السياب كما عرفته

السياب كما عرفته

خالص محيي الدين
شخصية ديمقراطية تقدمية
تخرج السياب في كلية دار المعلمين العالية سنة 1948 وكان من المفروض ان يتخرج سنة 1947 إلا انه فصل من الدراسة وهو في السنة الثالثة وكانت مدة الفصل سنة دراسية واحدة وذلك على اثر اضراب طلابي حدث في الكلية وكان السياب من نشطائه بل من قادته.

عاد الى الدراسة بعد انقضاء مدة فصله، التحق في السنتين الاولى والثانية في قسم اللغة العربية ثم انتقل في السنة الثالثة والرابعة الى قسم اللغة الانكليزية، اكمل الدراسة وعين مدرسا في ثانوية الرمادي لتدريس اللغة الانكليزية، حين ذهب الى الرمادي كان السياب بر ما بالحياة بعد فشله في حب او توهمه انه به، سكن المدينة اياما قليلة غريبا محبطا خائبا منقبض النفس خائفا مما سيلاقيه من مصير سياسي مجهول اثناء الهجمة الشرسة التي تعرض لها الحزب الشيوعي العراقي والحركة الديمقراطية سنة 1948 بعد اعلان الاحكام العرفية بحجة حماية مؤخرة الجيش العراقي الذي شارك في حرب فلسطين بعد صدور قرار هيئة الامم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود وكان حصيلتها زج المئات من الديمقراطيين والشيوعيين في السجون واعدام قادتهم، وكان السياب ممن اعتقل وفصل من الخدمة.
في بداية سنة 1951، جاء السياب الى بغداد وعين موظفا في المديرية العامة للاموال المستوردة. كان في عنفوان نشاطه الادبي، كتب عدة قصائد كانت منها مطولته (المومس العمياء) ثم كتب بعدها (الاسلحة والاطفال) وقد شغلت هذه القصيدة ثلاثة وعشرين صفحة في ديوانه (انشودة المطر)، حين كتب السياب قصيدته "الاسلحة والاطفال" كانت حركة السلام العالمي في اوج نشاطها، كان يترأسها انذاك العالم الفرنسي فريدرك جوليو كوري وانتشر صداها في العراق وبالاخص العاصمة بغداد باعتبارها مركزا للثقافة والعلم والحراك السياسي، ضمت حركة انصار السلام وادباء ، شعراء، فنانين، محامين، مسرحيين، اساتذة جامعيين، ورجال دين، امثال المرحوم الشيخ عبد الكريم الماشطة، والمرحوم الشيخ الشبيبي والد الشهيد حسين الشبيبي في ذلك الجو العاصف من الحراك السياسي كتب بدر "الاسلحة والاطفال" يندد فيها بالحرب ويدعو للسلام بخيال شاعر مبدع لا كسياسي.
لقد كان السياب شاهدا ورقيبا على هموم وتطلعات عصره لقد سمعت ادناه طبول الحرب العالية الاولى تدوي بما كان يتحدث عنها في حدود بيته الذي عاشه مع جده، وعان مع جيله مرارة الحرب العالمية الثانية وان لم تمسه نارها.
كانت القصيدة تدور حول فكرة مكثفة فحواها ان العالم يعيش تهديد حرب عالمية ثالثة كانت تلقي بضلالها على العالم وعلى الانسانية تقع مهمة ايقافها والا الفناء المحتوم للانسانية والتراث الحضاري.
استأجر السياب واخوه المهندس عبد الله دارا في محلة السنك، كان يستلقي ظهرا بعد رجوعه من عمله لاخذ قسطا من الراحة، تدعى عند اهالي بغداد "القيلولة" كان يسمع من بعيد او قريب صوتا ينادي، حديد عتيق للبيع، جرباية عتيكة للبيع، رصاص نحاس الى غيرها من الاغراض المعدنية القديمة تشترى من الناس لتجمع وتصدر خارج العراق بما يعرف "السكراب" خطرت في مخيلة شاعرنا المبدع ان هذه الاغراض من الحديد والرصاص والنحاس وغيرها من المعادن المشتراة تصدر وتصل الى الدول الكبرى لتتحول في مصانعها العسكرية الى بنادق ورشاشات ومدافع وغيرها من اسلحة الحرب والدمار، فيكون من ضحاياها الاطفال الابرياء.
ارى من المناسب ان اسمعكم شذرات منها للذي لم يقرأها او يسمع بها فهي من القصائد التي احدثت في وقتها دويا في الاوساط الادبية والسياسية في العراق وخارجه.
