نص نادر لحسين جميل ..من كربلاء الى النجف وبعقوبة و العمارة

نص نادر لحسين جميل ..من كربلاء الى النجف وبعقوبة و العمارة

اعداد: عمار عبد القادر الزهاوي
ولدت في 8 شباط سنة 1908 في كربلاء. في دار جدي احمد جميل وكان حينذاك قاضيا فيها. ومن الصدف ان والدي عبد المجيد جميل عندما نقل من العمارة الى كربلاء حاكما منفردا (قاضيا) في اواخر سنة 1921 سكن في الدار ذاتها التي كان قد سكنها جدي، وهي تقع في شارع العباس وقد ولدت والدتي اخا شقيقا لي. قالت لي انه ولد في نفس الغرفة التي ولدت فيها وفي نفس الموقع من الغرفة. سمي شقيقي "حسن" ولم يعش الا اقل من عام،

حيث توفي في العمارة،وكان والدي قد نقل اليها.والمرض الذي توفي به هو اسهال الاطفال.

ان اول ما تعيه ذاكرتي الآن هو سفري مع اهلي من بغداد الى النجف سنة 1913 وكنت بعد ابن الخامسة من العمر. لكأن تفاصيل ذلك الحدث لا تزال حية في ذهني، ربما لما كان فيها من اثارة وخروج عن الحياة الرتيبة،الهادئة، التي كانت تسود بيتنا في محلة قنبر علي،كماكما كان شأن حياة اغلب الناس في اغلب البيوت. ولقد كانت سفرة مثيرة حقا ومتنوعة كذلك.بدأت الرحلة من جانب الكرخ حيث كانت تقف عربة خشبية كبيرة نسبيا، وهي على شكل صندوق كبير مستطيل في مقدمته دكة يجلس عليها العربجي. وكانت تلك العربة يجرها حصانان، لكن كان هناك حصانان آخران مربوطان خلف العربة فأثار ذلك استغرابي، ثم ادركت عند المسير انهما كانا يتبادلان موقع الجر مع الحصانين الاماميين بين فترة واخرى. وفي ذلك ما فيه استراحة نسبية للدواب. دخلت واسرتي الى العربة من باب يفتح من خلفها حيث توجد دكتان من الخشب على طول ضلع العربة تقابل احداهما الاخرى، والدكة معدة لجلوس الركاب وتتسع لأربعة ركاب، وربما اكثر إن كانوا صغارا، فسعة العربة ثمانية من الكبار يحشر معهم بعض الصغار ان وجدوا.اما امتعتهم فقد ربطت بما فيها من صناديق وحقائب فوق سقف العربة.
كنت اسمع في ذلك الحين ان تلك العربات تسمى "عرباين بيت جودي" ولكني عرفت بعد سنين ان بيت جودي انما كانوا يتولون ادارة واسطة النقل هذه،فهي عربات كان يملكها بيت عارف أغا، وهي عائلة ثرية معروفة في بغداد.
كانت العربة تطوي بنا ارضا صحراوية في الربيع، لأن الفرات كان مرتفعا بدرجة اقرب للفيضان، وبين حين وحين تتوقف العربة وتجري المبادلة بين الحصانين الاماميين والحصانين الخلفيين، وكانا اصلا متعبين ايضا من خببهما المقيد والذي ان يتوافق مع الايقاع الحر،المكبوت الصوت، للحوافر التي تضرب التراب في مقدمة الركب. ثم وصل الركب الى مدينة على النهر،عرفت بعد ذلك انها "المسيب" على الفرات، فقضينا ليلتنا في غرفة محاطة بالخشب المخرم وهي التي تسمى "شناشيل" في بيت يطل على النهر ذاته،وعرفت بعد حين انه بيت يعود لعائلة في "المسيب" تسمى "بيت الشيوخ" (منها عبد الهادي صالح الذي كان نائبا عن "المسيب" في مجلس النواب لعدة دورات من سنة 1947 حتى 1958، وعبد علي حسن في سنة 1948).
وبعد مبيت تلك الليلة، استقل اهلي، وانا معهم، سفينة شراعية، ركبوها من سدة الهندية. وما ان تهاوت السفينة في النهر قليلا حتى هبت عاصفة اضطرتها ان ترسوا بجوار الشاطىء.وترجل منها ملاحوها فربطوها بحبال شدت حول جذوع النخيل على الساحل. ولكن اشتدت العاصفة ادى الى انقطاع الحبال،ولا زال اذكر منظر الهلع الذي اصاب ركاب السفينة وهم يرفعون ايديهم بالدعاء،مبتهلين الى الله بان يدرأ عنا الخطر. وبعد ان هدأت العاصفة واصلت السفينة سيرها الى الكوفة ومنها انتقلنا الى النجف.
