من مفكرة مصطفى علي لسنة 1956

من مفكرة مصطفى علي لسنة 1956

اعدها: عبد الحميد الرشودي

الاستاذ مصطفى علي (ت 1980) قد اودع الكثير من اوراقه ومخطوطاته لدى الاستاذ عبد الحميد الرشودي الذي لم يتوان في نشرها وتقديمها للقراء ومنها يوميات مصطفى علي لسنة 1956 ونقتطع هنا بعض ما ورد في تلك اليوميات.


وفاة عبد القادر المغربي
قرأت في صحف هذا اليوم (9/حزيران/1956) نبأ وفاة العلامة اللغوي الاديب المفسر عبد القادر المغربي فالمني جدا. عرفت الراحل الكريم بمؤلفيه: البينات، والاخلاق والواجبات، وفي صيف 1931 عرفني به الرصافي بدمشق في دار المجمع العلمي، وكان نائب رئيسه ، ثم جرت بيني وبينه مكاتبات في فرص مختلفة.
وهو الذي كتب مقدمة لديوان الرصافي الذي طبع ببيروت سنة 1931 واهدى لي مؤلفه الثمين: تفسير جزء تبارك. ان فقده خسارة لا تعوض. كان الرصافي يحترم المغربي وله فيه شعر وفي مقدمة كتابه (الآلة والاداة) اثنى على كتاب المغربي: (الاشتقاق والتعريب) فشوقني هذا الثناء الى البحث عن الكتاب فلم اظفر به. وفي صيف 1931 تجرأت فطلبته من مؤلفه فنفحني بنسخة منه.

مقارنة بين الزهاوي والرصافي
الزهاوي انيس في مجلسه، مالم يجر ذكر للشعر والشعراء، فهو خفيف الروح، حسن النكتة، ذكي الفؤاد يهزل ويعبث فاذا ذكر الشعر والشعراء فما اسرع ما ينقلب الى منفعل في شعره ويستحيل ذكاؤه الى شيء اخر فلا يفهم إلا مدحه واطراء شعره، وان كان في معرض الاستهزاء فيتقبل المدح من اي انسان مهما رسخت قدمه في الجهالة، فانت ادب اذا اثنيت على شعره، وانت جاهل اذا انتقدته هذا مقياس حكمه على النفس.
والزهاوي لا يقر بالشعر والشاعرية لاحد سواء من الشعراء المعاصرين، وقد يستحسن ابياتا للقدماء وله مجموعة سماها "عيون الشعر" اختارها من شعر اولئك الشعراء. اما الشعراء المعاصرون فلا. واذا اعلن انه يستحسن شعرا لهم فانما هو يدافع النفاق. واذا روبت امامه شعرا قديما او محدثا تستجيده اجابك. عندي مثله واحسن منه وروى لك من شعره ما قد يكون بعيدا كل البعد عما رويت!
والرصافي بعكس الزهاوي جدي في مجلسه قليل الكلام. واذا تحدث فلا يسمعه غير القريب منه. يكره الثناء الصادر من متزلف او من البعيد عن تذوق الشعر والادب وكثيرا ما زجر اناسا من هؤلاء حين سمعهم يمدحونه او يطرون شعره.
اما اذا جاءه الثناء من اهله فانه يهتز له ويرتاح. وما كان يبخس الشعراء اجاد لهم في شعرهم اذا اجادوا.

