من ذكريات محمود صبحي الدفتري* ..إنارة بغداد في العهد العثماني

من ذكريات محمود صبحي الدفتري* ..إنارة بغداد في العهد العثماني

كان المستر اوستن ايستوود من البريطانيين المعروفين في المحافل الاجتماعية في بغداد . جاء الى العراق في الحملة العسكرية خلال الحرب العظمى الأولى ، ثم انصرف بعد الهدنة الى الأعمال الاقتصادية ، فأسس اول محلج آلى حديث للقطن سنة 1920 ، وشجع زراعة هذا المنتوج بمنح القروض للزراع وايجاد اسواق خارجية للتصريف .

وكان رجلاً دقيقاً غريب الأطوار شديد الاعتزاز بنفسه ، وكان صديقاً حميماً لمحمود صبحي الدفتري الذي يشبهه في الدقة ومراعاة اصول " الاتيكيت "وحب المناقشة والكلام .
الدفتري واوستن ايستوود

كيف تعارف الصديقان ؟ كان محمود صبحي يجلس لأصدقائه ومحبيه في سنة 1919 و 1920 في الساحة المقابلة لدار ابيه في الزقاق المسمى باسم جده " ابراهيم افندي " في الحيدرخانة. فكان الخدم يرشون الساحة بالماء عصر ايام الجمعة في الصيف ويضعون فيها الكراسي والموائد ، ويهيئون القهوة و الشاي للزوار من " الهاي لايف " في المجتمع العراقي.
ولما كان الزقاق ضيقاً لا يتسع للمارة فقد كان احد الخدم يقف في منعطف الطريق ويرجو الناس ان يتحولوا في سيرهم الى عطفة اخرى.
وحدث ان ارسل اوستن ايستوود بعض خدمه في مهمة خاصة، فلما جاء ليمر بزقاق ابراهيم افندي رجاه خادم محمود صبحي ان يمضي في طريق اخر.
ولم يكن من الرجل إلا ان عاد الى سيده الانكليزي واخبره ان احدهم منعه من المرور في الطريق ليصل الى المحل الذي يبغيه. واخذت المستر ايستوود العزة وصاح: كيف يجوز لأحد ان يقطع الطريق على المارة في بغداد تحت الحكم البريطاني العادل؟. واخذ عصاه واعتمر قبعته ومضى يتقدمه خادمه ليؤدب المذنبين.
وحينما بلغ الزقاق المقصود وهو يحتدم غيظأ قوبل باحترام واخذ الى صاحب الديوان المعقود في الطريق الذي رحب به واجلسه في صدر المجلس. وتم التعارف على قدح من القهوة فعقدت اواصر الصداقة بين " الجنتلمان " الانكليزي والوجيه العراقي.

فوانيس بغداد

ذكر محمود صبحي الدفتري انه يتذكر ، وهو غلام يافع ، ان خاله رفعت الجادرجي ، وكان رئيس بلدية بغداد انذاك ، قرر ان يتفقد البلدة ليلاً . فاستدعى مساعده وعدداً من موظفي البلدية والمراقبين والحراس فاجتمعوا في داره في الليلة المقررة ولما اقترب منتصف الليل خرج الموكب يتقدمه حملة المشاعل والفوانيس النفطية وسار في الطرق الملتوية والازقة الضيقة المملوءة بالحفر والاخاديد كانت بغداد في مطلع القرن العشرين تهجع في الظلام يكاد يكون دامساً، لايشقه إلا ضوء ضئيل من الفوانيس التي ثبتت على جدران المنازل في مسافات متباعدة. وكان المستخدمون المعنيون لهذا الغرض يخرجون كل مساء حاملين السلالم ووعاء النفط فيمرون بالازقة ويضعون النفط في الفوانيس ويوقدونها .
وكان نورها من الخفوت بحيث يضرب البغداديون بها المثل قائلين: مثل فوانيس البلدية ما تضيئ إلا نفسها.
ولم يكن في بغداد أي شارع يستحق هذا الاسم ، اذ ان اول شارع قد شق خلال الحرب العظمى بامر الوالي خليل باشا وافتتحه رئيس البلدية رؤوف الجادرجي ( ابن رفعت الجادرجي) في 23 تموز 1916 ، وهو الذي سمي في بادئ الامر جادة خليل باشا وعرف بعد ذلك باسم شارع الرشيد . وكان اهل بغداد يعودون الى دورهم قبل حلول الظلام، فاذا اضطر احدهم الى الخروج ليلاً لشأن مهم ، حمل الفانوس بيده او حمله امامه بعض خدمه اذا كان من الموسرين.
وسار رفعت الجادرجي في الازقة تتبعه حاشيته، فتقد الفوانيس النفطية التي لم تكن تضيئ سوى نفسها - كما كان يقال- ولاحظ الحراس الذين كانوا يسهرون في منعطفات الطرق، ودوريات "البوليس" القليلة التي كانت تعقب السراق والمجرمين. ثم عاد الى داره في الهزيع الاخير من الليل.
وظلت جولة رئيس البلدية حديث العام والخاص اياماً طويلة وعدت حدثاً ذا شأن قليل النظير!.
وقد وصف بغداد ذلك العهد الشاعر عبد الحسين الأزري فقال:
يريبك من بغــــداد ضيـق دروبهـا
كانـك تمشـي في دهـاليز مــن غار
وتزداد منها في دجى اللـيــل ريبـة
فلست ترى من مأمن خارج الدار
مصابيحــها ترنو اليك كانهــــا
عيون سنانير يفتشن عن فار
وقال معروف الرصافي :
أيا سائلا عنا ببــغداد اننــــا
بهائم في بغداد أعوزها النبت
علت أمة الغرب السمـاء وأشرفت
علينا فظلنا ننظر القوم من تحت
فنحن أنــاس لم نزل في بطالة
كانا يهود كل ايامنا سبت
وقال أيضاً يصف الشارع الكبير ببغداد:
نكـب الشاعر الكبير ببغداد (م)
ولا تمش فيه الا اضطرارا
شـــارع ان ركبت متنيه يوماً
تلق فيه السهول والأوعارا
تترامى سنـابك الخيل فيـــه
ان تقحمن وعثه والخبارا
فهي تحثو التراب فيه على الأوجه (م)
حثـــواً وتقــذف الأحــجــارا…

