محمد مكية والمدرسة المعمارية العراقية المعاصرة

محمد مكية والمدرسة المعمارية العراقية المعاصرة

د.ابراهيم خليل العلاف
حينما يسألنا أولادنا وأحفادنا عن المدرسة المعمارية العراقية المعاصرة
، لانجد جوابا على سؤالهم سوى أن نقول لهم أن شيخ المعماريين العراقيين الأستاذ الدكتور محمد مكية هو خير من يمثل هذه المدرسة. ونضيف انه لم يتأثر بالتقنيات الغربية الحديثة في العمارة، ولم يكن أسير الخصائص والمفردات التقليدية العربية والإسلامية في العمارة ،وإنما هو من حاول المزاوجة بين التوجهين،

وكان من نتائج ذلك عمارة عراقية تعبر عن البيئة، وتأخذ المناخ بنظر الاعتبار، وهذا ينبع من أن هذا الرجل المبدع الذي يتجاوز اليوم الرابعة والتسعين من العمر متعه الله بالصحة والعافية اختار أطروحته للدكتوراه من واقع بيئته ،ومناخها الذي تتميز به ، وقد قدمها سنة 1943 بعنوان : "تأثير المناخ في تطور عمارة البحر الأبيض المتوسط " إلى جامعة كمبردج ببريطانيا بعد دراسة استمرت قرابة 11 سنة .وقد تزوج في لندن أثناء دراسته من مار كريت التي أصبحت تسمى بالسيدة ماركريت مكية، وكانت تدرس في دار المعلمين العالية ،بعد عودتها وزوجها من لندن اثر انتهاء دراسته ،وقد عين مهندسا في مديرية البلديات العامة وبعد فترة استقال وتوجه إلى العمل المعماري المستقل وسرعان ما عاد ليعين في جامعة بغداد ويغدو أستاذا في كلية الهندسة وبقي كذلك حتى غادر العراق إلى لندن سنة 1971 .
ولد محمد صالح عبد العزيز مكية في محلة صبابيغ الآل المجاورة لجامع الخلفاء ومنارته الشهيرة بمنارة سوق الغزل في بغداد سنة 1914 ،وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية فيها، وسافر سنة 1935 في بعثة لوزارة المعارف العراقية (التربية ) إلى بريطانيا والتحق بجامعة ليفربول، ودرس الهندسة المعمارية فيها وحصل على البكالوريوس سنة 1941، ومن الجامعة ذاتها حصل على الدبلوم في التصميم .قبل فترة قصيرة (2005 ) ، صدرت عن دار الساقي في لندن مذكراته وبعنوان : "خواطر السنين " . كما أن تصاميمه تنتشر على طول العالم وعرضه .. من بغداد فالبحرين فالكويت فالرياض بالسعودية ، فإسلام آباد بالباكستان فروما في ايطاليا فتكساس في الولايات المتحدة الأميركية .لقد طرز تصاميمه بالريازة العباسية، واستخدم الخط العربي، واستفاد من التقنيات الحديثة.. ويقف جامع الخلفاء ببغداد 1961 ، والذي يعد آية في الفن المعماري الإسلامي ،وبناية مصرف الرافدين في شارع البنوك ببغداد مثالا بارزا لمنجزات محمد مكية المعمارية . وقد قيمه عدد من الأساتذة والمفكرين والمعماريين العالميين، وأعطوه حقه، ووضعوه في مكانة متقدمة. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى ما قاله الأستاذ الدكتور محمد أركون أستاذ الفكر العربي والإسلامي في جامعة باريس "من أن محمد مكية نفخ حياة جديدة في العمارة الإسلامية وذلك من خلال دمج تراثها الغني بأفضل ما في الثقافة والتقنية الحديثة" .أما ولده كنعان مكية فقد ألف كتابا بالانكليزية عن والده قال فيه : "أن المصدر الأصيل الذي استلهم منه محمد مكية فنه هو طراز الريازة العباسية ... التي اتخذت سماتها التقليدية في القرن الثامن الهجري(الرابع عشر الميلادي ) .. أن ذلك الطراز كان أول مرحلة فعالة لظهور الأشكال المعمارية الإسلامية. لكن محمد مكية لم يكتف بتتبع خطى العمارة القديمة، أو مجرد محاكاتها بل حاول إحياءها وفقاً لموهبته الشخصية، وتطعيمها بالأشكال الحديثة. وقد هيئ له تطوير أساليب العمارة التقليدية وتحويلها إلى أسلوب يلاءم هذا العصر)). ولمكية مشاركة في تأليف كتاب "بغداد "الذي نشرته نقابة المهندسين العراقيين ثم ظهرت له عن دار الساقي في لندن طبعة جديدة .
