مع العلامة الدكتور مصطفى جواد..في دائرة الآثار العامة

مع العلامة الدكتور مصطفى جواد..في دائرة الآثار العامة

(1942 - 1948)
سالم الآلوسي
مؤرخ وآثاري عراقي
اتسعت شهرة العلامة الدكتور مصطفى جواد في الاوساط الرسمية والشعبية لمنزلته العلمية العالية، وثقافته الموسوعية ولهذا دعي لتعليم الملك فيصل الثاني من عام 1942 حتى 1948 وقد بدأ تعليمه في السنة السابعة من عمره، وعلمه القراءة والكتابة، قال العلامة جواد: "

ولصعوبة الجمع بين التدريس في دار المعلمين العالية وتعليم الملك الصغير – كما يقول – طلبت ان انقل الى مديرية الآثار، فنقلت الى وظيفة ملاحظ فني، ثم رأيت سوء الادارة فيها وبقاء راتبي المالي على حاله رجعت الى دار المعلمين العالية وبقيت الى ان انشأت جامعة بغداد – وسميت هذه الكلية باسم كلية التربية".
شارك الدكتور مصطفى جواد مشاركة جادة خلال عمله في مديرية الآثار العامة مؤرخاً، باحثاً ناقداً ومحققاً فكان من ابرز اعضاء هيئة تحرير مجلة "سومر" العلمية الآثارية التي كانت تصدرها المديرية المذكورة منذ عام 1945، ومن يتصفح فهارس المجلة يجدها حافلة بابحاث الدكتور جواد ومقالاته وتعقيباته ونقداته وهي على درجة عالية من الرصانة ودقة البحث، وله الفضل في حذف كلمة (القديمة) من اسم مديرية الآثار القديمة، لكون الآثار تصف بالقدم، والاكتفاء بدائرة أو دار الاثار.
زيارة الملك فيصل للآثار:
حدثنا الدكتور جواد: "كان خلال تعليمه الملك فيصل الثاني اللغة العربية والتاريخ يأتي له ببعض الامثلة والشواهد التاريخية الخاصة بتاريخ العراق، وكان يرغبه في زيارة الآثار، فاستجاب جلالته لهذه الرغبة حيث قام بزيارة المتحف العراقي يوم 6/12/1945 اعقبها بزيارة الى دار الآثار العربية في خان مرجان يوم 13/12/1945 وكان يرافقه الامير رعد نجل الامير زيد ورئيس المرافقين لجلالته العقيد عبد الوهاب عبد اللطيف كان في استقبال الملك هيئة برئاسة الدكتور ناجي الاصيل مدير الآثار العام، والاساتذة : طه باقر امين المتحف العراقي، والمستر سيتون لويد، المشاور الفني في مديرية الآثار العامة، والدكتور مصطفى جواد الملاحظ الفني فيها، والسيد داود ضياء المسؤول عن ادارة متحف الاثار العربية، والسيد سالم الآلوسي دليل المتحف (كاتب المقال).
كان دخول الملك من باب دار الآثار العربية في خان مرجان في شارع السمؤال وهي باب مستحدثة، فالباب الاصلية تقع في سوق الاقمشة بدلالة الكتابة التاريخية التي تعلو المدخل.
تولى الدكتور ناجي الاصيل تقديم نبذة مختصرة عن الدول والسلالات التي حكمت العراق بعد سقوط الدولة العباسية، وهم الأيلخانيون 656 – 738 هـ، ثم جاء بعدهم الجلائريون من 738 – 814 هـ وبعد الجلائريين حكمت اسر ودول التركمانية القره قوينلو والاق قوينلو آخرها الدولة العثمانية التي انتهى حكمها للعراق باحتلال الجيش البريطاني بغداد عام 1917 بعدها التفت الدكتور الاصيل نحو الدكتور مصطفى جواد طالبا منه الكلام عن تاريخ الخان الذي تم تحويله بعد صيانته وترميمه الى متحف يضم الآثار العربية.
استهل الدكتور جواد كلامه عن الجلائريين واهتمامهم بالعمران ومن آثارهم ببغداد المدرسة المرجانية التي شيدها امين الدين مرجان على عهد السلطان الشيخ اويس الجلائري عام 758 هـ (1356م)
وتعرف المدرسة هذه الايام بجامع مرجان وفي هذه المدرسة تولى عدد من علماء الاسرة الالوسية التدريس فيها.