عزل مؤسس مدرسة الحقوق
كان ناظم باشا رئيس الهيئة الاصلاحية من رجال الدولة التركية البارزين بالرغم من صغر سنه ، اذ لم يكن بتجاوز عمره حين قدم العراق 45 عاماً . وقد اقترح تأسيس مدرسة حقوق ومدارس اخرى ، وطلب عزل واليي الموصل والبصرة ونقل والي بغداد ، فنفذت مقترحاتها جميعاً.
وكان والي البصرة انذاك ينتمي الى اسرة مرموقة ترتبط بوشيجة المصاهرة مع الاسرة العثمانية المالكة، وكان ابوه من الصدور العظام. لكن هذا الوالي الشاب كان مرتشياً لا يعبأ بالقانون ولا يخاف العقاب وكانت زوجته فرنسية. وقد استطاع خلال اشهر قليلة من مكوثه في البصرة ان يجمع 25 الف ليرة ذهب. واقترح رئيس الهيئة الاصلاحية عزله. فعزل بالرغم من نفوذ عائلته.
ورد امر عزل الوالي من استانبول برقياً عشية عيد جلوس السلطان عبد الحميد ، فذهب مدير البرق اليه ليبلغه بالعزل . فقال له الوالي : ان غداً عيد الدولة ويجب علي ان احضر مراسيم الاحتفال باسم السلطان، فارجوا ان تحتفظ بالبرقية الى ظهر الغد فتبلغني بها بعد انتهاء التشريفات . ووافق مدير البرق على ذلك .
واسرع الوالي المعزول فعمل الترتيبات اللازمة للسفر على باخرة انكليزية تقلع من الميناء ظهيرة الغد. وفي الصباح ارسل زوجته وامتعته والليرات الذهبية الكثيرة سراً الى الباخرة اما هو فلبس بزته الرسمية وتقلد اوسمته وترأس الاحتفالات عيد الجلوس. وتقبل تهاني الموظفين والاهلين في السراي، ثم مضى الى الميناء لتحية القوة التركية البحرية. ولما انتهى من ذلك استقل زورق الولاية البخاري مع مرافقيه وحاشيته ، وبدلاً من العودة الى البصرة امر الملاح بالتوجه الى الباخرة البريطانية وقال لاصحابه وهو يهم بالصعود اليها: انني قد عزلت من الولاية، وفي وسعكم تسلم البرقية من مدير البرق. فاستودعكم الله ، فانني مسافر على هذه الباخرة عائداً الى بلادي.
ولكنه لم يرجع الى استانبول بل ذهب الى مصر عن طريق بمبي ، واقام فيها متمتعاً بثروته المحرمة .