واذكر مسكن طفولتي الذي شغله والدي في النجف، خاصة بعد ان زرت تلك المدينة سنة 1932، فعثرت عليها. والأمر الذي ساعدني على تذكر موقعها انها كانت قريبة من ميدان كبير قريب من مدخل السوق المؤدي الى مرقد الإمام علي. وقد بنيت في ذلك الميدان فيما بعد المدرسة الثانوية.
ويعود سبب إنتقالنا من بغداد الى النجف إلى تعيين والدي عبد المجيد جميل مستنطقاً هناك،وهي وظيفة قضائية تقابل وظيفة حاككم التحقيق.ذلك أن والدي كان قد درس في الإبتداء علوم العربية والفقه الإسلامي على علماء بغداد،وهي العلوم التي كان يصطلح على تسميتها ب "علوم الجادة "فأجيز فيها من قبل أولئك العلماء.وقد تمت دراسته تلك اتباعاًلما كانت تجري عليه العادة في الأسر الدينية في ذلك العهد.فلما فتحت مدرسة الحقوق اول ما فتحت في بغداد في أول أيلول 1908 إنتسب إليها والدي.كان نظام مدرسة الحقوق آنذاك يقضي بأن يقبل فيها خريجو الدراسة الإعدادية.ولكنها تسمح في الوقت ذاته لأي شخص بحضور الدروس بصفته مستمعاً دون التقيد بإبراز الشهادة الإعدادية.فإذا نجح هذا المستمع في السنة الأولى تغير مركزه فأصبح طالباً في الصف الثاني كالطلاب الآخرين.أما إذا رسب فلا يحق له الدوام بعد ذلك وعليه أن يترك المدرسة.كان والدي واحداً من أولئك المستمعين،وقد نجح في امتحان السنة الأولى فأصبح طالباً نظامياً في المدرسة بدءاً من السنة الثانية حتى تخرجه فيها سنة 1912. وكانت الدراسة فيها باللغة التركية،بموجب الكتب التي كانت ترد من الآستانة،وهي ما يدرسه طلاب الحقوق في العاصمة العثمانية،وكانت الامتحانات شفهية باستثناء مواد قليلة معينة تتطلب بطبيعتها ان تكون تحريرية كالصكوك المدنية والجزائية، ومدة الدراسة أربع سنوات.كان فد تحدث عن نظام القبول هذا في مدرسة الحقوق وأصول التدريس فيها المرحوم محمود صبحي الدفتري، إذ كان قد أدلى بحديث صحفي لجريدة الأهالي البغدادية في أيلول 1960 بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين لتأسيس كلية الحقوق العراقية،وكان الدفتري من خريجي الإعدادية فتسجل كأول طالب في مدرسة الحقوق،وذكر من بين المستمعين فيها والدي عبد المجيد جميل.
ما إن تخرج والدي حاملاً شهادة الحقوق حتى تعين في سلك القضاء،وكانت الوظائف القضائية من المراكز المرموقة والمجزية أيضاً بمرتبها.ولهذا فقد تجول في أنحاء متعددة من البلاد،مع أسرته في أغلب الأحيان، ولوحده في احيان أخرى.فنجده في مطلع حياته العملية مستنطقاً في النجف سنة 1913، ثم نجده عضواً في محكمة بداءة (بعقوبة) في بواكير الحرب العالمية الاولى ثم حاكماً في محكمة (السليمانية)عندما انتهت تلك الحرب وعقدت الهدنة بين الدولة العثمانية والحلفاء في 30 تشرين الأول (اكتوبر)سنة 1918.وبعدها يعود والدي إلى بغداد ليمارس المحاماة زمناً قصيراً وليعين بعدها في صيف 1919 بوظيفة حاكم صلح في مدينة (العمارة) جنوبي العراق على دجلة، براتب شهري قدره أربعمائة روبية (والروبية عملة هندية دخلت العراق مع جيوش الإنكليز الفاتحة وتساوي 75 فلساً بالعملة العراقية). وبعد فترة قصيرة من تعيينه ذاك رفع إلى عنوان "حاكم منفرد العمارة " براتب سبعمائة روبية شهرياً، أي ما يساوي 52 ديناراً ونصف.كان هذا المبلغ في ذلك الحين مجزياً لرخص الأسعار وبساطة العيش.
