حافظ الدروبي :وملامح المدرسة البغدادية في الرسم

حافظ الدروبي :وملامح المدرسة البغدادية في الرسم

ان المدرسة البغدادية للفنون منذ ايام الواسطي اعادت نفض اتربة الزمن العالقة بتاريخها ، لتتجدد باساليبها وخبراتها ووظائفها وتخلق تعويضا لانعدام التوازن الذي سحبته تلك الحقب التاريخية المظلمة والتي امتدت الى مئات من السنين الثقال.

يقول الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد( تبلورت الاجواء، ونضجت عندي مسؤولية التعبير بالرسم على غرار ما كان يحدث بالشعر العربي الحديث، ماحدث للشعر سنجده للفن مع جماعة بغداد للفن الحديث بعد ان نضجت فكرة تأسيسها بين عام 1950- 1951. كنا نريد ان نوضح للفنان العراقي، ولانفسنا كجماعة فنية خاصة، بان استلهامنا للتراث في الفن هو المنطلق الاساسي للوصول باساليب حديثة الى الرؤية الحضارية)( ) وقد اصدرت جماعة بغداد للفن الحديث بيانا فنيا، تشرح احد نصوصه مبررات انطلاق الجماعة على النحو التالي: ( تتألف، جماعة بغداد للفن الحديث، من رسامين ونحاتين، لكل اسلوبه المعين، ولكنهم يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الاسلوب. فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد، يحدده ادراكهم وملاحظاتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد. انهم لايغفلون عن ارتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق أشكال تضفي على الفن العراقي طابعا خاصا وشخصية متميز)( )
فالفنان بموجب هذا البيان، مهما يكن اسلوبه، يتوخى اولا، استلهام الاوضاع البيئية والاجتماعية التي يعيشها الفرد، كما يتوخى ايضا، تصوير حياة الناس وتطلعاتهم وآمالهم وعلاقاتهم ببعضهم. وعلى الفنان حسب هذا الطرح ، ان تكون ابتكاراته وابداعاته في العمل الفني ، بمثابة استمرارا للتقاليد الفكرية والجمالية في بلد تعاقبت فيه اول الحضارات التي عرفتها الانسانية، لذا يتوجب على الفنان ان يمد جذوره في تربته وتاريخه وتراثه، وبالمقابل فان الفنان لايمكنه والحال هذه ان يكون بعيدا عن ما تقدمه البشرية من ثراء فكري ومعرفي وثقافي وفني.
ومن هنا جاءت اهمية اعمال الفنانين العراقيين الرواد وطروحاتهم في الرسم والنحت، فظهور الرعيل الثاني ،من هؤلاء هيأ وثبة للفن العراقي في الاتجاهات السليمة، فمن الناحية الاولى، قدموا قيمة مطلقة تشير الى ذهنيات متفتحة وخيال فذ، ومن ناحية اخرى ، فان قيمة اعمالهم متعددة الاوجه تتصل بتراث الفن العراقي القديم، وتعكس طموحات طبقات وفئات تريد الاستفاقة لاجل تحقيق الذات، وتوطيد قدمها في عالم معاصر متغير، وابرز مثال يقف امامنا هو الفنان الخالد جواد سليم باعماله التصويرية وعمله النحتي في نصب الحرية ببغداد، فهو( يمثل فكرا خلاقا لازمة الاسلوب التي عاناها الفنان في محاولته تحديد السمات لفن عراقي عربي، يكون في الوقت نفسه مساهمة جادة في حضارة هذا العصر. واذا اضفنا الى هذا النحت رسوم جواد في السنين العشرين الاخيرة من حياته، التي كانت الوجه التخطيطي لمحاولته الاسلوبية الدائبة، وجدنا شدة الوعي لديه ا
نشاء الفن ا لعراقي الحديث في بدايات الربع الثاني من القرن الماضي، ليعتمد في نشأته وتطوره على معادلة طرفاها: التراث العربي الاسلامي ، من جهة والتراث الاوربي الغربي الذي تم تركيزه في الكشوفات العلمية وثمارها التكنولوجية من جهة اخرى، وكان هذا التوفيق بطرفي المعادلة، هو اساس مشروع النهضة الفنية في العراق. وقد واجهت ومنذ البداية العديد من الفنانين العراقيين الاوائل من دارسي الفن في اوربا معضلة تتمثل بكيفية السبيل لضمان امكانية المحافظة على التوازن بين التراث الذي يتمثل في الحاق الفنان بمزوق الكتب او الخطاط ، والمعاصرة بنمطيها الكلاسيكي والحداثي التي تتمثل في اعتماد اللوحة المسندية والالوان الزيتية والعديد من الرؤى الغربية في بناء سطح اللوحة والتقنيات الملحقة بها. لقد وضع الفنان العراقي نفسه وادواته ازاء تحديات داخلية وخارجية، فكان النتاج الفني ومنذ البداية بمثابة وقفة معبرة عن ثراء وقدرة المحرك المعرفي والثقافي لديه، فنجد المشهد التشكيلي العراقي، تظاهرة فنية وفكرية وحضارية، بينت وجه المعطيات التي مكنت من بروز ملامح التحول والتطور والانطلاق، لحركة بارزة في النشاط الفني العراقي والعالمي على السواء.