اما هذه البناية التي تعرف بخان مرجان، فهي من اوقاف المدرسة المرجانية وقد تم بناؤها عام 760هـ (1358م) وتعرف بالتركية بـ(خان الاورتمة او الاورطمه) اي الخان المستور او المسقوف، وكان البناء بمثابة قسم داخلي لطلاب المدرسة وفندق يؤمه التجار وارباب الاموال والبضائع للبيع والشراء، وكانت مديرية الاثار العامة قد تسلمته من مديرية الاوقاف العامة واصلحته وجعلته دار للاثار العربية والاسلامية التي تضم مجموعة نفيسة من الاثار من بينها تلك التي اكتشفتها دائرة الاثار في كل من الكوفة التي بناها القائد العربي سعد بن ابي وقاص، ومدينة واسط التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي في سنة 83 هـ، والاثار المكتشفة في سامراء، عاصمة العباسيين الثانية بعد بغداد، وحتى شيدها الخليفة محمد المعتصم بن هرون الرشيد، وهناك مجموعات متفرقة من الآثار المصنوعة من الخشب والمعدن والفخار والحجر ومن المنسوجات المطرزة والمكتوبة ، ارجوا مولانا جلالة الملك ان يتفضل بمشاهدتها.
حب ماء: تجول الملك والامير رعد في قاعات العرض وقد تناوب الكلام وشرح الآثار والمعروضات الدكتور الاصيل والدكتور جواد، وعند دخولهم قاعة الاواني الفخارية، جلب نظر الملك فيصل جرة كبيرة أو (حب للماء) مزينة بالزخارف والنقوش البارزة الجميلة فالتفت تحو الدكتور الأصيل مستفسراً فاجابه: يا سيدي هذا نوع نفيس من الاواني الفخارية تتميز بالكتابة والنقوش الناتئة وهو ما يعرف عند مؤرخي الفنون الاسلامية بـ (البار بوتين) وكان يحلي هذا الاناء بيتان من الشعر بالخط النسخي الناتيء فاستوضح عن فحواها ومعناها وهنا جاء دور الدكتور جواد فانحنى متفحصاً مدققاً قارئاً وبعد هنيهة قال: يا سيدي هذا شعر يعبر عن حال هذا الحب وكيف استقر به المقام في بيت أهلٍ للفضل والكرم بعد معاناة ومكابدة!
انا حب للماء في شفاء
ورواء للوارد الضمآن
نلت هذا عند الكرام بصبري
يوم القيت في لظى النيران
فضحك جلالة الملك ومرافقوه واثنوا على براعة الدكتور جواد في قراءة النصوص وبعد التجوال دخلوا قاعة المعروضات المعدنية، وكانت تضم آثاراً من النحاس والبرونز كالاواني والقدور والاباريق والكؤوس والصواني وغيرها، اشار الدكتور جواد الى اثر معروض مصنوع من النحاس غريب الهيئة والشكل، قائلاً: هذه ياجلالة الملك اداة من ادوات العلم والادب وتسمى (المقلمة) وهي عبارة عن دواة او محبرة الصقت بجسم مستطيل لحفظ الاقلام. وكانت هذه الاداة يحملها العلماء والشعراء والكتاب واصحاب الحاجات في حلهم وترحالهم، يضعونها في احزمتهم عند الانتقال مشياً او ركوباً، ويستعملونها بعد وضع الحبر في الدواة لمباشرة الكتابة. ومن الطريف يا صاحب الجلالة ان شاعراً من الشعراء نظم ثلاثة ابيات من الشعر جعلها لغزاً (حزورة)، يقول الشاعر:
وساكن بيتٍ طعمه عند رأسه
اذا ذاق من ذاك الطعام تكلّما
يقوم ويمشي صامتاً متكلماً
ويرجع للبيت الذي منه اطعما
فليس بحي يستحق كرامة
وليس بميتٍ يستحق الترحما
وكثير ممن يستمع الى هذه الابيات يستعصي عليه فهم المراد وصفه وهو القلم الذي يقوم ويمشي صامتاً متكلماً، ويرجع للبيت اي للمقلمة – اما طعامه فهو الحبر الذي يحفظ في الدواة وموضعها عند رأس القلم بعد الانتهاء من الكتابة.
والمقلمة: يا سيدي هي موضع ومكان حفظ الاقلام ومثلها.
المدرسة: مكان الدرس
والمأذنة: مكان الاذان – المنارة في المساجد.
والمبخرة: مكان البخور
والمملكة: مكان اقامة جلالة الملك
وكانت ايضاحات وشرح الدكتور جواد موضع اعجاب والتقدير الحاضرين المرافقين لجلالة الملك.
ولم يكتف الدكتور جواد بذلك فهمس قائلاً للدكتور الاصيل: مولانا الاستاذ – اما كان الاحرى بالقائمين على شؤون المتاحف والآثار ان يطلقوا كلمة (المأثرة) على المتحف، لانها المكان المخصص للآثار؟
فرد عليه الدكتور الاصيل قائلاً: ولكن كلمة المتحف ابلغ واجمل لانها مكان حفظ التحف، بعدها هرع الحضور لتوديع جلالة الملك.