يقول في مطلعها واصفا الاطفال في برائتهم ومرحهم:
عصافر ام صبية تمرح
عليها سنا من غد يلمح
واقدامها العارية محار بصلصل في ساقيه
لاذيالها زفة الشمال
سرت عبر حقل من الستايل
وهسهسة الخبز في يوم عيد
وغمغمة الام باسم الوليد
تناغيه في يومه الاول
ثم يخاطب المنادي المشتري للحديد والرصاص:
لك الويل من تاجر اشام
ومن خائض في سيل الدم ومن جاهل ان ما يشتريه
لدر الطوى والردى بنيه
قبور يوارون فيها بنيه
حديد عتيق، رصاص، حديد، حديد عتيق لموت جديد ثم ينتفض شاعرنا ويغضب ويقسم قسما غريبا، يقسم باقدام الاطفال الحافية:
باقدام اطفالنا العارية، يمينا بالخيز والعافية
اذا لم تعفر جباه الطغاة على هذه الارجل الحافية
وان لم تذوب رصاص الغزاة حروفا هي الانجم الهادئة فمنهن في كل درب كتاب ينادي قفي واصدأي باحراب وان لم تضو القرى الناجية فلا ذكرتنا بغير السياب او اللعن اجيالنا الاتية
قسم عظيم وتحد وغضب عارم
وكما اسلفنا فان القصيدة طويلة بأخيلة غريبة ومفردات قلما استعملت في الشعر العربي، اخيلة لا تلتقطها غير مخيلة شاعرنا الخالد، الذي صور فيها الطفولة في عالم كرمه متجهم، انها توضح بشكل فذ عالم الاستعمار المقيت وترسم الازهرار وسط الاحداث القاتمة بشكل مرعب، وتنشر الالوان الماساوية وسط مظاهر الامل والترقب والايمان بالخلاص والغد المشرق.
حديد عتيق، حديد حديد.
ومن يفهم الارض ان الصغار يضيقون بالحفرة الباردة؟
اذ استنزلوها وشط المزار، فمن يتبع الغيمة الشاردة
ويلهو بلقط المحار؟
ويعدو على ضفة الجدول؟
ويسطو على العش والبلبل ومن يتهجى طوال النهار ويلتغ الراء في المكتب
ومن يرتمي فوق صدر الاب
اذا عاد من كده المتعب
اسى موجع ان يموت الصغار حديد عتيق ورعب جديد حديد رصاص، لان الطغاة يريدون ان لاتتم الحياة مداها
والا يحس العبيد بان الرغيف الذي ياكلون امر من العلقم
وان الشراب الذي يشربون اجاج بطعم الدم ملحمته المفقودة فجر السلام
تعرفت على الشاعر الراحل في بداية سنة 1951 حين كنا موظفين في المديرية العامة للاموال المستوردة. كان مديرها العام المرحوم ناظم الزهاوي ومعاونه خالد الذكر الشهيد زكي عبد الوهاب كان عملنا في الاعم خارج الدائرة وتحديدا في محطة غربي بغداد ، كنا نجلس في مقهى متواضع بانتظار انجاز المعاملات المكلفين بها وهي اخراج البضائع المستوردة لحساب الدائرة من دائرة الكمارك، واثناء جلوسنا كنا نتحدث بامور شتى اهمها ما يدور في المعترك السياسي وما يتعلق بالفن والادب وما يكتبه الصحف اليومية. كانت بغداد في سنوات الخمسين في مخاض وحراك في السياسة والادب والفن، فانجذب احدنا للاخر وتوطدت بيننا علاقة متينة واحب كل منا الاخر حبا صادقا يصل بيننا فكر وموقف.
كما نلتقي عصرا في مقهى البرازيلية او مقهى حسن عجمي او مقهى عارف اغا في الحيدر خانة واحيانا نقضي سهرتنا في مشرب او مشاهدة فيلم.
ويوما قال لي هامسا ان السجينة الشيوعية عمومة مير مصري ارسلت له من سجن النساء رسالة ترجوه وتطلب منه ارسال قصيدته "فجر السلام" ولم اسمع منه حينذاك انه نظم ملحمة شعرية بهذا الاسم فقراها لي واعجبت بها ايما اعجاب ثم سكت وقال خذها واكتبها انت خوفا من ان تقع بيد سلطات الامن وعند ذاك اتعرض للمسائلة والاذى خاصة اذا كانت بخط يدي، فقبلت التكليف وكتبتها واحتفظت بالنسخة الاصلية التي كانت بخطه، ثم كلفني ثانية ان اكتب له قصيدته "رفيقة الطريق" ونشرها في ديوانه "انشودة المطر" باسم "يوم الطغاة الاخيرة" شارحا تحتها "اغنية ثائر عربي من تونس لرفيقته "وهناك بعض الاختلاف والنقص والزيادة عما كانت عندي علما اني احفظها عن ظهر قلب، ولا اعلم ان كانت القصيدة "فجر السلام" قد ارسلت ووصلت الى سجن النساء ام لا حيث لم اسأل بدر عنها.
بعد مدة اتصل المحامي حمزة سلمان بالسياب واقنعه بنشرها في كراس باعتبارها من نشريات حركة انصار السلام، كان ذلك في بداية سنة 1952 وتولى كل من المحامي حمزة سلمان والمحامي عدنان عبد القادر مهمة الاشراف على طبعا وفعلا طبعت بكراس وكان الغلاف يحمل صورة طفل في المهد، الا ان السلطات الامنية كبست المطبعة وصادرت المطبوع منها، لكن اعداد قليلة منها هربت من المطبعة ووزعت سرا على عدد قليل من المهتمين بشؤون الادب وحركة السلام.