ان المتابع المتخصص لمسيرة الفن العراقي عليه النظر باكبار الى جهود آباء الرسم العراقي التي تركزت على ثلاثة امور جاءت استجابة واعية لمتطلبات وحاجات واقعية قائمة على:
أولا- إرساء قاعدة الانطلاق لحركة التشكيل العراقي والتأسيس لها بوضع صنعة الرسم بين ايدي من يتطلعون الى حذفها.
ثانيا- تأصيل التشكيل كخطاب جمالي بصري في الثقافة والابداع العراقيين.
ثالثا- السعي الى بلورة رؤية خاصة تقوم على استلهام الارث الفني الرافديني المتمثل بما انتجته اقدم الحضارات الانسانية، وما قدمته المدرسة البغدادية التي اشتهر الواسطي كاحد ابرز مبدعيها، وايضا التمثل السليم للمنجز الفني الاوربي، والانفتاح على روح العصر.
واقرب المؤثرات الثقافية على نهضة الفن في العراق ، تمثلت بالتأثيرات التركية والبولندية. اذ انتقلت التأثيرات التركية عن طريق رسامين هواة، تعلموا الرسم في المدارس العسكرية العثمانية، وكان عبد القادر الرسام احد اهم هؤلاء، الذي اتسمت اعماله بالاصالة والغزارة الانتاجية، وترك ارثا كبيرا من اللوحات الفنية التي صور فيها الطبيعة البغدادية الساحرة والريف البغدادي. وكان الرعيل الاول يضم كل من: (عثمان بك وناطق مروة وشوكت الخفاف ومحمد صالح زكي وحسن سامي واكرم القيمقجي وناصر عون والحاج محمد سليم ( والد الفنان جواد سليم) والفنان عاصم حافظ ، واخرين)( 8) لم يتم التوثيق لنتاجاتهم الفنية، و( وكانت مواضيعهم تعتمد على تصوير الطبيعة والمشاهد اليومية باسلوب تقليدي او طبيعي ليس له وضوح او سمة صاغية)( 9). وقد بدأت عملية تأسيس حركة الفن التشكيلي العراقي الحديث على وجه التحديد، في اوائل الثلاثينات من القرن الماضي، حيث تولت وزارة المعارف آنذاك ارسال البعثات الفنية للدراسة خارج العراق، حيث تم ارسال الفنان اكرم شكري عام 1930 كأول مبعوث عراقي لدراسة الرسم في بريطانيا، والفنان فائق حسن لدراسة فن الرسم في مدرسة البوزار في باريس، وكذلك الفنان عطا صبري ، والفنان حافظ الدروبي، وجواد سليم، وبعد عودة هؤلاء الى بغداد، قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها مباشرة ، تم انطلاق ما يمكن تسميته ببداية عملية التأسيس لحركة فنية تشكيلية في العراق، واطلق عليها " حركة الرواد" من الرعيل الاول والثاني، باعتبارهم ( جيل البحث والتطلع والتنوير)( 10) ، وقد اقيم اول معرض للجماعة الفنية في بغداد ضمن المعرض العالمي للصناعة والزراعة . وفي عام 1935 صدر اول كتاب يحمل عنوان ( قواعد الرسم على الطبيعة) للفنان المؤسس عاصم حافظ ، وبعد ذلك بعام واحـــــــــد اقام
الفنان حافظ الدروبي اول معرض شخصي في بغداد، وفي عام 1938 عاد الفنان فائق حسن من باريس، وفي (عام 1939 سافر الفنان جواد سليم ببعثة رسمية لدراسة الفن الى باريس، وفي نفس السنة افتتح فيها فرع للرسم في معهد الفنون الجميلة وتلاه فتح فرع للنحت، وتشكلت جمعية " اصدقاء الفن" عام 1940 من بعض هواة الفن وانضم اليها المهتمون بالثقافة الفنية، واستمرت في نشاطاتها السنوية لغاية 1947)( 11) كما صدرت مجلة ( الفكر الحديث) للفنان جميل حمودي بين عامي 1945- 1947 وهي اول مجلة تعنى بالفن الحديث والثقافة المعاصرة وكان صدورها يشير الى بدايات النقد الفني على بساطته)( 12). اما التأثير الثاني في نشوء حركة فنية عراقية حديثة فقد جاء عن طريق (الاتصال المباشر بعدد من الفنانين البولونيين والانكليزالذين كانوا مجندين، رافقوا جيوشهم العسكرية عند دخولها العراق اثناء الحرب العالمية الثانية عام 1942، ليعكسوا تأثيراتهم بأساليبهم ورؤيتهم الجديدة للعمل الفني، مما عجل بابتعاد الفنانين العراقيين الشباب عن الاساليب التقليدية القديمة)( 13).