وهكذا،بحكم طبيعة عمل والدي،قطنت في صباي وأنا بصحبة والدي والأسرة،في النجف اولاً،ثم في "بعقوبة " وبعدها في "العمارة " وأذكر أسفاري
إلى تلك الأصقاع التي تعتبر آنذاك نائية لأن وسائل المواصلات والطرق لم تكن قد تطورت بعد.كنا ننتقل مثلاًبين بغداد و"بعقوبة " بسيارات كبيرة الحجم، كانت تنطلق من " خان مشعل " في محلة "قرة شعبان في الشارع الذي يسمى اليوم شارع الشيخ عمر. وتنطبع صورة مدينة "بعقوبة " في ذهني بسوقها وشوارعها وطرقها،يخترقها "نهر خريسان " وكانت الدار التي سكنها والدي تقع على شارع يحاذي هذا النهر،وهي من طابقين وفيها حديقة واسعة،واعجب ما أذكره عن تلك الدار وجود ساقية تخترقها وهي تتفرع من النهر فتمر بالدار مسقوفة بمشبك حديدي لتخرج منها الى مزرعة ِ ما أو بستان.
و كان انتقالنا بين بغداد و "العمارة"يتم بواسطة "المركب" فقد كانت المواصلات الاعتيادية بين العاصمة و الثغر (البصرة)تتم بالباخرة، وكانت تعمل على هذا الخط شركتان للبواخر، الاولى شركة انكليزية هي بواخر "بيت لنج" والثانية بواخر "بيت الخضيري"، وبيت الخضيري عائلة عراقية ثرية تشتغل بالتجارة. واذكر، وان ابن الحادية عشرة،سفرنا الى "العمارة" بواسطة احدى بواخر بيت الخضيري، كان اسمها "سالمي"كما انتقلنا في هذه الباخرة بالذات بين بغداد و"العمارة" ذهابا وايابا مرات عديدة الى سنة 1923، ولعل المصادفة كانت تسوقنا الى الباخرة "سالمي" دون غيرها،لكن الارجح ان اختيارها كان امرا مقصودا،فالقبطان فيها هو "القبطان حمد" من "الحديثة" وكان له قرابة مع اخوال عبد المجيد جميل،اذ ان والدته،شمسة بنت داود الدلي،هي من بيت جعفر بن شمر في "حديثة"، فكان القبطان حمد يراعي راحة هؤلاء الركاب من اقربائه عند سفرهم على باخرته.
كانت السفره من والي "العماره "تستغرق حوالي عشره ايام،والباخره تقف في كل مدينه،صغيره كانت ام كبيره،والركاب ينزلون في كل مدينه لشراء حاجاتهم منها.وكانت الباخر تسحب معها دوبتين (جنابيتين)،في كل جانب منها دوبه وهيتحمل البضائع التجاريه،ولا سيما الحبوب.حيث كانت اسرتي تستقر في بغداد، سواءكان والدي موجودا معها في العاصمه، أوكان يعمل لوحده خارجهافي "السليمانيه "مثلأ،فإنها كانت تسكن دار جدي،وهوأحمد جميل.وكان جدي هذا قاضيا أيضأ،عمل اولاًفي بعض الاقضية مثل "عانة "و "الشطرة" ثم في مراكز الألوية،مثل "الناصرية" وكربلاء.وحين كان يغادر العاصمة كانت داره في بغداد،والواقعة في محلة قنبر علي، تظل مفتوحة لسكنى ولديه عبد الجبار وعبد المجيد وأسرتيهما. أما ولده البكر عبد الجليل فكان يسكن في محلة "الحيدر خانة "بجوار الدار التي تسكنها اسرة زوجته، وهي من بيت البرزنجي. لذلك فأني عشت في ظل اسرة قضائية منذ نعومة اظفاري.فجدي لابي من القضاة الشرعيين، ووالدي من الحكام المدنيين، وعمي عبد الجبار أيضاً كان يشغل في بغداد منصب رئيس محكمة البداءة وذلك حين سكنت عنده عائداًمن "العمارة" لدخول الثانوية في العاصمة.وقد توفي جدي أحمد جميل قبل سقوط بغداد بيد الجيش البريطاني بستة أشهر.فلما مات لم تعد داره تجمع أسرتي ولديه أذ انفرد كل منهما بدار مستقلة،وكان والدي قد عاد من "السليمانية" وأذكر عندما كانت بغداد على وشك السقوط،أننا انتقلنا قبل فتحها بيوم أو يومين الى دار اخرى كان يملكها قريبنا فخري جميل،من فرع عبد الغني،الفرع الثري،والدار تقع على النهر في الاعظمية.أنذاك تعتبر بعيدة عن العاصمة.وكانت تلك الدار التي انتقلنا اليها تسمى قصراً في مصطلح تلك الأيام. وكان الإنتقال إليها إنما جرى طلباً للامن ولتجنب أعمال الفوضى التي قدر أنها قد تقع في بغداد في الفترة بين إنسحاب الجيش العثماني و دخول الجيش البريطاني.ولكن مكوث الأسرة في القصر لم يدم إلا أياماً معدودات،إذ ما إن دخل الجيش البريطاني بغداد حتى عادت أسرتي إلى دارها في بغداد،ثم ما لبثت أن إنتقلت إلى دار لنا في بستان في قرية "عليبات " القريبة من "بعقوبة " وذلك للابتعاد عن أحداث الأيام الأولى للأحتلال. وما هي إلا مدة قصيرة حتى غادت الأسرة إلى بغداد مرة أخرى.