صمم بنايات كثيرة على مستوى العالم، ففي العراق، فضلا عن جامع الخلفاء، صمم بناية جامعة الكوفة (1969 ولم ينفذ )، وفي البحرين صمم بوابة مدينة عيسى وفي الكويت صمم المسجد الكبير ،وفي إسلام آباد في الباكستان صمم جامع إسلام آباد، وفي مسقط بعمان صمم جامع السلطان قابوس الكبير، وفي تكساس بالولايات المتحدة صمم جامع تكساس، وفي روما صمم جامع روما .هذا فضلا عن عشرات البنايات التي صممها منذ الستينات وحتى التسعينات من القرن الماضي في بغداد والبصرة وكربلاء وغيرها ومنها بنايات لمصرف الرافدين ولجوامع ولدواوين حكومية ولمكتبات ولبيوت شخصيات منها بيت الدكتور فاضل الجمالي (رئيس الوزراء العراقي الاسبق ) في الاعظمية ببغداد ودارة الأميرات في المنصور، ومبنى المستوصف العام على ساحة السباع 1949 ،ومبنى بلدية الحلة 1951 ، وفندق ريجنت بالاس بشارع الرشيد 1954 . وكانت تصاميمه تحظى- باستمرار- بالتقدير والتكريم، وتفوز عن طريق لجان التحكيم، ومن الطريف ،انه وفي هذه السن يطمح لإعادة اعمار بغداد مدينته التي يحبها ويعشقها ولايمكن أن ينساها .
في لندن، ومنذ منذ سنة 1987 ، افتتح "ديوان الكوفة " وهو عبارة عن منتدى للحوار الحضاري والثقافي والمعماري ،وقد استقطب فيه كبار المثقفين العراقيين وغيرهم وقد أغلق الديوان اليوم بعد 20 سنة من النشاط بسبب كبر سن الدكتور مكية ،ورغبته في الهدوء والتأمل .
تحدث قبل سنتين إلى الدكتورة وحيدة المقدادي، التي زارته في بيته في لندن، وكتبت عن ذلك الحوار في جريدة الشرق الأوسط (16 كانون الثاني –يناير 2008 ) فقال لها أن : «لكل مدينة هويتها، ولو طُلب مني تصميم جامع في لندن لأعطيته ملامح إنجليزية. في نظري أن الجغرافيا أكثر صدقا من التاريخ!». وأضاف مكية يقول : " أن المصمم المعماري يحمل مسؤولية كبيرة تجاه البيئة والكرة الأرضية ككل، وفلسفته في هذا الجانب تنبع من جذور دينية وإيمان بتعمير وصيانة الأرض حسب إرادة الخالق سبحانه وتعالى" .
