من أحداث بغداد المدوية..  دكة السويدي في ثورة العشرين

من أحداث بغداد المدوية.. دكة السويدي في ثورة العشرين

إعداد: ذاكرة عراقية

اقدمت السلطات البريطانية في السادس من حزيران 1920 لايقاف التداعيات في أحداث تلك السنة الى إستدعاء برسي كوكس في طهران لتولي منصب المندوب السامي بموجب نظام الانتداب التي اخذت به لتنظيم وجودها في العراق، وهذا يعني نهاية منصب السر ارنولد ولسن الحاكم الملكي في العراق.

أراد ويلسون ان يقوم بعمل يلهي العراقيين به خلال الايام الاخيرة من حكمه التي شهدت اندلاع الثورة العراقية سنة 1920، مستفيدا من وجود السيد طالب النقيب، الشخصية القوية يومذاك، وهو استدعاء اعضاء مجلس المبعوثان الذين تم انتخابهم في اواخر الحكم التركي ليؤلف منهم لجنة للنظر في انتخاب مجلس نيابي في العراق وان يبدأ العمل في السادس من اب 1920.

ما ان علم زعماء الحركة الوطنية بهذا المشروع حتى نشطوا للعمل على القضاء عليه في مهده وكان لولب هذا النشاط السيد يوسف السويدي وجعفر ابو التمن والسيد محمد الصدر، واخذوا بتأليب الاهالي ضد الانكليز والاجتماع في جامع الحيدرخانة في 15 اب لاحباط المشروع. وقد انتهز ويلسن هذا لضرب ضربته باعتقال رؤوس الحركة الوطنية ببغداد قبل استفحال الامر.

قررت سلطات الاحتلال اعتقال الوطنيين في فجر 12 اب، لكم ويلسون اراد ان يقوم باخر محاولة لاقناع الوطنيين قبل القاء القبض عليهم فاستدعى ثلاثة منهم واجتمع بهم ليلا، ولم يسفر الاجتماع الذي استمر ساعتين عن شيء، فقرر ويلسون تنفيذ الاعتقال والنفي الى خارج العراق.

في ساعات الصباح الاولى داهمت قوات الشرطة بيوت اربعة من اكبر رؤوس الحركة الوطنية للقبض عليهم وهم الشيخ احمد الشيخ داود وعلي البازركان وجعفر ابو التمن والسيد يوسف السويدي. كان الداود يسكن في شارع الاكمكخانه (شارع المتنبي) واعتقلوه بسهولة وابعد الى هنجام وتمكن علي البازركان من الأفلات منهم بتسلقه الى بيت الدفتري جيرانه، اما جعفر أبو التمن فقد نجح في الهروب الى بيت مهدي الخياط، ثم هربهما عبد المجيد كنه الى منطقة الدورة ثم اليوسفية وانضموا الى مناطق الثورة في الفرات الاوسط.

اما السيد يوسف السويدي فقد رافقت عملية الهجوم على بيته معركة دامية بين اهل محلته خضر الياس وبين القوة التي جاءت لاعتقاله، وكانت من الحوادث المثيرة ببغداد يومذاك حتى سماها الناس واقعة خضر الياس او (دكة السويدي). والدكة في المفهوم العامي يقابل كلمة الواقعة، وعند البغداديين عدد من الدكات مثل: دكة الغربية ودكة خزعلية ودكة ابن رشيد ودكة رشيد عالي الكيلاني وغيرها. وكان السويدي يفتخر في مجلسه بموقف اهل محلته البطولي الذي سنذكره، حتى قيل ان زوجة الشيخ احمد الداود كانت تعّير اهل محلتها (جديد حسن باشا) لانهم لم يدافعوا عن زوجها كما دافع الكرخيون عن السويدي.

محلة خضر الياس من محلات الجانب الغربي من بغداد (الكرخ) القديمة استمدت تسميتها من مقام ديني معروف يقدسه العوام من الاهالي، وتقع المحلة المطلة على دجلة بين محلات الكرخ العريقة بابناء اسرها التي سكنت المنطقة منذ قرون، ولا سيما الذين جاءوا من شمالي او غربي بغداد، وبقوا متمسكين بتقاليدهم العشائرية والبدوية. ومن الاسر الشهيرة والمتنفذة التي سكنت محلة خضر الياس الاسرة السويدية الكريمة، ولهم مدرسة دينية معروفة، وكان السيد يوسف السويدي هو عميد الاسرة منذ اواخر القرن التاسع عشر.