ان اهم معضلة واجهت الرعيل الرائد من دارسي الفن في اوربا هو كيف نجد سبيلنا الذي يضمن المحافظة على التوازن من التراث والمعاصرة؟ وهما قيمتان غير جماليتين ، وازاء هذا الطرح تشكلت فاصلة نوعية في تاريخ الفن العراقي الحديث من خلال جهودهم الحثيثة للبحث عن هوية عراقية للمشهد الفني رسما ونحتا، اذ كان هاجسهم الاساسي هو المشاركة في تأسيس مشهد حضاري متكامل اسوة بزملائهم من الفنانين المصريين واللبنانيين وغيرهم . ,ويقول جبرا ابراهيم جبرا( لقد كانت فترة الاربعينات فترة الاكتشاف، والدهشة، والتوقع. فقد بدأت الاربعينات بهجرة بعض الفنانين البولونيين الى بغداد بسبب الحرب، فتعرف اليهم جواد سليم وفائق حسن وعطا صبري وغيرهم. واول ما فعل البولونيون هو ان نبهوا هؤلاء الرسامين الشباب الى قيمة اللون وامكاناته الهائلة. وكان ذلك للرسامين البغداديين بين الشباب كشفا عن عالم جديد)( 14) ويذكر في هذا الصدد بان لقاءات مستمرة ومتواصلة كانت تتم بين الفنانين العراقيين آنذاك من اجل التباحث لايجاد صيغ واساليب وتقنيات فنية تستلهم اجواء البلاد بخصائصها الطبيعية والاجتماعية، وتصوير حياة الناس باشكال جديدة، وان يكون النتاج الفني استمرارا للتقاليد الفكرية والجمالية في بلد تعاقبت فيه الحضارات .
في عام 1941 اقامت جمعية( اصدقاء الفن) اول معرض لها شارك فيه عدد من الفنانين الشباب الهواة، وكانت آمالهم المعروضة تمثل خليطا من الاتجاهات والاساليب الفنية التي حاولت محاكاة الواقع. سنة 1950 اطلق الفنان فائق حسن مع مجموعة من زملائه جماعة ( الرواد)، واطلق الفنان جواد سليم جماعة ( الفن المعاصر(، وفي عام 1956 تشكلت ( جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين)، ومن ثم بدأت بعد ذلك التاريخ تتوسع دائرة تأسيس الجماعات الفنية.
لقد ظل الهّم التشكيلي لدى هؤلاء المؤسسين الرواد، هو الشاغل المشترك. فنحن نرى ان جواد سليم اهتم بـ( شخصية البغدادي) في اطار رسوم الواسطي، وفائق حسن، في شخوص رجال الصحراء، بتقنيات الفنان الفرنسي ديلاكروا والانطباعية الفرنسية، اما حافظ الدروبي، فكانت المدينة هي محور اعماله التي تأثرت بالفنان الايطالي دلوني التعبيرية، ومحمود صبري اتخذ من بيكاسو ودوميه وسطوح المنحوتات الاشورية موضوعا للتعبير عن الفن الملتزم، في حين انغمر شاكر حسن آل سعيد في نهاية الستينات في البحث عن القيم الصوفية للحرف العربي.