وقد استذكر محمد مكية ذكرياته عن بدايات اهتمامه بالعمارة فقال : «وجدت منذ وقت مبكر، أن تفكيري وغاياتي في التخطيط العمراني، تنسجم مع النصوص القرآنية، وكان تفكيري ينصب دائما على الهدف العام قبل الخاص. أي مراعاة المصلحة البيئية العليا عند التخطيط لأي مشروع». وأضاف : «دائما أضع في اعتباري حقوق الإنسان والمكان والزمان. فهذه العناصر الثلاثة تشكل أساس نظريتي في التصميم المعماري. لا بد للبناء أن يتكامل مع البيئة ويذوب فيها، ولا بد له أن يلبي حاجة الإنسان ،لا أن يطمسها أو يتعالى عليها، كما لا بد له أن يتلاءم مع ظروف ومتطلبات العصر». ويستطرد متحدثا بشيء من الأسى عن الحالة العمرانية الراهنة في المدن العربية: «منذ عام 1950 ونحن نحذر من خطر الانتشار العمراني السرطاني في المدن العربية. اليوم نجد أن المدن العربية مصممة لاستيعاب السيارات أكثر مما هي مصممة لتوفير الراحة لسكانها. أحترم الحاجة إلى الآلة أو السيارة ،لكني أفضل أن أعطي السيارة فضاء داخليا، وأن أترك الفضاء الخارجي لراحة الإنسان. لنتصور مدى الضرر الذي يسببه كل هذا الإسفلت الموجود في شوارعنا وساحاتنا في الجو الحار. تفكيري كان دائما منصبا على راحة الإنسان ومساعدته على سرعة التنقل بين أجزاء المدينة، وتقليل مستوى الدخان والزيت والتلوث. وها نحن اليوم نرى الحكومات الغربية تصدر تشريعات متشددة، تدعو إلى التقليل من استهلاك أكياس البلاستيك والوقود بعد أن ارتفعت حرارة الأرض. لا بد لي أن أشير هنا إلى مدينة برشلونة كنموذج ناجح في التخطيط السليم للمدن».
لم يكن الدكتور محمد مكية بعيدا عن النشاط المجتمعي، والثقافي، والفني وإنما كان منغمسا في كل ذلك، فهو من أسس قسم الهندسة المعمارية في كلية الهندسة بجامعة بغداد سنة 1959 ، وهو من أسس مع عدد من زملائه أمثال جواد سليم ونزيهة سليم وخالد الجادر وخالد القصاب ورفعت الجادرجي واسماعيل الشيخلي وفرج عبو وقحطان المدفعي وغيرهم ،جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في بغداد سنة 1955، وقد أصبح رئيسا للجمعية .وفي سنة 1967 اختير عضوا في المجلس الدولي للنصب التذكارية في روما بايطاليا .
في 27 نيسان –ابريل 2006 استضاف قسم الهندسة المعمارية بكلية الهندسة –جامعة بغداد الأستاذ الدكتور محمد مكية، وأقام له حفلا تكريميا تحدث فيه مكية عن ذكرياته حول القسم وقدم جانبا من آرائه في العمارة ومما قاله -منقولا عن مقال كتبه الأستاذ معتز عناد غزوان- في صحيفة اتجاهات الالكترونية : " ان التراث العربي والإسلامي سيظل دلالة زمكانية تروي قصة التاريخ والحضارة لأجيال وأجيال " . كما دعا إلى تأسيس مدرسة معمارية بغدادية متخصصة بالتراث البغدادي، والرموز العراقية الإنسانية التي تعد عماد الحضارة الإنسانية في العراق قديماً وحديثاً، وقد ركز على ضرورة دراسة الفضاء الداخلي والخارجي في تصميم العمارة المعاصرة والتعامل مع ذلك التصميم على نظام أو نهج يتكون من ثلاثة عناصر مهمة، وهي الإنسان (القيم والفكر والحياة الاجتماعية وغيرها من عوامل التأثير والتأثر التي يخضع إليها الإنسان)، والمكان (مسرح الحياة)، والزمان ، فلا زمان بلا