وكشأن أترابي آنذاك دخلت الكتاتيب، والكتاب ماكان يسمى "لالة" على صفة الشخص الذي يديره وينعت "لالة" وفيها يجري تدريس مباديء قراءة القرآن بطريقة بدائية تعتمد الحفظ . والصبي الذي يروم أهله تعليمه يرسل أولاً إلى كتاب،إذ لم تكن رياض الأطفال قد عرفت بعد.وكانت الكتاتيب تتخذ محلها عادةً في المساجد والجوامع.ولم أتعلم شيئاً من تلك الكتاتيب لسقم إسلوب التعليم فيها ،وكنت أضيق ذرعاً بها وأيوق لتغييرها.فكان لي ما أردت.إذ دخلت في أواخر سني ألحرب مدرسة رسمية كان موقعها بجوار حمام المالح من جهة محلة "ست هدية "،وهي قريبة من دارنا في محلة قنبر علي، ثم سقطت بغداد بيد الجيش البريطاني في آذار 1917 فدخلت في السنة الدراسية 17-1918 مدرسة "باب الشيخ " الأبتدائية في صفها الأول.وكان مديرها هاشم الآلوسي وأحد معلميها السيد شاكر جاسم (وهو إبن خالتي) وقد أصبح كل من هذين الرجلين في عهد الحكم الوطني مدير معارف لواء. ثم إنتقلت في السنة الثانية الى مدرسة" الكرخ " الأبتدائية وكان مديرها إبراهيم عثمان وأحد معلميها أمين الخضار. اما في السنة الثالثة (19-1920)فقد إنتقلت مع والدي إلى "العمارة "حيث أكملت دراستي الأبتدائية هناك في 22-1923.
ومن ذكرياتي أيام دراستي الإبتدائية في "العمارة " زيارة قام بها إلى هناك سنة 1920 السيد النقيب،بصفته وزيراً للداخلية.فزار مدرستنا وكان إسمها "مدرسة الجنرال مود الأبتدائية في العمارة " وكان مديرها يدعى جورج ولا اذكر إسمه الكامل،وكان هذا يرتدي "البرنيطة " فما كان من الزائر ألشهير السيد طالب إلا أن إعيرض على إريداءه ذلك الزي الأجنبي علناً أمام التلاميذ.لم يكن قد اتخذ حينذاك لباس رأس عراقي خاص بأفندية البلاد،إذ لم يكن عهد الملك فيصل الأول قد بدأ بعد،ولم تقرر "السدارة " إلا في عهده،وكان الأفندية يرتدون قبل ذلك الطربوش التركي (الفينة).
ثم بنيت سنة 1921 مدرسة جديدة في العمارة في محلة "السنية " وسميت "مدرسة السنية الإبتدائية في العمارة " وجاء هذا الإسم نسبة إلى صفة الارض التي شيدت الأبنية عليها،و "السنية" كانت هي أراضي السلطان العثماني،فتسمى عقاراته "سنية " وكانت تدار من قبل هيئة خاصة تدعى "إدارة السنية ".