يقول الناقد شوكت الربيعي( كان الفن التشكيلي في العراق منذ نشأته بحاجة الى وضوح الرؤية والموقف وكانت سماته انتقائية ومحاولاته تجريبية تدخل ضمن نطاق الهواية وحسب لهذا سعى المثقفون من الفنانين الى تلافي مثل هذه الهوة السحيقة في تجاربهم )( 15) وحقا فقد نمت الحركة التشكيلية في العراق بسرعة، فبعد عقدين من الزمن ، اصبحت ذات شخصية متميزة عن قريناتها العربيات، بتعدد اوجهها واساليبها واهدافها وتنوع مدارسها ومضامينها، واصبحت اكثر فتوة وجرأة وقوة تعبير، فازداد عدد الرسامين، محترفين وهواة، وجعلت معارضهم تدل على تكتلات وتجمعات تتفاوت باساليبها الفنية، ولكنها تتسابق في وفرة الانتاج وتحسينه. فظهرت جماعة الرواد واعقبتها جماعة بغداد للفن الحديث ، ومن ثم جماعة الانطباعيين، الا ان اي من الفنانين المنتمين الى هذه الجماعات لم يتقيد بالغرض العام الذي حددته جماعته ، لان الهدف كان يتمثل في استمراية الانتاج وتبدل التجــــربة. واذا حولنا نظرنا الى خارج هذه الجماعات فسوف نجد حركة فنية متنامية هي الاخرى، وكأن الفن يسري في حياة الثقافة العراقية كما يسري الدم في الجسد.
ان الشعوب تتعارف وتتلاقى ، تأخذ لمصابيحها زيتا وتعطي، تتبادل الخبرة والتجربة، وتتبادل الفنون قبل كل شيء، ولكن الفن الذي يبقى لكل شعب هو في اخر الامر فنه. الفن النابع من تربته، والمتاثر مع ذلك بكل النسمات الفضائية الرحبة القادمة من الخارج، وهكذا فان المدرسة البغدادية للفنون منذ ايام الواسطي اعادت نفض اتربة الزمن العالقة بتاريخها ، لتتجدد باساليبها وخبراتها ووظائفها وتخلق تعويضا لانعدام التوازن الذي سحبته تلك الحقب التاريخية المظلمة والتي امتدت الى مئات من السنين الثقال. يقول الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد( تبلورت الاجواء، ونضجت عندي مسؤولية التعبير بالرسم على غرار ما كان يحدث بالشعر العربي الحديث، ماحدث للشعر سنجده للفن مع جماعة بغداد للفن الحديث بعد ان نضجت فكرة تأسيسها بين عام 1950- 1951. كنا نريد ان نوضح للفنان العراقي، ولانفسنا كجماعة فنية خاصة، بان استلهامنا للتراث في الفن هو المنطلق الاساسي للوصول باساليب حديثة الى الرؤية الحضارية)( 16) وقد اصدرت جماعة بغداد للفن الحديث بيانا فنيا، تشرح احد نصوصه مبررات انطلاق الجماعة على النحو التالي: ( تتألف، جماعة بغداد للفن الحديث، من رسامين ونحاتين، لكل اسلوبه المعين، ولكنهم يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الاسلوب. فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد، يحدده ادراكهم وملاحظاتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد. انهم لايغفلون عن ارتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم، ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق أشكال تضفي على الفن العراقي طابعا خاصا وشخصية متميز)( 17)
فالفنان بموجب هذا البيان، مهما يكن اسلوبه، يتوخى اولا، استلهام الاوضاع البيئية والاجتماعية التي يعيشها الفرد، كما يتوخى ايضا، تصوير حياة الناس وتطلعاتهم وآمالهم وعلاقاتهم ببعضهم. وعلى الفنان حسب هذا الطرح ، ان تكون ابتكاراته وابداعاته في العمل الفني ، بمثابة استمرارا للتقاليد الفكرية والجمالية في بلد تعاقبت فيه اول الحضارات التي عرفتها الانسانية، لذا يتوجب على الفنان ان يمد جذوره في تربته وتاريخه وتراثه، وبالمقابل فان الفنان لايمكنه والحال هذه ان يكون بعيدا عن ما تقدمه البشرية من ثراء فكري ومعرفي وثقافي وفني.
ومن هنا جاءت اهمية اعمال الفنانين العراقيين الرواد وطروحاتهم في الرسم والنحت، فظهور الرعيل الثاني ،من هؤلاء هيأ وثبة للفن العراقي في الاتجاهات السليمة، فمن الناحية الاولى، قدموا قيمة مطلقة تشير الى ذهنيات متفتحة وخيال فذ، ومن ناحية اخرى ، فان قيمة اعمالهم متعددة الاوجه تتصل بتراث الفن العراقي القديم، وتعكس طموحات طبقات وفئات تريد الاستفاقة لاجل تحقيق الذات، وتوطيد قدمها في عالم معاصر متغير، وابرز مثال يقف امامنا هو الفنان الخالد جواد سليم باعماله التصويرية وعمله النحتي في نصب الحرية ببغداد، فهو( يمثل فكرا خلاقا لازمة الاسلوب التي عاناها الفنان في محاولته تحديد السمات لفن عراقي عربي، يكون في الوقت نفسه مساهمة جادة في حضارة هذا العصر. واذا اضفنا الى هذا النحت رسوم جواد في السنين العشرين الاخيرة من حياته، التي كانت الوجه التخطيطي لمحاولته الاسلوبية الدائبة، وجدنا شدة الوعي لديه)( 18).