ولاعجابي بها بقيت في ذاكرتي بعضا من ابياتها واعتقد جازما ان ليس في العراق من يعرف هذه الابيات او سمع بغيرها. وارى من المفيد للقارئ او السامع العزيز ان يطلع عليها زيادة في معرفة هذا الشاعر المبدع وتخليدا لذكراه، واستميحكم عذرا ان اقرأ ما ظل عالقا في ذاكرتي منذ اكثر من خمسين عاما يقول:
لا شهوة الموت في اعراق جزار
تقوى عليها ولا سبل من النار الموت اوهى يدا من ان يصافحها وهي التي مدت الموتى باعمار وهي التي لمت الاحقاب واعتصرت
مما انطوى في دجاها فيض انوار
ومست لصخر فاخظلت جوانبه
بالسنبل الغض والريحان والغار
هذي اليد السمحة البيضاء كم مسحت
جرحا وكم ازهقت انفاس جبار
وسمرت نعش طاغوت بما شرعت
كفاه من خنجر يدمي واظفار يستمر شاعرنا.
بهذه المقدمة من الشعر العمودي الجزل ليرسم صورة للحرب واخرى للسلام وكانه يعقد مقارنة بين الدمار التي تخلفها الحروب وبين البهجة والفرح التي يصنعها السلام
يرسم فيها صورة للحرب وما يلاقيه الانسان عند نشوبها – يقول:
صور لنفسك في الخيال اباك في وسط الحريق
يدعوك بالصوت الابح
وقد تخبط كالغريق
ويمد من خلل الدخان يديه
يبحث عن طريق
وانظر لامك وهي ترقد
في التراب على قفاها
تتجاذب العقبان ثدييها
ويقفأ ناظراها زتلق من
دمها الكلاب وينخر الدود الشفاها
وتملئ زوجك وهي تركض
بين اشباه الجياع
شعثاء تلهث والرياح
تصكها دون انقطاع
حملت قميصك في ذراع
والرضيعة في ذراع
ثم يعود ليرسم لنا صورة جميلة لليلة شتائية سامرة يظللها الامن والسلام فيقول:
وكانما ردت اليه صباه اخيلة الصلاء
مازال يقرأ والصغار يضاحكونك في الخفاء
وانظر لامك اي عجب يزدهيها
عادت على الصوت الرتيب
الى الغوابر من سنيها
فتصورته فتى
يجمع ساعديه ويحتويها
والقصيدة كلها تنتقل بين الحرب والسلام صور مرعبة واخرى مبهجة.
بقيت احتفظ بهذه الملحمة الشعرية المكتوبة بخط السياب سنين طويلة اعتزازا بصداقتي له وحفاظا لاثر مهم من اثاره الشعرية. ولكن كانت يد الغدر والجريمة اقوى عندما حدث انقلاب 8 شباط سيء الذكر واحرقت مع ما احرق مما اعتز به والان اشعر بالحزن والاسى لفقدي وضياع هذا الاثر القيم لشاعرنا المبدع.
واخيرا اقول ان السياب هو احد الشعراء الذين سحقهم قدرهم وعاشوا امر التجارب واقساها سواء في الظروف الشخصية الخاصة والعاطفية والمعاشية والظروف الاجتماعية والسياسية خاصة، لكن يظل السياب طودا شامخا ونجما ساطعا في سماء الادب العربي ومنار للاجيال عبر السنين شأنه شان الشعراء العظماء امثال المتنبي والبحتري والنواسي وشوقي والجواهري وغيرهم من الشعراء الخالدين والافذاذ.
وخير شهادة لما قدمته على مسامعكم قول الكاتب والناقد الكبير الاستاذ الراحل جبرا ابراهيم جبرا في الذكرى الثامنة لوفاة السياب المنشور في مجلة الاقلام سنة 1973.
"سيبقى بدر شاكر السياب موضوعا لحديث كبير ودرس كثير ونقد كثير لاجيال، وكلما مرت السنون على وفاته ازداد وضوح الدور الكبير الخلاق الذي لعبه شعره في الخمسينات...
لقد اعطى السياب ابعاد الماساة، وتمكن من ابداع رموز، جذورها عربية ومعانيها كونية، مما لم يتحقق في تاريخ الادب الا على ايدي اكبر الشعراء". فالسياب شاعر عاش بحق ظروف عصره، كما قدم للعراق والامة العربية ما ابدعت موهبته من اعمال شعرية زين بها جبين العراق.
نستطيع مما تقدم ان نستخلص من سيرة حياته تلك الخطوط والظلال بل الالوان التي اسهمت في رسم تلك اللوحة التراجيدية المسماة بدر شاكر السياب.