بلغت الصف السادس الإبتدائي،وهو الصف المنتهي،سنة 1923. وكان قد تقرر في السنة اللدراسية السابقة ان يكون امتحان الصف المنتهي للدراسة الابتدائية وزاريا، وينظر اليه برهبة يشوبها الاحترام. وقد تقرر اجراء الاماتحانات الوزارية مركزيا في ثلاث مراكز: هي بغداد والبصرة والموصل. وكانت البصرة مركز امتحاني الالوية الجنوبية، وبضمنها "العمارة". فلما اقتربت السنة الدراسية الاخيرة من الانتهاءتهيأت لتلك السفرة. ثم انتدبت المدرسةاحد المعلمين، وكان خليل افندي "العزي"، مرافقة التلاميذ الى البصرة فلما رست احد البواخر بيت لنج في"العمارة" وكانت قادمةمن بغداد، استقليناها،نحن طلاب العمارة مع معلمنا في طريقنا الى البصرة، فوجدنا على متنها تلامذة مدرسة علي الغربي ومعلمهم،وكانوا في طريقهم لأداء الامتحان نفسه.
وواصلت الباخرة رحلتها، وكان اسمها "زنزبيا" وفي الطريق صعد اليه تلامذة مدرسة "قلعة صالح" ومعهم معلمهم. فلما وصلنا البصرة انزل جميع تلامذة وائي "المنتفك" و" اعمارة" في مدرسة "باب السيف". لكن الامتحان الوزاري جرى في مدرسة "السيمر" وكان تحريريا كانت تلك هي المرة الاولى التي ارى فيها مدينة البصرة، فبهرني جمالها وفتنني عمرانها فحببتها حبا جما. وغفالبا ما كنا نذهب بعد الانتهاء من امتحان اليوم الى "العشار" على ساح شط العرب وكان ذهغابنا بسيارات النقل وكانت تلك هي المرة الاولى التي اجرب فيها ركوب تلك الواسطة، ولعل هذا كان شأن جميع التلامذة الاخرين. كانت الواسطة سيارة صغيرة تتسع لاربعة ركاب فقط، اما التي انتقلت بها بين بغداد و"بعقوبة" قد كانت كبيرة تسمى " باص".
كانت تلك السفرة الى البيصرة وما تخللها من تجوال في شوارع الميناء والاسواق، خاصة اسوق العروف باسم سوق الهنود، اشبه بالسياحة رغم عناء الامتحانات. ولما فرغنا من الامتحانات عدنا لمدننا فرجع طلاب "العمارة " بالواسطة نفسها اتي جاءوا بها على باخرة من بواخر بيت لنج، وكانت اما "زنوبيا" او "زبيدة" اعلنت نتائج الامتحانات الوزارية في اواسط العطلة لصيفية، وكان قد كتب عى بعض شهادات النجاح "ناجح باستحقاق"، وفي بعضها الآخر " ناجح مناسب" وواضح ان هذه لتسمية تدل على مستوى النجاح.وكان سروري كبيرا عندما وجدت شهادتي وعليها "ناجح باستحقاق" واتضح فيما بعد ان امتياز مثل هذا النجاح هو منح الناجحين بأستحقق اسبقية القبول في الدراسات التي تلي الدراسة الابتدائية، وكانت تنحصر بالثانوية ودار المعلمين الابتدائية ومدرسة المساحة وكلية الاام الاعظم. فأذا بقيت شواغر في تلك المدارس بعد قبولهم قبل فيها عندئذ من كان نجاحه "مناسبا". وهذا ما وقع في تلك السنة فعلا.
كتن نجاحي وبأستحقاق يخولني الخيار، حسب مداولة جرت بين والدي اين سأدرس؟ واذكر من هذا الحوار انه استبعد الولدان منذ البداية "دار المعلمين"، لأنهما لم يريدا لي ان اكون معلما في مدرسة ابتدائية؛ ثم استبعدا "المساحة" ايضا فانحصر خيارهما بين الثانوية و"كلية الامام الاعظم".
فاجابت الوالدة متحسرة: "خطية يلبس عمامة!". فاحتج الوالد قائلا: "وما عيب اعمامة؟"، فهو نفسه رجل دين يعتمر العمامة. واصرت الوالدة تقول:" الثانوية" وعندما سالت عن رايي فضلت الثانوية. وهكذا اقر ختياري في الذهاب الى المدرسة الثانوية دون مزيد من المجادلة.
لم يكن في العراق حين ذاك سوى مدرستين ثانويتين كاملتين: الاولى في بغداد، والاخرى في الموصل. اا في البصرة، ورغم انها من مدن البلاد الكبيرة، فلم يكن فيها الا صفان ثانويان بعد الابتدائية، وعلى من يريد مواصلة الدراسة الذهاب الى احدى تلكما الثانويتين. واذكر ان تلامذة من البصرة جاؤوا الى بغداد فعلا لاكمال دراستهم في ثانويتها، ومن هؤلاء عبد الجبار بكر، الذي تخصص فيما بعد