اما القطب الاخر للحركة الفنية في العراق، فهو الفنان الخالد فائق حسن، الذي اشتهر بتقنيته الفنية البارعة، وادراكه بصنعة الرسم والالوان على النحو الي يذكرنا بعمالقة عصر النهضة الايطالية( 1250-1550)، فقد كان له ( اثرا في توجيهها يتكامل مع اثر جواد سليم، ولاسيما حين نذكر ان كليهما كان استاذا للفن في معهد الفنون الجميلة، مما يجعل اتصاله بالطلبة مباشرا، ويضفي على العلاقة الذهنية والروحية بينه وبين الفنانين الشباب صفة القضية الحية المتنامية)( ا 19).
عام 1956 ظهرت في الحياة الثقافية العراقية جمعية الفنانين العراقيين، لتكون بؤرة جديدة متوقدة وحيوية في استقطاب المعارض الفنية التي جمعت هواة الفن واساتذته ومحترفيه، ولتخلق موعدا يجمع المثقفين والمهتمين بامور الفن من خلال معارضها وندواتها وفعالياتها، وليكون عقد الخمسينات عقدا نهضويا خلاقا، حيث تأسست " جماعة بغداد للفن الحديث" 1953، واكتملت معالم الريادة في حركة عارمة في الادب والفن والشعر والقصة والمسرح والموسيقى وعلم الاجتماع والتاريخ . وكانت حركة التنوير على يد الشاعرين الزهاوي والرصافي، وتثوير القضية العراقية وطنيا وديقراطيا على يد مجموعة من المفكرين والسياسيين لتخلق نهوضا متنوعا ومناخا سياسيا وطنيا عارما ومحتدما في الحياة الاجتماعية والسياسية العراقية، لتنعكس هذه الامور على مسيرة الفن التشكيلي ولتكون بمثابة حاضنة لهذه المسيرة الجديدة، مكنت جيل الرواد الثاني من الاندفاع نحو التجديد والابتكار مع تعزيز الشعور الوطني في الخطاب الفني .
كان من الواجب ان تتطور هذه الحركة الثقافية الفنية ذات الخطاب الوطني والحماسة التقنية في حفر اثرها بالنص المقروء بصريا- سمعيا – تشكيليا فأنبثقت واقعية جديدة في فن الرسم من خلال البحث الدؤب لمجموعة من الفنانين الذين سعوا الى تأسيس مدرسة عراقية معاصرة في الفن ،تكون قادرة على خلق علاقة اشد عمقا بين الفنان والمثقف ومجتمعه لتشبع مجموعة واسعة ومتنوعة من حاجات الانسان العراقي. وهكذا استجاب الناس للحركة الفنية الفتية بحرارة كبيرة، وتعاظم اهتمامهم بها، واشتد النقاش حول نظريات الفن المختلفة التي دخلت مع دخول الفنانين البولونديين في بداية الاربعينات وبقائهم نحو ثلاث سنوات( 1940-1942-1943)وانتشار مراكزهم الثقافية والفنية داخل العاصمة العراقية حيث( اقام البولنديون اثناء وجودهم في العراق بتأسيس عدد من الجمعيات والهيئات التربوية والدينية والسياسية، وكان بعضها موجودا في مقرات الوحدات العسكرية، في معسكر الاهالي. وكان البعض الاخر موجود في بغداد مثل: الهيئة الدبلوماسية لحكومة بولندا في المنفى- المفوضية البولندية- والصليب الاحمر البولندي، ومكتب الاعلام والثقافة للجيش البولندي في الشرق، الذي كان مقره يقع في شارع الرشيد بالقرب من المقهى البرازيلية، هذه المقهى التي شهدت بدايات تعارف ولقاءات الفنانين العراقيين بزملائهم البولندين. وفي شارع الرشيد ايضا كان هناك المطعم البولندي الذي كان بمثابة " كاليري فني" حيث زينت جدرانه بعدد من اللوحات والملصقات الفنية. ومن بين هذه الملصقات كان هناك ملصق دعائي ، احتل واجهة المطعم وكان من رسم الفنان جواد سليم)( 20). كما قامت بتنشيط الحركة الفنية الفتية عودة الوافدين الفنانين من الخارج، وانتشار ظاهرة دخول الكتب والمجلات والصحف الاجنبية والمطبوعات الفنية التي بدأت تتدفق الى اسواق ومكتبات العراق، وهي تكتب وتحمل صور المعارض والتقنيات والاساليب والمدارس والمعارض الفنية، والبيانات الفنية التي تصدرها الجماعات الفنية في اوربا وبالذات في باريس وروما. (وفي عام 1942 افتتح الفنان حافظ الدربوبي مرسما حرا كان من المقرر له ان يكون نواة لمشغل فني كبير)( 21). وفي الستينات من القرن الماضي تأسست اكاديمية الفنون الجميلة لتلتحق بجامعة بغداد.
