نجيب محيي الدين كما عرفته

نجيب محيي الدين كما عرفته

أمجد حسين
ما الذي يجعل الكتابة عن إنسان مثل نجيب محي الدين صعبةً على شخص مثلي عرف هذا الأنسان على أمتداد ما يزيد عن نصف قرن ، و مارس الكتابةً و النشر ، تأليفاً و ترجمةً ، على أمتداد ما يزيد عن ستة عقود ؟ الجواب ببساطة : إنه فيض المشاعر الأيجابية تجاهه الذي يصعب علينا (أو على أغلبنا) نحن العرب أن نعبر عنه (أو نعلنه) إلا في حالات التملق (المعبر عنه تأريخياً في قصائد المديح!) .

إزاء هذا ،أو في غياب دواعي التملق ، سأفصح عما يحمله قلبي و عقلي ، كلاهما ، تجاه نجيب محي الدين .
أولى سماته أنه لا يتغير ، بمعنى : لا يتلون (وليس بمعنى :لا يتطور) . فمنذ عرفته في أواخر العام 1959 حتى اليوم بقي " لونه " ثابتاً ، رغم كل " شموس " السلطة التي لونت بأشعتها بشرة الكثيرين . و هنا ، رب سائل يستفهم عن لون " بشرته " العقلية و السلوكية .هو الذكاء البناء و الأستقامة و الأنفتاح و تحمل الأوزار و التواضع و أنعدام الكراهية و صدق المحبة ( التي تقترب أحياناً من الحب ، الذي أفرده للراحلة الغالية غفيفة يوسف عثمان ، شريكة عمره حتى بعد رحيلها ) .
فإذا تناولنا سمة " تحمل الأوزار "،مثلاً، لن يغيب عن بالي ما أصابه من الأنتقاد ( بل ، من جانب البعض الوقح: السخرية و الشتيمة ) لقاء عمله نقيباً للمعلمين في نقابة عجت إدارتها ( في دورتين فاعلتين و دورات خارج مقرها ) بعشرات الشيوعيين و اليساريين و الديمقراطيين الذين كانوا موضع نقد و إفتئات و شتيمة و أعتداءات بدنية و إغتيالات ( ممدوح الألوسي ، مثلاً ) و ، غداة الثامن من شباط 1963 الدموي ، الفصل و العزل و الأعتقال و التعذيب و الأعدام ( متي الشيخ ، مثلاً ) . حدث كل ذلك دون أن يتزحزح الأستاذ نجيب،
الوطني الديمقراطي ، عن تحالفه أو يساوم عليه أو - تحت أي ضغط كان - يسيء أليه . و لم يبرهن على ثبات موقفه هذا أمام المئات من أصدقائه و معارفه و زملاء عمله النقابي ، بل جاء الأقرار بذلك حتى من جانب جلاوزة معتقليه أنفسهم .
في (نقابة المعلمين ) تزاملنا في 1959 و 1960 تحت لواء ( القائمة المهنية ) التي لم تقتصر مساهماتها الوطنية على تأسيس أول نقابة علنية فاعلة للمعلمين في ظروف التآمر الوحشي على الوطنية العراقية ،بل تعدتها الى ترجمة معنى ( النقابة ) - لأول مرة في تأريخ العراق - الى منجزات معنوية و حياتية للمعلمين و ذويهم ، منها : تأسيس (جمعية بناء المساكن لأعضاء نقابة المعلمين ) و تفعيلها ( منها ، مثلاً ، توزيع 1000 قطعة أرض سكنية في محافضة بغداد فقط ، ناهيك عن المحافظات الأخرى ) ، و تأسيس و تشغيل( الجمعية التعاونية الأستهلاكية ) ، و فتح ( دور حضانة لأبناء المعلمين ) حول سفاحو 8 شباط إحداها الى مسلخ للتعذيب، و إنشاء ( صندوق ضمان ) ، و تعضيد نشر كتب مؤلفوها معلمون ، وعقد المؤتمر المحلي للمعلمين الأكراد ( مرتين ) و المؤتمر المحلي للمعلمين التركمان ، و التنسيق مع وزارة المعارف لتأمين مكتسبات للمعلمين ( منها : زيادة أجور المحاضرات الأضافية ، مجانية الأقامة في غرف الدرجة الأولى في المستشفيات ، نقل المعلم الى بغداد في حالة قبوله في جامعة بغداد ( الوحيدة في العراق يومذاك) ، و كذلك نقله الى بغداد في حالة قبول احد أبنائه في كلية ليس فيها قسم داخلي ، منح المعلمين حق الأعتراض على نقلهم ).
وفي الجانب الأعلامي ، أصدرت النقابة مجلة ( الأجيال ) الشهرية ( تحت أشراف ياسين طه حافظ)، و ساهم ( بتكليف من نجيب محي الدين ) نقابيون في الكتابة في صفحة التربية و التعليم من جريدة ( المواطن ) - التي أصدرها الراحل كامل الجادرجي في 1961 - بأشراف غانم حمدون و كاتب هذه السطور .
و بالنسبة ألي ، كان عملي في نقابة المعلمين ( بصفتي نائباً لرئيس فرع بغداد ) مع نخبة ً راقية و ناكرةً لذواتها و مكرسةً نشاطها و معظم ساعات يومها لخدمة آلاف الآخرين بمثابة التعرف على جنة على الأرض ( ليس أقل ثمارها التعرف على ، ثم الأقتران بشريكة حياتي و أم أولادي ، سعاد العلي ) .
لم تنقطع علاقتي (العائلية بعدذاك) بنجيب محي الدين حتى بعد أن أفلح حلف المتآمرين ( الذي ضم الحكومة و أعداءها معاً ! ) في سلب ( النقابة ) في 1961 ، بل شرفني نجيب بأختياره لي ، ضمن مجموعة من أساتذة الجامعة المستقلين ، لحضور لقاءات مع الراحل كامل الجادرجي في داره لغرض التداول و التشاور بشأن إعادة تفعيل ( الحزب الوطني الديمقراطي ) على أسس جديدة تتماشى مع تطور البلاد فكراً و سياسةً و بناء.
لكن يد تحالف المتآمرين ( المحليين و الآجانب ، عرباً و غير عرب ) كانت الأقوى ، بطشاً لا فكراً ، فحلت كارثة 8 شباط 1963 . و مع ذلك ،فلا الكارثة و لا التباعد الجغرافي القسري أفلحا في زحزحة مكانة ( أبي سعد ) في قلبي أو في قلوب المئات . و ها نحن نجني ثمرة اللقاء الجديد منذ 2003 ، سواء في بغداد أو عمان، أو في داخل شغاف القلوب النابضة بالمحبة الخالصة .

عمان في 5 كانون الأول 2013