الشاعر عبد الحق حامد

كان عبد الحق حامد قد تزوج في شبابه " فاطمة " وانجبت له ابنه حسين بك ، ثم توفيت في ريعان الشباب في بيروت فحزن عليها حزناً شديداً ونظم في رثائها ديواناً كاملاً من الشعر الشجيّ باسم " مقبر " (المقبرة ). ( ترجم قسماً من هذا الديوان الى العربية الاديب الكركوكي فهمي عرب اغا وطبعه كراريس في بغداد سنة 1953). ومضت الاعوام ، وعين عبد الحق سفيراً للدولة التركية في بروكسيل ، فالتقى بفتاة فرنسية جميلة واقترن بها على كبر . وجاء بها الى الاستانة فكانت ربة داره وسلوى ايام شيخوخته.
كانت هذه الفرنسية اللعوب (لوسيين) متحررة في بيئة متزمتة لا تستسيع تلك الحرية وفي دار رجل له مكانته في قومه شاعر وسفير سابق ونائب لرئيس مجلس الاعيان . فقرر اصدقاء الرجل ، وفي طليعتهم سليمان نظيف ، ان ينبهوه الى مسلك قرينته ويسالوه الحد من تحررها . فزاروه في داره وفاتحوه في الامر ، لكنه وهو الاديب المرهف الحس الذي عاش في اوروبا سنين طويلة ، لم يكترث بتحذيرهم واعارهم اذنا صماء . فقرر سليمان نظيف ان يمتنع عن زيارة عبد الحق حامد في داره لانه طعن في ربة البيت. ولما كان لا يستطيع الصبر عن لقائه ، اتفق معه ان يجتمع به مرتين في الاسبوع في بعض المقاهي الراقية .
وفي ذات يوم جاء نعي حسين بك نجل الشاعر العظيم من واشنطن ، وكان قنصلاً عاماً لتركية فيها ، فذهب محمود صبحي لتعزيته ، قال : وجاءني سليمان نظيف وسالني ان اذهب الى عبد الحق وادعوه الى بيته كي يقدم تعزيته اليه اذ قد حرم على نفسه زيارته في داره . وكان كذلك ، فمضى عبد الحق بصحبه الدفتري الى دار سليمان نظيف ليتلقى تعزيته في نجله ! .
ودارت الايام دورتها واحتل الحلفاء الاستانة وسرح رجالهم وضباطهم في ربوعها. وتعرفت زوجة عبد الحق حامد باحد الضباط الايطاليين من النبلاء الاغنياء واتت الى زوجها الشيخ في بعض الايام وقالت : انك ولا ريب تحبني وتريد لي الخير. قال: اجل .
_اذن اسمح بطلاقي لاتزوج الضابط الايطالي الشاب الذي يحبني ويستطيع اسعادي اكثر منك .
ولم يتلكا الشيخ في اجابة سؤالها فتم الطلاق والزواج ، وسافرت الى ايطاليا مع قرينها الجديد. ولم تمض اشهر قليلة
حتى وردت الى عبد الحق دعوة من زوجة السابقة لقضاء اسابيع في قصرها الجميل على البحيرة ، فشد حقيبته ولبى دعوة مسروراً.
ثم مضت شهور اخرى ، وتلقى الشاعر خطاباً من زوجه السابقة تقول انها شقية تعسة وانها ترغب في الرجوع الى عصمته والعيش بقربه عوداً على بدء ، فهل يرضيه ذلك ؟ . نعم ، لقد كان ذلك يسعده ويرضيه !. وانه لمنظر رائع يجل عن الوصف ان ترى الشيخ الوقور، مرتدياً بدلة " الردنكوت " وحاملاً باقة الورد، يقف باسم الثغر ، محني الظهر ، في محطة القطار ليستقبل زوجته العابثة العائدة.
وقال للذين لاموه على ما فعل : " اذا عشتم جيلاً او جيلين اخرين فلن تلوموني ، بل ترون الامر طبيعياً ! . "
وتوفي عبد الحق حامد سنة 1937 ، فاكرمت الجمهورية التركية ذكراه ، وخصصت لارملته الفرنسية " لوسيين " راتباً خاصاً واحاطتها بالرعاية اللائقة بمن كانت زوجة اكبر الشعراء الترك في العصر الحديث.
ولقد كان عبد الحق حامد من رجال الدولة المرموقين خدم في المناصب العامة حقبة من الدهر الطويلة ، لكنه كان مع ذلك كثيراً ما تتغلب عليه بوهيمية الشاعر . فقد افضى الى محمود صبحي انه احتاج الى النقود في بعض الايام وهو سفير في بروكسيل على عهد السلطان عبد الحميد الثاني فباع وسامه المرضع بالماس ليحصل على مال يفرج عنه الضيق. وساله الدفتري وهل علم السلطان بذلك ؟ فقال: نعم ، لقد علم بالامر بعد حين فامر بان امنح بديلاً عنه .

* توفي الدفتري في اواخر سنة 1979