وهكذا تستمر الرؤية الفنية الجديدة وتتنوع، مؤكدة على ديمومة وازدهار وحيوية الفن العراقي، وهو ينمو يوما بعد اخر في حيوية واتساع متواصل، من خلال عدد كبير من الاسماء الفنية الريادية التي انتجت لنا مجموعة كبيرة ومهمة من التجمعات الفنية التي ظهرت في العقد الستيني من القرن الماضي"امثال: جماعة الرواد، جماعة بغداد للفن الحديث، جماعة المجددين، جماعة المعاصرين، جماعة آدم وحواء، جماعة الاكاديميين، جماعة المدرسة العراقية الحديثة، جماعة 14 تموز، جماعة الزاوية، جماعة البداية، جماعة الحدث القائم، جماعة تموز، جماعة البصرة، جماعة الفن المعاصر... الخ"، وتضاعفت في العقود اللاحقة، وتضاعف معها الفعل الفني الذي شخص بشكل جلي اتساع البحث الاجرائي وثوريته، مما اثر بالتالي على ثراء النتاج الفني عامة. وقد ساهم العديد من الرواد بخلق مرحلة تحول دقيق في استلهام قضايا الظروف الاجتماعية والسياسية والبئية العراقية، وعكسوا عن قدرة الفنان الجوهرية في استيعاب التقنية والاستعارة والصياغة، تلك الروافد التي اغنت كثيرا ايقاعات اللوحة ومواضيعها. فهم ساهموا بترسيخ القيم الانسانية للحركة التشكيلية العراقية، امثال اسماعيل الشيخلي وحافظ الدروبي جميل حمودي ونزيهة سليم ومحمد الحسني وكاظم حيدر ومحمود صبري وعطا صبري ومديحة عمر ورسول علوان وفرج عبو وطارق مظلوم ونزار سليم ونجيب يونس وكاظم حيدر وخالد الجادر وشاكر حسن آل سعيد وخالد الرحال وهاشم الخطاط وغازي عبد الله الرسام وعيسى حنا ومحمد غني حكمت ونوري الرواي وغيرهم من الاسماء التي استطاعت ان تخطو بثقة باتجاه تأصيل التجربة الفنية وايجاد علاقات جديدة بين المتلقين والفنانين، فضلا عن الهدف الاساس بخلق رؤية جمالية وابداعية، الى جانب تأصيل قواعد عمل الفنان المهنية وحرفياته.
فقد إزدهرت في أوربا، على سبيل المثال لا الحصر في العقود الاخ يرة، مدرسة فنية سُميت بالواقعية الفوتوغرافية تعنى بالرسم بطريقة واقعية تبالغ بالاهتمام بكل التفاصيل الصغ يرة إعتمادا على الفوتوغراف. على أنه ينبغي الانتباه الى اننا نأخذ مصطلح الواقعية بمعناه الواسع، ونعني بها جميع اشكال التعب ير التي تنطوي على تأويل الواقع دون المبالغة في القطيعة عنه بإعتبارة مصدراً للآبداع، وبالرغم من إن الفن، في نهاية التحليل وبغض النظر عن مدارسه، يستمد تكوينه والوانه من الواقع الذي أعيدت صياغتة عبر رؤية فردية وذاتية إبداعية، الا أن درجة التغريب عن هذا المصدر تتفاوت وتبلغ ذروتها فيما أصطلح على تسميته بالحداثة وما بعد الحداثة، وعليه سوف يُصار، في هذا السياق الى إدراج الرومانسية والانطباعية والواقعية الفرنسية وممثليها الكبار من مدرسة الباربيزون وكذلك بالطبع واقعية (كوربيه) وكذلك الواقعية الفوتوغرافية المشار اليها أعلاه ومدارس أخرى ضمن مصطلح الواقعية، ليس لان هذه البحث مَعني بدراسة هذه المدارس وأنما لاسباب تتعلق بالمعيار والمنهج وبقدر تعلق الامر بالفن التشكيلي العراقي، ومن هنا تنشأ ملاحظة ضرورية تتعلق بتسميات المدارس الفنية تجعلنا نش ير الى أن الحدود بين المدارس الفينة، كما هي عليه الحال في كافة التصنيفات في المجالات الابداعية والمعرفية، هي حدود إفتراضية وقابلة للحركة ومتداخلة فيما بينها، كما ان الفنان هو في الغالب غ ير معني بها، وأنها تنشأ في أعقاب عملية الخلق والابداع والانجاز وليس قبلها. وإن من المناسب التنويه