلق القبض على الجاني وسجل الحادث ضد مجهول.

تركي الهوى.. جمهوري النزعة
أما المغدور السيد توفيق الخالدي فقد كان شخصية معروفة لدى الأوساط البغدادية بثقافته العالية وسعة اطلاعه يتكلم الانكليزية والفرنسية والتركية وكان ضابطا في الجيش العثماني ثم اختير نائبا في مجلس "المبعوثان" عن ولاية بغداد وقد عاد إلى العراق بعد سقوط الدولة العثمانية وأشيع في حينه انه كان تركي الهوى جمهوري النزعة رغم صلته القوية بالمندوب السامي البريطاني في بغداد مما قلب عليه أعوان الملك فيصل الأول فاخذوا يكيدون له المكائد وقد أدى ذلك الى حرمانه من التمتع بالمنصب الوزاري عندما شكل السيد عبد الرحمن النقيب أول وزارة في تاريخ العراق الحديث في شهر تشرين الأول من عام 1920 ويقال أن السير برسي كوكس طلب إسناد وزارة الداخلية الى الخالدي لكن الملك فيصل الأول عارض ذلك واكتفى بتعيينه بمنصب متصرف لواء بغداد (محافظ) وعندما شكل النقيب وزارته الثانية في أيلول عام 1921 ظل الخالدي خارج الوزارة رغم ميل الانكليز له ولكن الفرصة حانت عندما استقال خمسة وزراء لخلافهم مع الملك فيصل كان من بينهم وزير الداخلية فاسند المنصب إلى توفيق الخالدي في 1 نيسان 1922 لكنه لم يستمر في منصبه سوى أربعة أشهر فقط إن قدم استقالته إلى في 3 آب قائلا لرئيس الوزراء (إني رأيت منذ عشرة أيام ظهور علائم الوهن في المملكة المتسبب في عدم اتساق العلامات والمؤدي إلى مشاغبة المتطرفين) وما لبثت الوزارة الا أن استقالت برمتها فعهد الملك الى عبد الرحمن النقيب بتشكيلها للمرة الثالثة وتم ذلك في 20 أيلول عام 1922 وعهد هذه المرة بوزارة العدلية الى توفيق الخالدي وعندما استقالت هذه الوزارة في 16 تشرين الثاني عام 1922 لم يتبوأ الخالدي أي منصب وزاري إلى يوم مقتله.
نظرا للعلاقة غير الودية التي كانت تربط توفيق الخالدي بالملك فيصل الاول فقد اشيع في حينه ان الملك اصابه الهلع من الصلة الوثيقة التي كانت تتنامى باضطراد بين توفيق الخالدي وبرسي كوكس فأدلى بمخاوفه إلى جعفر العسكري (رئيس الوزراء) و(نوري السعيد) وزير الدفاع واتفق الثلاثة على وجوب التخلص من الخالدي وتولي نوري السعيد مسؤولية التنفيذ فاتفق مع كل من شاكر القره غولي وعبد الله على اقتراف الجريمة التي تمت مساء يوم 22 شباط 1924 وكان لتستر الحكومة على ملابسات الحادث اثر كبير في ترويج مثل هذه الإشاعة وهكذا سجل أول حادث اغتيال سياسي في تاريخ العراق الحديث ضد مجهول وأغلق التحقيق.