في الصباح الباكر من يوم 12 اب 1920، كان بعض ابناء المحلة يجلسون على عادتهم في المقهى الواقع في مقدمة المحلة قريبا من سكة الترامواي (حسب رواية المرحوم مهدي مقلد ان المقهى يقع بين محلتي خضر الياس وسوق الجديد)، فشاهدوا قوة من الشرطة برئاسة ضابط انكليزي تتجه نحو بيت السيد يوسف السويدي، فهب احد شجعان المنطقة وهو السيد كريم العبود التكريتي الملقب بابن اخت ابليس من مكانه واخذ يصيح باعلى صوته:

ــ وينكم يا اهل الزود العسكر جايين ياخذون الافندي.. وين اهل النخوة والحمية.

تجمع عدد من اهل المنطقة واغلبهم من السامرائيين واسرعوا الى بيت السويدي، وكان في مقدمتهم المرحوم صبار الخلف الجواد، ولما وصلوا الى البيت وجدوا ان الشرطة دخلت البيت، فاخذوا باطلاق النار عليها وردت القوة المهاجمة بالمثل، ثم جاءت قوة كبيرة اخرى تعزيزا للهجوم، فاشتد اطلاق النار بين الطرفين، وصعد بعض الاهالي الى سطح بيت عكلة وبدأوا الرمي منه. ولم تقف المعركة الا بعد وصول تعزيزات عسكرية الة المحلة، بعد ان اسفرت عن مصرع ستة وجرح اثني عشر شخصا من اهل المحلة. ولم تجد القوة السيد السويدي فقد نجح في الهرب قبل وصولهم، ولم تجد سوى ابنه عارف فالقت القبض عليه ونفته الى هنجام، وقد اصبح عارف هذا رئيسا لمحكمة التمييز فيما بعد.

الذين قتلوا في المعركة هم الشهداء: محمد العكيلي وحسين العلي (ابن نوارة) وعبد الرحمن السامرائي (اخو ثجيلة) وتوفيق الناصري وصالح البناء وصالح جياد البلام. ومن الجرحى عبد الرزاق الكسار عم فاضل عباس المهداوي والحاج عبود مختار المحلة وغيرهما.

تمكن السيد يوسف السويدي من الهرب من بيته بمساعدة جماعة من السامرائيين وتسلل الى بيت مختار محلة الست نفيسة السيد صالح العمر ثم الى بيت الحاج سعودي والبس ملابس الاعراب، ثم خرج متنكرا الى ضفة نهر دجلة واستقل زورقا اوصله الى الكاظمية وبرفقته عدد من اهل محلته كصبار خلف الجواد وكريم العبود التكريتي، وعندما وصلوا الكاظمية ذهبوا الى دار السيد محمد الصدر في سوق الجواهرية واختفوا فيه، ثم خرج الصدر والسويدي خلسة تحت جنح الظلام الى محلة ام النومي حيث بيت السيد محمد علي الشديدي، وفي اليوم التالي ذهب السويدي بتوجيه من الصدر الى منطقة التاجي ثم ذهب الى اليوسفية، اما الصدر فقد ذهب بحماية صبار السامرائي واخرين الى التاجي، ثم ذهب الى الخالص (ديلتاوة) وشارك في احداث الثورة فيها.

ومن ذيول دكة السويدي كان اعدام عبد المجيد كنه، الشخصية البغدادية الشهيرة، فقد قيل ان القوة المهاجمة لبيت السويدي وجدت تحت فراشه رسائل من كنه الى السويدي يتعهد فيها بقتل كل من يقف بوجه الحركة الوطنية، ويقصد طالب النقيب، فالقت القبض عليه وقدمته الة محكمة عسكرية قضت باعدامه ونفذ به الحكم في حادثة لا ينساها التاريخ البغدادي.