الى ان الواقعية هي على خلاف جميع المدارس الفنية، وأضافة الى السمات الاخرى، غ ير قابلة للاستنفاذ كما إن إطارها واسع بحيث يتسع الى تلاوين مختلفة ولذا فإن بالامكان دائما وحتى في الوقت الحاضر تأسيس واقعية ذات أصالة. كان من أوائل رواد الواقعية في الفن التشكيلي العراقي الفنان عبد القادر رسّام ولقد ترك هذا الفنان مجموعة من اللوحات التي تمثل مشاهد طبيعية لمناطق مختلفة من أطراف بغداد ومناطق أخرى، ولوحاته تمثل مشاهد طبيعية مرسومة بطريقة فطرية تأسست على التجربة الشخصية وعدم المواكبة أو الاطلاع الكافي على التجربة العالمية المعاصرة في تلك الفترة من أوائل القرن العشرين التي كانت أوربا فيها تقود ثورة غ ير مسبوقة في الفن التشكيلي، وتبعاً لهذا بقي فن عبد القادر رسام خالياً من أية هموم تتعلق بالاسلوب او التحديث. وبالرغم من أوربا شهدت في وقت أبكر قليلا بروز فطرية ( هنري روسو) الذي أعيد تقييم أعماله كواحد من رموز الفن التشكيلي الذين لعبوا دوراً كب يراً في التحديث اللاحق الذي شهده القرن العشرين، الا أن إختلاط هذا الفنان ومعرفته الوثيقة بأعلام الفن التشكيلى الذين عاصروه أمثال فان كوخ وسيزان ترجّح إختياره الواعي للمدرسة الفطرية على خلاف ما ذهب اليه الكث ير من النقاد ومؤرخو الفن. تلعب العزلة والبساطة دوراً مشابها لدور الافراط في الاستقلالية over independence ))، في تأسيس فن فريد، فالفنان المعرض دائما لضغوطات الجمهور والنقاد ووسائل الاعلام يصعب عليه في الغالب أن يقوم بإختيار تلقائي قائم على على طبيعة تكوينه وإحاسيسه حيث يتعرض الفنان الى تدخلات من أنواع شتى، ليس أقلها النقد، تلعب دورا مباشرا وغ ير مباشر في سلبه حريته وتلقائيته، لذا فإن العمل المقصود الذي قام به (غوغان) على سبيل المثال في الهروب الى عالم معزول، كان متوفرا بقدرما وبدون أي مجهود لفنانين آخرين بحكم عوامل أخرى، وليس من الصحيح القول بأن الوعي والثقافة يلعبان دائما دوراً أيجابياً في تطور الفنان ففي أحوال كث يرة كانت بساطة الوعي وعدم تعقيداته قد دفعت الفنان الى شحذ أحاسيسه وحدسه كما أنها من جهة أخرى جعلته في منجى من التشوش القائم على المبالغة في الاطلاع، إن هذه المقدمة تنطبق، الى حد ما، على مثال الفنان فائق حسن. حقق الفنان فائق حسن موقعه في الحركة التشكيلية العراقية، كواحد من أبرز أعلامها، من خلال أسلوب واقعي متفرد، وليس من خلال أعماله التجريبية الحداثية المبتورة، وكانت المرحلة المتأخرة من تطوره الفني في السبعينات والثمانينات تتجلى في خصائص إسلوبه على وجه التحديد، لقد أنجز الفنان فائق حسن أعماله المتأخرة، وخصوصاً أعماله الكب يرة،والتي تناولت في الغالب مواضيع الحياة اليومية البغدادية والحياة الشعبية، والخيول العربية، ولوحات تمثل البدو المقيمين في غرب العراق، بنسيج تكنيكي موحد فهو ينجز أعماله وينهيها بعمل الفرشاة الكب يرة، مع إبراز جميع أجزاء اللوحة الصغ يرة والكب يرة البعيدة والقريبة بحرية وجرأة وبطريقة تعكس مهارته الاسلوبية و تفهمه لخصائص مادة الزيت،، كما ان الفنان فائق حسن يعتبر بدون شك واحداً من أبرزالملونين. والفنان فائق حسن، مثله مثل الواقعيين الكبار، قد تفهم بحدسه روح المجتمع الذي عاش فيه وجوهره في الحقبة التي عاصرها ولذلك لم تكن واقعيته مبتذله تسجيلية وأنما واقعية حميمية تغوص بعمق في جوهر العلاقات الاجتماعية السائدة