من احداث بغداد المدوية.. مقاطعة الاهالي لشركة الكهرباء الاجنبية سنة 1933

من احداث بغداد المدوية.. مقاطعة الاهالي لشركة الكهرباء الاجنبية سنة 1933

زينب جبار رحيمة العكيلي
يرجع تاريخ الشركة الكهرباء الانكليزية الى عهد الدولة العثمانية إذ منحت احد الأشخاص امتيازاً في 28 شباط 1912 بتأسيس ترامواي كهربائي وتنوير مدينة بغداد وتجهيزها بالقوة الكهربائية،وهذا الامتياز تحول إلى شركة مؤلفة من ذلك الشخص وأخر عام 1914

ولكن الحرب حالت دون قيام المشروع ،وعند احتلال بغداد قامت السلطات البريطانية بتأسيس مشروع تنوير . في العام 1933 حدثت مقاطعة شركة الكهرباء التي كانت تزود بغداد بالكهرباء، إثر قرار الشركة المذكورة ، التي شعرت بضآلة أرباحها،ولاسيما بعد امتداد الترامواي، برفع أسعار الوحدة الكهربائية " الكيلو واط " الى 28 فلساً، عن كل وحدة كهربائية للمستهلكين، فشعر أهالي بغداد، ولاسيما العمال بارتفاع أجور التنوير التي تستوفيها شركة الكهرباء، فقرروا مقاطعة الشركة مقاطعة تامة حتى تخفض الشركة أسعارها. ومهدوا لهذه المقاطعة بمفاوضات مع رجال الشركة بدأت ايام الوزارة الكيلانية الثانية فلم تسفر عن نتيجة، فقرر مجلس "نقابة إتحاد العمال العراقية"( وهو الاسم البديل لـ " جمعية أصحاب الصنائع " ، وذلك عندما طلب محمد صالح القزاز من وزارة الداخلية تبديل اسم الجمعية إلى " نقابة اتحاد العمال العراقية " ، فوافقت وزارة الداخلية على تبديل مواد النظام الداخلي وتبديل اسمها. وهي منظمة نقابية قامت في 28 آيار 1933 تضم في عضويتها ممثلين للنقابات والجمعيات العمالية كافة. وهي بمثابة اتحاد عام للعمال.ويعد أول اتحاد عمالي لعموم عمال العراق .ولم تعمر " نقابة اتحاد العمال " طويلاً ، إذ أغلقت في 25 كانون الأول 1933 بعد مشاركتها في مقاطعة شركة الكهرباء ) في بغداد اعلان المقاطعة بصورة رسمية ابان حكم الوزارة المدفعية الأولى وعينوا اليوم الخامس من شهر كانون الأول 1933 موعداً لذلك. مما تجدر الاشارة اليه هنا، ان الوزارة المذكورة وقفت بالضد من المقاطعة ،وعملت كل ما بوسعها لكسر حملة المقاطعة. فشنت حملة اعتقالات شعواء ضد المنظمين للإضراب وقيادات العمال وزجت بهم في السجون. ولم تكتفِ بذلك، وإنما قامت بإنارة المحلات العامة بالأضواء الساطعة وبإسراف واضح ومن دون مناسبة وذلك لتعويض الشركة عن خسائرها التي تكبدتها جراء المقاطعة الشاملة التي لم يشذ عنها سوى الحكومة وكبار موظفيها.
كان موقف الحكومة في بادئ الأمر كما هو واضحاً سلبياً،غير أنها اضطرت في نهاية الأمر إلى إجراء مفاوضات مع الشركة موضوع البحث بعد أن اشتدت حركة المقاطعة ضد الشركة. لقد أسفرت المفاوضات مع الشركة عن تخفيض أسعار الوحدة الكهربائية فلسين فقط ،ولم يقبل المضربون بذلك التخفيض وأصروا على اضرابهم الذي اتسع كثيرا، عند ذلك شعرت الحكومة بأن المقاطعة أخذت بعداً جديداً لدرجة انها قد تعكر صفو الأمن العام ، كما أنها بدأت تتخوف من احتمال استغلال البعض لتلك المقاطعة لتحقيق مآربه السياسية ، فراحت تبث العيون لرصد كل حركة.