نقل يؤدي إلى تمرد
تولى السيد توفيق السويدي رئاسة الوزارة للمرة الثالثة في 5 شباط عام 1950 وقد اسند منصب وزير الداخلية إلى صالح جبر وكان اللواء على خالد الحجازي يشغل منصب مدير الشرطة العام.
وهو ضابط سابق في الجيش العثماني خدم العائلة الهاشمية منذ قدومها الى العراق لاسيما الوصي الامير عبد الاله الذي كان يقدر موقف اللواء الحجازي أثناء حوادث مايس 1941 ولهذا فقد أصبح مدير الشرطة العام شخصية ذات نفوذ وهيبة يحذره المنتفعون ويخشاه المتملقون للوصي حفاظا على نفوذهم وحرصا على منافعهم.
ومما زاد في اكتساب الحجازي نفوذا ووجاهة ما تتخذه من إجراءات قاسية ورادعة ضد معارضي النظام وتوجيه مفارز الشرطة للفتك بالتظاهرات التي كان يقوم بها الوطنيون لاسيما الطلاب وقد شجعه اطلاعه على مجريات التحقيق الذي كانت تمارسه مديرية الشرطة العامة ضد أصحاب المنشورات السرية إلى إصدار نشرة لاقت رواجا.
يقول رئيس الوزراء توفيق السويدي انه أثناء قيامه بالمنشورات لتشكيل الوزارة تردد اسم صالح جبر لتولي وزارة الداخلية ولما علم الحجازي بذلك صار يحاول بشتى الوسائل للحيلولة دون مجيئه للداخلية، أما ما هي تلك الوسائل التي استخدمها مدير الشرطة العام فان رئيس الوزراء لم يفصح عنها ويظهر أن صالح جبر على علم بمحاولات الحجازي تلك فأسرها في نفسه لحين سنوح الفرصة المناسبة فلما جاءت تلك الفرصة بتشكيل الوزارة واستحواذه على منصب وزير الداخلية وهو المركز الذي يؤهله لان يكون الرئيس المباشر لمدير الشرطة العام عرض على مجلس الوزراء فصل مدير الشرطة العام من الخدمة ويظهر ان اقتراحه لم يلق تجاوبا من زملائه لوزراء بسبب نفوذ الحجازي وصلته بالبلاط الملكي فاكتفلا بنقله إلى متصرفية محافظة السليمانية ولما وصل خبر النقل إلى أسماع مدير الشرطة العام وكان يقضي ليلته في ملهى سليكت انتقل فورا إلى دار احد أصدقائه واخذ يحتسي المزيد من الشراب وهو في حالة تأثير شديد ومما زاد من تأثيره وهيجانه تمريض بعض الأشخاص الذين كانوا متواجدين في دار صديقه، وتأكيده بان سلامة المملكة مقترنة بوجوده على رأس الشرطة العراقية وعند حلول منتصف الليل أتجه نحو الهاتف وطلب رئيس الوزراء توفيق السويدي الذي كان يغط في نوم عميق في داره وقال له إذا لم يخرج صالح جبر من الوزارة غدا فإنني سأقوم بانقلاب..
ثم توجه مباشرة إلى معسكر الشرطة السيارة في الصالحية واخذ يصدر أوامره لجمع قوات الشرطة وتهيئتها للحركة أما رئيس الوزراء فقد اتصل بمقر إقامة الوصي في قصر الرحاب وطلب تبليغه بما يجري ثم اتصل بوزير الداخلية ووزير الدفاع لوضع الجيش في بغداد بالإنذار أما الأمير عبد الإله فقد بعث بمرافقة العقيد عبيد عبد الله المضايفي إلى مقر مدير الشرطة العام في محاولة لثنيه عن عزمه وفي الساعة الثالثة من فجر يوم 12 شباط 1950 عاد مرافق الوصي إلى القصر مصطحبا معه مدير الشرطة العام اللواء علي خالد الحجازي فاصدر الوصي أمره باحتجازه في إحدى غرف الحرس الملكي وعندما طلب الحجازي مواجهة الوصي امتنع الأخير وأمر باتخاذ الإجراءات القانونية ضده وقد تم تقديمه في ما بعد إلى محكمة الجزاء الكبرى التي أصدرت حكما بسجنه لمدة ثلاث سنوات وبعد تسعة أشهر قضاها الحجازي في السجن استحصل نوري السعيد الذي اصبح رئيسا للوزراء إرادة ملكية بإعفائه عما تبقى من مدة محكوميته.

جريدة البلد
كانون الاول 1965