مما جعل لوحاته نابضة بالحياة وإمتاز أسلوبه بالتبسيط والاختزال كما إنه وظّف المساحات الكب ير دون أن يركز على التفاصيل معطيا العمل الزيتي كثافته بواسطة سحبات عريضة واثقة من فرشاته وبالرغم من خلو المساحات الواسعة في أعماله من التفاصيل كما ذكرنا،الاأنها لعبت دوراً في تعزيز التركيز على مركز اللوحة مثلما تلعب الروافد دورها في تعزيزالتيار الرئيسي للمجرى. هذا الاسلوب القائم على التجريب والمعاناة لحقبة غ ير قص يرة من الحياة الفنية لهذا الفنان البارز توارثه اكثر من جيل من الرسامين العراقيين الذين تتلمذوا على يده، وإذا كان فائق حسن قد أسس بهذا الاسلوب مدرسة خاصة مميزة، فإنه من جهة أخرى ربّى جيلاً من المقّلدين الذين لم يستطيعوا التخلص من أسار إسلوبه، كما ربى أيضا ذائقةً خاصة بين أوساط متذوقي الفن لعبت فيما بعد دوراً محافظاً. في الفترة الاخيرة التي سبقت وفاته وفي السنوات اللاحقة كانت لوحات هذا الفنان موضع إقبال المقتنين، وبلغت لوحاته أسعارا غ ير مسبوقة، وقد أصدرت الدولة قانونا يمنع فيه إخراج أعمال الفنانين الرواد المتوفين وفي مقدمتهم الفنان فائق حسن ولكن أعماله هُرّبت على نطاق واسع ومن قبل نفس الاطراف المسؤولة عن تنفيذ هذا القانون كما جرى تقليد الكث ير من أعماله، وتخصص في ذلك بعض الرسامين المهرة. لن أستفيض في الحديث عن ممثلي الواقعية الذين عاصروا فائق حسن وكانوا من جيله لسببين الاول إن الموضوع الذي نحن بصدده هو فن عقدي الثمانينات والتسعينات، وعليه سوف نتناول فقط الواقعيين الذين أستمروا في العطاء في هذين العقدين الا بقدر متطلبات الربط والاستطراد والثاني هو أن بعض الفنانين الذين عاصروا فائق حسن لم يقدموا الكثير. يُصنّف حافظ الدروبي خطأً ضمن الانطباعيين ربما بسبب كثرة تناوله موضوع الطبيعة كما إن تحر ير ضربة فرشاته لاتكفي لتصنيفه ضمن الانطباعيين فهذا التطور في الفن التشكيلي ـ أي تحر ير ضربة الفرشاة وجعلها مستقلة ـ قد سبق الانطباعية كما أن رسم الطبيعة تم بأساليب ومدارس مختلفة، وليس حصراً بالمدرسة الانطباعية. لم تكن الطبيعة هي الموضوع الوحيد الذي شغل إهتمام الدروبي وإنما كذلك الحياة اليومية للناس مثل الاسواق والازقة البغدادية وهو مثله مثل أغلب الفنانين الواقعيين قد رسم البورتريهات وهناك مثال جيد لمهارته هذه في البورتريه الذي رسمه للفنانه حياة جميل حافظ. وقد جرب الدروبي اسلوبا آخر قائم على شكل من اشكال ( التكعبية ) واذا اردنا الدقة فان هذه المدرسة التي تتعامل مع البعد الثالث من وجهة نظر الخروج عن المنظور التقليدي او من باب أولى ادخال تعديلات عليه، تلغي بموجبه التدرج في التعامل الوجود الخارجي في تجسيم الاشياء كما هي عليه في الواقع، وتُحلّ محلها شكلا موشوريا متدرج الابعاد، أو شكلا ماسيا ( تبعا لشكل الماسة ) وهي من حيث المبدأ تتفق مع المبادئ العامة للتكعيبية التي طوّرها بيكاسو وبراك في أوائل القرن الماضي ولكنها لم تذهب بعيدا بالقدر الذي ذهبا الية. في المعرض الاخ ير الذي أقامه الدروبي على قاعة الاورفلي في الثمانينات كانت هناك ملامح واضحة لتدهور إمكانياته الفنيه حيث فقد لونه، المتألق سابقا، بريقه ربما بسبب تدهور صحته وتقدمه بالعمر، على خلاف الفنان فائق حسن الذي بقي محافظاً على قوة فنه حتى في السنوات التي سبقت وفاته.

فصل من دراسة موسعة بعنوان تاريخ الرسم في العراق للناقد عادل كامل