حفلة مدرسية
في ربيع 1921 احتفلت مدرستا الثانوية والحيدرية بمناسبة انتقالهما الى بناية المدرسة المامونية بالميدان التي كان يشغلها الجيش البريطاني المحتل ورؤى ان تقام الحفلة في سطح المدرسة بالنظر الى الموسم فلم يوافق المهندس البريطاني بحجة انها توهن السطح وتفضي الى سقوطه.
ان سبب المنع سياسي، لان بغداد كانت قريبة عهد بالحركة الوطنية واقامة الحفلات في الجوامع وبالتصفيق الذي كان يمزق اهاب السكون في الليالي فيقع من المستعمر وقوع الصاعقة فحاذرت السلطة المحتلة ان تعيد هذه الحفلة الى الاذهان ذكرى تلك الحفلات ولاسيما تصفيق الاستحسان الذي يبتعثه من الحاضرين خطيب موفق او شاعر مجيد.
كان الزهاوي احد الشعراء الذين اختارتهم ادارتا المدرستين فجرى امامه ذكر الحجة التي احتج بها المهندس لمنع اقامة الحفلة في سطح المدرسة فقال قائل: ان المهندس غير مخلص وغير صادق في تقريره والا فلا خوف على السطح بنسبة تسعة وتسعين من المئة فاجابه الزهاوي، وشبح الموت يتراءى له ليكن ما اراد المهندس فلعل الواحد يتغلب على التسعة والتسعين!!
في هذه الحفلة انشد الزهاوي قصيدة فلكية طويلة وهي الهمزية التي يقول في مطلعها.
انت مما تبدينه من صفاء
ياسماء العراق خير سماء
* وانشد الرصافي قصيدته، نحن والماضي، وهي اول قصيدة انشدها ببغداد بعد عودته اليها من القدس فكان لها وقع شديد وقامت عليه قيامة الصحف منددة به زاعمة انه يروم قطع الصلة بماضينا. وفي مطلع العام الدراسي الجديد صارت تحفظ للتلاميذّ!!
حدثني الرصافي قائلا: جئت ذات يوم الى داري فرأيت سلمان الشيخ داود قد سبقني اليها وبيده صحيفة يطالعها، فقلت له: ماذا تقرأ؟ فاجاب قصيدتك، نحن والماضي، فسألته: انت اول من هاجمني في الصحف عندما انشدتها قبل سنوات ما رأيك فيها الان؟
فاجاب، انك على حق يا استاذ وقد اصبحت اول مؤيديك فيما ذهبت اليه.

هواية موسيقية:
نشات شديد الرغبة في ان اتقن الضرب على آلة موسيقية، ولاسيما العود، لانها الالة المفضلة عندي ولو ساعدت الايام لبرعت في هذا الفن كل البراعة وتفوقت كل التفوق.
لقد حاولت في عهد الشباب ان اتعلم استجابة لتلك الرغبة النفسية فاشتريت عودا وتقدمت تقدما نال اعجاب معلمي.
كنا نسكن في حي "قنبر علي" من احياء بغداد القديمة في زقاق غير نافذ من ازقته، ومثل هذا الزقاق بحكم العادات والتقاليد الموروثة بمثابة دار والدور التي فيه بمثابة غرف فكانهم ابناء اسرة واحدة تعيش في دار واحدة يتأثر بعضهم ببعض ارادوا ام لم يريدوا.
ان الظروف التي كانت تكتشفني عرقلت مساعي وافسدت علي خطتي ومنهاجي، وصرت كلما قطعت شوطا في تلقن ذلك الفن عرض ما ادى الى ان اهجره مدة انسى خلالها ما تعلمت فاعود من جديد.
فقد صادف اثناء تعلمي ان توفي احد الجيران او الاقرباء فتركت العزف حدادا عليه مدة طويلة لا تقل عن ستة اشهر وما اكاد اعاود بعدها الا وافاجا بموت آخر حتى ضقت ذرعا ووهبت احد الاصدقاء ذلك العود لينقذني منه ومن شؤمه!..