كان من الطبيعي جداً ان تهتم بعض السفارات في بغداد بموضوع المقاطعة التي تخشى من سريان روح المقاطعة الشعبية إلى كل ماهو أجنبي، ولاسيما بعد ان رفض العمال المقاطعون التخفيض الذي أجرتهُ الشركة على أسعار الوحدات الكهربائية مذكرين الشركة بحقيقة غاية في الأهمية ،وهي ان الشركة تبيع الكهرباء للعراقيين بسعر يعد أضعاف الذي تأخذه من البريطانيين. صمد العمال المقاطعون لشركة الكهرباء في مقاطعتهم وذلك عندما أصدروا بياناً في الأول من كانون الأول 1933، حثوا فيه الجميع وبحماسة واضحة على الاستمرار في المقاطعة ،ورفض التخفيض الضئيل الذي أجرته الشركة على أسعارها . ان أهم ما جاء في البيان المذكور، عدم قبول التخفيضات لضآلتها، وان تكون متابعة هذه القضية بين مجلس النقابة والحكومة تحريرية، ويمنع أعضاء النقابة التفاوض المباشر حول قضية الكهرباء. كما حث البيان موضوع البحث العامل على عدم استخدام العنف اثناء شرح مطاليب الناس. وختم البيان بتوجيه شكر مجلس نقابة العمال لكل الناس على معاضدتهم وتأييدهم للنقابة.
الذي يثير الاهتمام في هذا المجال، الموقف النهائي للوزارة القائمة من موضوع مقاطعة شركة الكهرباء . فقد زعم متصرف( محافظ) بغداد في كتاب أرسلهُ الى محمد صالح القزاز معتمد نقابة العمال ، أن المتصرف لا علم له بشرعية النقابة.وفي الوقت نفسه استدعى ناجي شوكت وزير الداخلية محمد صالح القزاز محاولاً اقناعه بإنهاء الإضراب، لكنه ابى إلا بعد ان تلبي الشركة جميع مطاليب المستهلكين،عند ذلك أمرت الحكومة بنفي محمد صالح القزاز الى السليمانية ، كما سيق عدد من العمال الى المحاكم بتهمة توزيع المنشورات السرية ضد الحكومة، فأصدرت محكمة التمييز قرارا في يوم 10 شباط 1934 يقضي بخفض هذه المدة إلى ثلاثة أشهر، وجعل محل إقامة المبعدين مدينة بعقوبة بدلا من السليمانية.
لابد من القول هنا، ان الحكومة حاولت شل صحف المعارضة المساندة للأحزاب، حيث لجأت الوزارة الى تعطيل صحيفتي " الأهالي و" الإخاء الوطني " غير أن الصحف الأخرى بقيت على موقفها المساند للإضراب وإدانة السلطة على وقوفها إلى جانب الشركة ضد مصالح ابناء الشعب(.
لم يكن مجلس النواب بعيداً عن تطورات موضوع مقاطعة الكهرباء فقد ترددت اصداؤهُ في أروقة المجلس، إذ تطرق عدد من النواب،ولاسيما من المعارضة للموضوع. ولم تكتف السلطة بما اقدمت عليه من الاعتقالات بل، حاولت النيل أكثر من الحركة العمالية، ففي 2 كانون الثاني 1934 داهم رجال الشركة مقرات جمعيات العمال والأصناف، وصادرت اوراقها وسجلاتها، وعندما سمح لمحمد صالح القزاز بالعودة إلى بغداد في بداية شباط 1934 اعترض على اعمال اللجنة التي كلفت بالاشراف على حسابات الشركة التي ألفتها الوزارة المدفعية لامتصاص غضب الناس،وقدم القزاز كتاباً الى وزارتي الداخلية والاقتصاد والمواصلات. ولكن الشركة لم تتراجع ، ولم تجر تخفيضا آخر على التخفيض الذي اجرتهُ ،ومن ثم اعلن وزير الاقتصاد والمواصلات امام مجلس النواب صراحة انه لامجال لأي تخفيض أخر الا بعد مرور خمس سنوات ،حسب الاتفاقية المبرمة مع شركة التنوير والقوة الكهربائية لمدينة بغداد.
استمر الإضراب لمدة 27 يوما ،وقد فرضت الشركة على الاهلين غرامة لإعادة الكهرباء الى بيوتهم قدرها (380) فلساً لكل مشترك، على الرغم من ذلك بيّن الإضراب ان الدور الكبير الذي يستطيع العمال ان يلعبوه في حياة البلد السياسية، الامر الذي رفع سمعة العمال ومنظماتهم في نظر الناس.

عن رسالة(الموقف الرسمي والشعبي
من الطبقة العاملة 1932-1939) )