مكان ولا مكان بلا زمان، إذ أشار الدكتور مكية إلى أن هذا النظام، هو ما يجعل من تلك العمارة هويةً وخصوصية عراقية بغدادية أصيلة. ففضلاً عن استخدام الرموز العراقية القديمة كانت منها أو الإسلامية فقد استخدم الدكتور مكية الخط الكوفي ،وتصاميم حروفية متعددة، وقال أن العمارة بدورها يجب أن تتعامل مع الجمال، والوظيفة، والأصالة البغدادية في الطراز والتصميم، وبمعاصرة وحداثة تتناسب مع معطيات كل زمان وتنسجم معها كمكان يحتفظ برونق الأصالة والمعاصرة من خلال استلهام التراث وبناء شرايين إبداعية تتجسد في ابتكار آليات وتصاميم جديدة تدرس العلاقة مابين البيئة العراقية كمناخ ،وبنية اجتماعية وسيكولوجية فضلاً عن العلاقة مابين البيئة والفكر الإنساني العراقي القديم و الإسلامي واستلهامه. ودعا الأستاذ الدكتور محمد مكية، إلى ضرورة استعادة (ذاكرة المكان) أو ما اسماها (سومرية الوطن) التي أراد فيها أن يواجه التشويه الذي أزال التراث، إذ تطرق إلى الخطأ الكبير في إزالة البيوت البغدادية القديمة أو البيوت التراثية في بعض المحافظات العراقية من اجل مشاريع قد تؤدي إلى اندثارها وتلاشيها بالكامل، كما أكد بأن رسالة الفنان والمهندس المعماري، هي رسالة إنسانية تنطلق إلى العالمية ولا تتمسك بالمحلية أو الاقليمية فقط إلا في مجال واحد يعطي تميزاً، وهو التراث الإنساني ، لذا دعا إلى تأسيس مركز عراقي ثقافي متخصص يهتم بهذه الأمور ويجعل من أولوياته الحفاظ على الموروث المعماري، والرموز البغدادية الأصيلة أو العراقية السامية التي أغنت العالم اجمع بمفرداتها الإنسانية ودلالاتها السامية.
كتبت السيدة ميسون الدملوجي على صورة تجمعها مع المعماري مكية:ـ

أعزائي وزملائي
أسعدت مساء الأمس بزيارة استاذنا الكبير د. محمد مكية، والذي قارب عمره وعطاؤه قرناً من الزمن. كعادته، كان محاطاً بالكتب والتخطيطات التي يضع فيها تصوراته وأحلامه لمستقبل أفضل لحواضرنا. عاتبني كثيراً: أين جمعية المعماريين؟ لماذا لم تحافظوا على تراث المدن؟ لماذا لا تمنعون السيارات في المدن القديمة؟ أين مشاريع المواصلات العامة؟ أين مجلس الاعمار؟ ماذا فعلتم لتحسين البيئة؟
وقال انه يبحث عن خريطة حديثة للعراق، فيها شيء من التفاصيل عن الحدود الادارية للمحافظات، الا انه لم يستطع العثور ليها.. وهو يطمح أن يضع بعض تصوراته للعلاقات بين المحافظات..
أبلغته تحيات كل أصدقائه ومحبيه، وتمنياتهم له بالصحة وطول العمر والعطاء..
د. مكية قدم للعراقيين في بريطانيا ما عجزت عنه كل الحكومات والسفارات العراقية، واستطاع لملمة شتاتهم على مدى عقدين من الزمن في قاعة الكوفة التي كانت ملاذا لنا جميعاً، من خلال ندوات ومعارض وأمسيات تعيد الدفء لقلوبنا المغتربة.. وبأعلى المستويات الفكرية.. بالإضافة الى عطائه المستمر، من تأسيس القسم المعماري في بغداد، وعمله الدؤوب على تعليم الشباب اهمية وقيمة موروثهم، وحرصه على الحفاظ على الثقافة العراقية بكل أشكالها.. بالإضافة الى جديته في معالجة الحداثة ضمن الأطر المحلية العراقية.
د. مكية ليس معماراً فحسب، وانما نمط متكامل واسلوب متجانس من الحياة البغدادية الجميلة.