العلامة توينبي في مدينة النجف

العلامة توينبي في مدينة النجف

■ سالم الالوسي
باحث ومؤرخ
في عام 1949 طلبت وزارة المعارف (التربية) اليوم من الاستاذ السيد طه باقر امين المتحف العراقي أن يتولى تعريب موجز كتاب دراسة في التاريخ للمؤرخ البريطاني ذي الشهرة العالمية العلامة (ارنولد توينبي) صاحب المواقف الشريفة المناصرة للقضايا العربية.

فيلسوف عظيم
وكان الكتاب الاصل يتالف من عشرة اجزاء ضخمة اختصرها بجزئين الاستاذ دي. سي سمرفيل وهو غير سمرفيل الذي عمل مستشارا في وزارة المعارف العراقية في الثلاثينات وقد عكف طه باقر على تعريب الجزئين الموجزين لسمرفيل على مدى أربع سنوات معززا الترجمة بالمواشي والتعليقات المفيدة ودفعه للطبع استجابة لطلب وزارة المعارف وفي صيف عام 1954 طلب الاستاذ باقر مني معاونته في الاشراف على طبع الكتاب واعداد الفهارس له فاضطلعت بالمهمة وتم الفراغ من طبعه في بداية عام 1955 حيث تم طبع الجزء الاول في مطبعة التفيض الاهلية والجزء الثاني في مطبعة المعارف واقولها للحقيقة انني استفدت فائدة عظيمة من خلال مراجعتي تجارب الطبع واعداد الفهارس واعجبت اعجابا كبيرا بالمؤلف العلامة توينبي الذي يعد من اعاظم المؤرخين في العصر الحديث ولم يكن مؤرخا حسب بل فيلسوف عظيم قامت دراساته على أساس الناحيتين المادية والروحية التي تناول فيها بالتحليل الفلسفي العميق والمقارنة الدقيقة الشاملة بدايات الحضارات البشرية الكبرى وتطورها وانهيارها.

قوانين جديدة للحضارات
وقد انفرد العلامة توينبي دون سائر المؤرخين المعاصرين باستنتاج قوانين وقواعد جديدة لمسيرة تلك الحضارات ونموها وانحلالها نذكر منها قانون التحدي والاستجابة في نشوء الحضارات وقانون الاعتزال والظهور في الظاهرة الاجتماعية التي يسميها بالابداع مما يقوم به الافراد المبدعون او الاقليات المبدعة. ودستور الهزيمة ولم الشعث في الحالة التي يطلق عليها اسم ايقاع الانحلال الى غير ذلك من غرائب الاستنباطات وتتجلى قدرته الفذة في استخدام حوادث التاريخ البشري منذ أقدم عهوده وفي مختلف ادواره وموضوعاته باساطيره وادابه واديانه وغير ذلك من المعلومات التاريخية والعلمية والدراسات الفلسفية والمعارف الادبية.

دراسة في التأريخ
وعلى هذا الاساس يعد كتابه دراسة في التاريخ موسوعة عظيمة من انفس ما أنتجه الفكر الغربي المعاصر في فلسفة التاريخ وتاريخ الحضارات.
وليس غريبا أن يحتل هذا الكتاب هذه الاهمية البالغة التي دفعت المسؤولين بوزارة المعارف الى تعريبه ليطلع عليه المؤرخون والمثقفون واهل العلم والمعرفة فقد امضى العلامة توينبي اربعين عاما (1921-1961 لانجاز موسوعته الضخمة المؤلفة من عشرة اجزاء وبعد صدورها اضاف اليها جزئين اخرين خصصهما للرد على خصومه ونقاده من المؤرخين والكتاب الغربيين ممن جندتهم الدوائر الصهيونية لنقده والتشهير به والتحلمل عليه بسبب انتقادات توينبي للحضارة الغربية عامة والحركة الصهيونية واليهودية كظاهرة شاذة متحجرة خاصة ولمواقفه النزيهة الجريئة هذه ولتعاطفه مع القضية العربية ومناصرته للقضية الفلسطينية وهي قضية العرب المركزية اقيمت لذكراه مهرجانات وندوات في عدد من الاقطار العربية منها الاحتفال التكريمي ببغداد في خريف عام 1977.

3 ملايين كلمة
تتألف المجلدات العشرة من كتابه من 6290 صفحة وعدد الكلمات يقدر بثلاثة ملايين ومئة وخمسين الف كلمة تضاف الى ذلك مجموعة من فهارس الكتاب تشغل 322 صفحة واكثر من عشرين الف تعريف.
رب سائل يسأل وماذا عن نشأة هذا المؤرخ المنصف وسيرته؟ نقول ولد العلامة توينبي في عام 1889 وتوفي في اواسط السبعينات شغل وظائف عدة ابرزها استاذ التاريخ الدولي بجامعة لندن ورئيس الدراسات في المعهد الملكي الانكليزي للشؤون الدولية وهو مؤسسة غير رسمية اسست عام 1920 لتشجيع الدارسات العلمية والقضايا المتصلة بالشؤون الدولية ولشهرته العالمية واهمية دراساته ومؤلفاته كانت الجامعات والمجامع العلمية والمؤسسات التاريحية والمنتديات الثقافية تتسابق في توجيه الدعوات اليع لالقاء المحاضرات واجراء المناظرات وثد تسنى له زيارة اغلب لاقطار العربية كان خلالها موضع التقدير والاحترام وكان لايكتم اعجابه بالحضارة العربية الاسلامية وبعدها من الحضارات الاصيلة المؤثرة في الحضارات والمجتمعات البشرية وهو معجب أشد الاعجاب بالمؤرخ العربي ابن خلدون.

عندما زار النجف
هذه معرفتنا الأولى بالمؤرخ العلامة توينبي اما اتصالنا به شخصيا فقد حصل في اواخر شهر آذار مارس منذ عام 1957 كنت اتولى خلالها مهمة رئيس هيئة التنقيب الاثاري في الكوفة التي كانت تقوم به دائرة الاثار العامة العراقية في موقع دار الامارة الواقع خلف مسجد الكوفة التاريخي، حينما حضر الى مقر الهيئة الاستاذ مهدي هاشم قائممقام النجف الاشرف وبصحبته الاستاذ نعمان امين رئيس بلدية الكوفة وأخيرا الهيئة بان الدكتور ناجي الاصيل مدير الاثار العام اتصل بالقائممقام هاتفيا واعلمه بان المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي سيزور الكوفة والنجف غداً. ورجانا أن نتهيأ لاستقبال الضيف فتشكلت هيئة استقبال من الاساتذة السادة مهدي هاشم ، الحاج محمد سعيد شمسه رئيس بلدية النجف، نعمان أمين، عادل ناجي الدكتور في ما بعد عضو هيئة التنقيب في الكوفة وكاتب المقال.
وفي الصباح اليوم التالي استقبلنا العلامة توينبي عند جسر الكوفة وكان يرافقه كل من الدكتور عبد الجبار الجلبي العضو الاجرائي في مجلس الاعمار العراقي والاستاذ طه باقر معاون مدير الاثار العام وبعد استراحة قصيرة في مقر هيئة التنقيب قام بزيارة المعالم الاثارية والمشاهد التاريخية في دار الامارة وبيت الامام علي عليه السلام ومرقد ميثم التمار وموقع كري سعدة.
توجهنا بعدها الى النجف الاشرف حيث امضى قرابة ثلاث ساعات زار خلالها المدارس الدينية وعددا من المكتبات واعجب بنفائس المخطوطات فيها، كما التقى عددا من العلماء.