مكتبتي
لي مكتبة هي كل ما املك من حطام الدنيا تضم اكثر من خمسة الاف كتاب ولكنها الان، مجمدة، لامجال للانتفاع بها.. وذلك ما يغيظني ويريبني في ان دواب الارض عاثت بها فسادا؟
الذي يخفف قليلا من الشجن هو انني لست بصدد مراجعتها الان بسبب ما صبته الحياة من بلاء على رأسي فابعدتني عنها. والجاتني الى الاشتغال بالقضاء والانغماس في منازعات الناس وخلافاتهم ومصاحبة الجرائم والمجرمين.
عينت حاكما بالبصرة سنة 1950 فذهبت وحيدا وتركت المكتبة ببغداد وصادف ان انتقل اهلي من دارهم الاولى الى دار بنوها في الصليخ ولما نقلوا المكتبة كدسوها فجعلوا عاليها سافلها وما وضعوا منها في الخزائن فعلى غير نظام.. ان ما في مكتبتي هذه ليس كل ما شريته من الكتب فقد خسرت منها الشيء الكثير ولا ابالغ اذا قلت : ان ما فقدته منها يعد بالمئات فقد كنت لا ابخل باعارة كتبي لمن يروم مطالعتها.

الموظفون بين عهدين
جرى ذكر الموظفين وسلوكهم فامضى الحديث الى المقارنة بين هؤلاء المفروض فيهم ان يكونوا في منزلة اعلى من الماضين لانهم نالوا قسطا من الثقافة في هذا الزمن الذي فاق ما قبله علما وثقافة ومدنية فاتفقت الكلمة على ان الذين اضطلعوا بالوظائف في بدء الحكم الوطني كانوا ارجح، واقدر على الحكم، واعف يدأ.
كنا ننتقد اولئك فنسميهم انقاض الدولة العثمانية ونروم ان نستبدل بهم شبابا مثقفا دارسا مخلصا لامته لينهض بالبلاد ويسير بها قدما حتى تتبوأ مكانتها السامية بين امم العصر، وتجارب العالم في مضمار الحياة فاذا بالنشيء يكذب ظننا ويسلك سبيل التخنث والاستهتار سعيا وراء الترف الممقوت.
اذ ذاك ذكرت على سبيل المثال ثلاثة متصرفين في بدء الحكم الوطني وكانوا من رجال الجيش العثماني وهم: عارف قفطان، ومحمود السنوي، وعبد الرزاق حلمي وهؤلاء لم اسمع عنهم ما يمس نزاهتهم، ويزري بعفتهم . وعرفوا بحسن الادارة وان كان عبد الرزاق حلمي شديدا عنيفا..
اما عارف قفطان فقد اشتهر بالصراحة، وحب الخير للناس كان متصرفا في لواء العمارة (محافظة ميسان) وكلفه الملك فيصل الاول ان يتساهل مع احد الشيوخ ويتغاضى عما تراكم عليه من الضرائب فابى كل الاباء لان تساهله هذا يؤدي الى تمرد الاخرين فتصاب ادارته بالشلل.
واما محمود السنوي فقد كان متصرفا للواء الرمادي (محافظة الانبار) وهو صديق حميم للرصافي، وكانت الحكومة القائمة يومئذ ارادت ان تحول دون انتخاب الرصافي نائبا فابى الا ان يفي ولصديقه ويلتزمه، ولم يال جهدا حتى نجح ومثل لواء الدليم في مجلس النواب وان غضبت الحكومة على متصرفها السنوي.
واما عبد الرزاق حلمي فقد كان متصرفا للواء المنتفق (محافظة ذي قار) وفي احتفال رسمي سمع ايعازا للشرطة او للجيش – لا ادري – بان يتنكب سلاحه استعدادا لاداء تحية لقادم فقام من محلة غاضبا وصاح باعلى صوته: "جنبك سلاح، انا ممثل جلالة الملك فمن هذا الذي يحيا بعدي؟! واذ ذاك صعد المفتش الاداري الانكليزي الاستعماري وكان قد تعمد ان يتأخر اهانة للمتصرف فلم يجد مناصا من الاعتذار.
هكذا روى لي صديقي عبد القادر المميز وكان محاسبا للواء المنتفق.