في مئوية المعماري محمد مكية..الموروث المعماري والرموز البغدادية

في مئوية المعماري محمد مكية..الموروث المعماري والرموز البغدادية

د. معتز عناد غزوان
يشكل الوطن المكان المقدس الذي تتميز نكهته بطعم خاص، لا يكاد أن يكون له مثيل في مكان آخر مهما كان المكان الآخر جميلاً وفي غاية الروعة، أما الإنسان الذي ولد ونشأ في الوطن فقد أخذ منه كل ما يميزه كانسان عن باقي أوطان العالم، فقد اكتسب الخصوصية والمحلية والهوية... ولكن ما الهوية؟ انه سؤال يحتاج إلى إثبات يمارسه الإنسان بسلوكه وأفكاره ورؤياه المستقبلية،


فالهوية مرتبطة بالمجتمع والمبادئ والتقاليد والمعتقدات والمرجعيات التاريخية التي تفرض على الإنسان إحساساً قوياً بالانتماء إلى المكان وهو الوطن، البيت الكبير، البيئة، أما الهوية الثقافية فهي نوع من الهوية الاجتماعية ومكوناتها هي التاريخ والمعتقدات الدينية وتحقيق الربط ما بين الأصالة والمعاصرة. مما تقدم كان الدكتور محمد مكية شيخ المعماريين العراقيين الذي يعد من أوائل الذين نجحوا في تحقيق التكامل ما بين الهوية الثقافية والمكان/ الوطن، إنها المعادلة الصعبة التي ناضل من اجلها لقرن من الزمان المتحول سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً. وقد أكد مكية على تلك الآصرة المهمة في حديثه إذ يقول: ((أنحدر من عائلة قيل لي أنها ذات أصول عراقية جنوبية، فقبيلتنا هاجرت صوب العراق، من الجزيرة العربية، ومعلوم أن كل عربي يبحث عن نسب قبلي، وان لم يكن يخلقه. استقرت بجنوب العراق حيث الوادي الخصيب، بعد أن قطعت صحراء وودياناً، لم يكن لها أن تستقر إلا في البطاح المجاورة للاهوار. لعلها استقرت بمدينة الناصرية بلاد سومر ذات الشمس الساطعة، والاهوار على ما اعتقدت كانت تمثل الريف السومري بكل تجلياته ويومياته، التي ما زالت قائمة. كان ذلك قبل ميلادي بقرون، وبالتالي قبل اتخاذ المنطقة أسم ناصر باشا السعدون، ويقال لها الناصرية)). فالمعادلة واضحة في حديثه تتجسد في (أصالة وموروث/ مكان حضاري/ هوية وطنية/ مدنية أصيلة). تأثر محمد مكية بتلك التحولات الزمكانية في الانتقال من التراث وضغوطه الاجتماعية إلى المدنية والانفتاح في الأفكار والنشأة ولاسيما في مرحلة شبابه.
ولد الدكتور محمد مكية في بغداد بمحلة صبابيغ الآل عام 1914، وهي من الأماكن البغدادية المتميزة في عوائلها وأسماء عشائرها المحترمة، فضلاً عن الشخصيات البارزة التي ظهرت من هذه المنطقة المهمة في بغداد بدايات القرن الماضي، ويتذكر الدكتور مكية محلته هذه ويتحدث عن تلك الذكريات بعد أن رحلت أسرته فيما بعد صوب بغداد لتستقر هناك، ومنذ صباه كان ولعه كبيراً بمناظر العمائر والشوارع البغدادية القديمة فضلاً عن الشناشيل البغدادية القديمة وخصوصيتها المعمارية الفنية الجميلة، فيقول (اختفت ملامح بغداد الشعبية وأصالتها وآثارها العريقة، لتحل محلها طرق وشوارع مستقيمة باستقامة مسطرة مهندس الطرق لمجاراة التطور الصناعي، فرضتها حركة العربات الآلية الطاغية، خالية من التهذيب والإحساس، تشير إلى التخلف الحضاري، أتذكر محلتي، محلة صبابيغ الآل، بكيانها الاجتماعي المنسجم مع نسيجها العمراني، وأزقتها وأسواقها. ولعل أول درس في العمارة والتخطيط والتصميم تعلمته من عمارة بيوت تلك المحلة، التي كانت في الأيام الغابرة جوار دار للخلافة العباسية، حيث مشهد منارة الغزل وجامع الخلفاء، الذي تهيأت لي فرصة تصميمه وإحيائه من جديد، بمعنى أن المكان كان مركزاً عالمياً). يدعو الدكتور مكية إلى الإلمام الكامل بالتراث ولاسيما التراث