يوسف مسكوني.. كما عرفته

يوسف مسكوني.. كما عرفته

يوسف اسعد داغر
اديب لبناني راحل
ربطتني بالراحل العزيز يوسف مسكوني اواصر متينة من الصداقة والمحبة والاخاء امتدت اكثر من ثلاثين سنة لم تجتمع خلالها سوى مرة واحدة لاغير وذلك في مهرجان المربد الذي اقيم في البصرة في مطلع نيسان 1971 حيث اتيح لي ان القاه وقرينته الفاضلة فتحقق بهذا اللقاء ما كنت اطمع دوما فيه وارنو اليه وقد قيض لي الله

ان اراه وان اجلس اليه واستمتع بلطفه وانسه وعلمه بعض سويعات سمحت بها وهيأت اسبابها نشاطات المهرجان. فكان لقاء جاء خاتمة المطاف وكان وداعا اخيرا لم يكن احد ما يتوقعه بمثل هذه السرعة.
وجاء هذا الاتصال الاول والانطباعات التي ارتسمت في اعماق النفس من هذا اللقاء العابر ينسجم كل الانسجام، مع ملامح الصورة التي استقرت للمرحوم يوسف في ذهني من خلال الاتصالات الفكرية التي قامت بيننا خلال ربع قرن واكثر وعبر هذه الرسائل التي طالما تبادلناها بمناسبات عدة كتبادل المعايدات عند حلول الاعياد.
من سمات هذه الصورة الذهنية التي استقرت في النفس، اتصافه بالادب الجم واللطف والكياسة وطلاوة الحديث، الى نضج في التفكير، وحذق في الرأي والاحكام وبعد نظر في ما يعرض له من امور او يواجه من مشكلات، وكنا نتحاور ونتبادل الاراء حول تربية الاولاد، والسهر على نموهم وتطورهم العقلي والروحي والاخلاقي، ووجوب تسليحهم للحياة ليشبوا رجالا ينهضون بالمسؤوليات التي ستترتب عليهم في المستقبل الطالع. وكان حديثه حديث اب عطوف، مستنير العقل ناضج الفكر، عميق التجربة في الحياة ، نشعر في الحديث معه او من خلال قراءة رسالته بمقدار اهتمامه البالغ باولاده، وحرصه على تامين كل ما يكفل لهم صحة الجسم وصحة العقل، ويغرس في قلوبهم ونفوسهم: الصدق والاخلاص والثقة بالنفس، وحسن الاستعداد للخدمة بحيث يكونون خميرا صالحا في جيلهم وبيئتهم. هذه الصفات وجملة من مكارم الاخلاق تبينتها في قلب فقيدنا العزيز من خلال ما كان يواصلني من رسائل تنبض بالعطف والحنان على اسرته واولاده كما كانت تفيض بالاخلا والوفاء لاصدقائه وخلانه، وحسن استعداد للخدمة. كل هذ تبدى لي من سرائره وقد جاءت ملازمتي له خلال مهرجانات المربد في البصرة، والاستماع الى احاديثه الحلوة، مصداقا وتاييدا للصورة التي استقرب له في اعماق نفسي سويعات نعمت فيها بلقائه مع زوجته الفاضلة، الا انه لقاء قصير تعاهدنا على مواصلته بعد رجوعنا الى بغداد ، فجاء القدر الغاشم يبعث بهذه المواعيد وبالامل في اتصالات لاحقة فيفجعنا بوفاته على حين غرة من الجميع، ليخلف وراءه اللوعة والحسرة والاسى.
بين ملامح هذه الصورة الخلقية والنفسية التي ارتسمت على لوح فليس ليوسف مسكوني، فاستهوتي وجعلتني اطمع في لقياه واصبوا الى رؤيته تقاطيع اخرى برزت معها معالم رجل من رجال الفكر والادب والتحقيق في العراق الحبيب، من يلق نظرة عابرة على جملة مؤلفاته وآثاره الادبية يتبين فيها باحثا مدققا عمل جاهدا في حقل الاحياء العلمي كما عالج العديد من القضايا التاريخية التي تتصل بتاريخ العراق عامة وتاريخ المسيحية فيه خاصة. فقد كشف لنا عن مدن العراق القديمة عندما راح ينقل لنا كتاب (مدن العراق القديمة لدورتي مكاي). عرف اديبنا الكبير بالتحقيق العلمي، فحرص على الاحاطة بالموضوع الذي يعالج احاطة تامة بحيث ينفض عن موضوعه كل ما خفي من شؤونه، واني لاذكر بهذه المناسبة عددا من الرسائل شرفني بها، وهو يمد كتابه: "من عبقريات نساء القرن التاسع عشر عند العرب".. يطلب فيها الى تزويده بما لدى من المصادر والمراجع الخاصة بمريانا المراش ووردة اليازجي ووردة الترك. وغيرهن من الاديبات اللواتي ترجم لهن في كتابه المذكور، الذي صدر في بغداد عام 1946 ان لم تخني الذاكرة. فقد كان حريصا الحرص كله، على ان يحيط بموضوعه من كل جوانبه، وان يجمع مصادره ومراجعه، ولو من الصين، فكيف بلبنان وله فيه اخ حبيب يفخر بصداقته وبقدره عاليا.
وهكذا نرى ان الكتب التي حققها راحلنا العزيز واحياها بالنشر امتازت بالدقة العلمية والتتبع الدؤوب، بحيث اتت مخدومة وميسرة، يسهل تناولها والافادة منها باسرع ما يكون. وقد تميزت الكتب التي عمل عزيزنا الراحل على تحقيقها منفردا او مشاركا من (رسالة يعقوب بن اسحق الكندي في حوادث الجو) الى (تاريخ سني ملوك الارض والانبياء) لحمزة بن الاصفهاني الى (رسائل في النحو واللغة) وغيرها مما نضرب صفحا عن ذكرها هنا، بالضبط الاسر والخدمة المحققة الامر الذي يجعل من فقيدنا الغالي يوسف يعقوب مسكوني عالما فاضلا ومؤرخا مدققا بين محققي العراق ومؤرخيهم اليوم. ونحن نعرف ان المرحوم يوسف ترك اثارا اخرى لم يفسح له الاجل في اخراجها للناس كما انه كان يعمل على تحقيق بعض المخطوطات الاخر، على ان الموت اختطفه من بين اهله ومحبيه مخلفا وراءه اللوعة والاسف.
وهكذا نرى ان فقيدنا العزيز كان في حياته كزوج واب وعالم حقا لا يتحذى وصورة كاملة للرجل الفاضل الذي وصفه لنا الشاعر عندما يقول فيه:
كانك من كل النفوس مركب
فانت الى كل الانام حبيب
وهل من عجب بعد هذا ان تجتمع الصفوة من اصحاب يوسف مسكوني واصدقائه ومقدري فضله ليشهدوا فيه شهادة حق، هي للحق والتاريخ ذكرى وعبرة وذكرى الصديق تدوم الى الابد.
من رسالة خاصة ارسلها يوسف اسعد داغر
بيروت في 1/11/1971