المعماري البغدادي، وتكلم عن تجربته في تصميم جامع الخلفاء ببغداد، فضلاً عن تأكيده على أهمية التراث المعماري القديم والإسلامي للعراق، لان هذا التراث سيظل دلالة زمكانية تروي قصة التاريخ والحضارة لأجيال وأجيال، كما دعا إلى تأسيس مدرسة معمارية بغدادية متخصصة بالتراث البغدادي والرموز العراقية الإنسانية التي تعد عماد الحضارة الإنسانية في العراق قديماً وحديثاً، كما أكد الدكتور مكية على ضرورة دراسة الفضاء الداخلي والخارجي في تصميم العمارة المعاصرة والتعامل مع ذلك التصميم على نظام أو نهج يتكون من ثلاثة عناصر مهمة، وهي الإنسان (القيم والفكر والحياة الاجتماعية وغيرها من عوامل التأثير والتأثر التي يخضع إليها الإنسان)، والمكان (مسرح الحياة)، والزمان (الفترات أو الحقبات وما يطرأ عليها من تغيرات تتبع تغيرات المكان) فلا زمان بلا مكان ولا مكان بلا زمان، لذا يشير الدكتور محمد مكية إلى أن هذا النظام هو ما يجعل من تلك العمارة هويةً وخصوصية عراقية بغدادية أصيلة، فضلاً عن استخدام الرموز العراقية القديمة كانت منها أو الإسلامية فقد استخدم الدكتور مكية الخط الكوفي وتصاميم حروفية متعددة ونافس بها الفنان التجريدي العالمي (بيت موندريان)، الذي يتعامل مع الإيقاع اللوني المجرد وبحركاته التناسبية المختلفة ليجعل من النسبة والتناسب بالألوان جماليةً تضفي على الشكل ألقاً وجمالاً، والعمارة بدورها يجب أن تتعامل مع الجمال والوظيفة والأصالة البغدادية في الطراز والتصميم وبمعاصرة وحداثة تتناسب مع معطيات كل زمان وتنسجم معها كمكان يحتفظ برونق الأصالة والمعاصرة من خلال استلهام التراث وبناء شرايين إبداعية تتجسد في ابتكار آليات وتصاميم جديدة تدرس العلاقة مابين البيئة العراقية كمناخ وبنية اجتماعية وسيكولوجية فضلاً عن العلاقة مابين البيئة والفكر الإنساني العراقي القديم و الإسلامي واستلهامه بطريقة إبداعية بعيدة عن العشوائية.ويركز الدكتور محمد مكية في طروحاته الفكرية على ضرورة استعادة (ذاكرة المكان) أو ما سماها (سومرية الوطن) التي أراد فيها أن يواجه التشويه الذي أزال التراث إذ تطرق إلى الخطأ الكبير في إزالة البيوت البغدادية القديمة أو البيوت التراثية في بعض المحافظات العراقية من اجل مشاريع قد تؤدي إلى اندثارها وتلاشيها بالكامل، كما دعا الدكتور مكية إلى أن رسالة الفنان والمهندس المعماري هي رسالة إنسانية تنطلق إلى العالمية ولا تتمسك بالإقليمية، إلا في مجال واحد يعطي تميزاً وهو التراث الإنساني، فهو يدعو إلى تأسيس مركز عراقي ثقافي متخصص يهتم بهذه الأمور ويجعل من أولوياته الحفاظ على الموروث المعماري والرموز البغدادية الأصيلة أو العراقية السامية التي أغنت العالم اجمع بمفرداتها الإنسانية ودلالاتها السامية.لم يكتف الدكتور مكية بتجسيده الخصوصية المكانية للتراث البغدادي في بلده، بل تعدى ذلك ليشمل مشاريعه المعمارية التي تعامل من خلالها بإشكالية الانتماء بين الرمز والمكان والتفاعل بينهما. كما كانت لطروحاته الفكرية والجمالية في ميدان الفن التشكيلي بوصفه أول رئيس منتخب لجمعية التشكيليين العراقيين نهاية الخمسينات من القرن الماضي واحد مؤسسي الجمعية،
لقد أكد الدكتور محمد مكية في معظم طروحاته الفكرية على وجود ثلاثة عناصر تشكل الأساس النظري في معظم أفكاره الإبداعية المعمارية وهي حقوق الإنسان، والمكان والزمان، ولابد للبناء أن يتكامل مع البيئة ويذوب فيها، ولا بد له أن يلبي حاجة الإنسان،لا أن يطمسها أو يتعالى عليها، كما لا بد له أن يتلاءم مع ظروف ومتطلبات العصر.