من ذكريات كتبي بغدادي في سوق السراي

من ذكريات كتبي بغدادي في سوق السراي

قاسم محمد الرجب
صلتي بسوق السراي تعود الى سنة 1930-1931 يوم تركت المدرسة واتصلت به وكان عمري اثنتي عشرة سنة عندما اشتغلت عاملاً صغيراً بالمكتبة العربية لصاحبها نعمان الاعظمي، وكنت يومذاك في الصف السادس من المدرسة الابتدائية وكان مرتبي الشهري 600 فلس ولم اكن قد رايت بغداد كثيراً لانني كنت من سكنة الاعظمية فكنت اراها بالسنة مرة او مرتين وفي ايام الاعياد فقط

فلما اتصلت بالمكتبة وبالسوق كنت اعجب لما تحتويه من كتب اذ لم اكن قد رايت مكتبة من قبل. كان سوق السراي آنذاك زاخراً بالمكاتب الصغيرة منها والكبيرة امثال المكتبة الوطنية لعبد الحميد زاهد والمكتبة الاهلية لعبد الامير الحيدري والمكتبة العصرية لمحمود حلمي ومكتبة الشرق لعبد الكريم خضر.. وهناك مكتبات صغيرة منتشرة من اول السوق الى آخره ومنهم من يعرض بضاعته على الرصيف امثال حسين الفلفلي واحمد كاظمية والحاج محمد وسامح اسماعيل ومن المكتبات الصغيرة التي ما زالت صغيرة حتى اليوم مكتبة التجدد لحقي بكر صدقي ومكتبة الشبيبة لرشيد عبد الجليل والمكتبة الحديثة للحاج محمد ومكتبة الزوراء لحسين الفلفلي اذ لم تتقدم هذه المكتبات بالرغم من وجود طاقات من الذكاء عند البعض منهم ومن حسن المعاملة عند الاخرين.

عباس العزاوي اهم زبون
وكان يتردد الى السوق الكثير من العلماء والادباء والشعراء امثال جميل صدقي الزهاوي الذي كان يكتري الروايات باستمرار من نعمان الاعظمي وغيره فيدفع له اجرة عن قراءة كل مجموعة منها روبية واحدة أي ما يساوي اليوم 75 فلساً وطه الراوي الذي كان اكبر مشجع ومرغب للكتاب في جميع مجالسه الرسمية والبيتية ونوري السعيد ويوسف العطا وبهاء الدين الشيخ سعيد واسماعيل الواعظ ومحمد السماوي ومصطفى علي وغيرهم وكان اكبر زبون للسوق وللكتاب هو عباس العزاوي المحامي، فكان يتردد الى السوق اربع مرات او اكثر في كل يوم فلا يفوته كتاب مطبوع ام مخطوط ويصحبه اخوه علي غالب العزاوي المحامي، وكان رجلاً ذكياً مهذباً وكان عباس يستشيره عند كل صفقة يقع عليها اختياره، واذا ما وقع كتاب خطي ولم يشتره العزاوي فانه يبقى سنوات دون ان يباع اذ لم يكن هناك يومذاك من يتسوق الكتاب.

موا..
حتى ظهرت مكتبة المتحف العراقي في بغداد وقد شاهدتها سنة 1935 فكانت عبارة عن دولاب صغير فيه بعض الاجزاء من كتب باللغة العربية والانجليزية لا تزيد على مائة مجلد فلما عين كوركيس عواد فيها ملاحظاً اهتم بتنميتها واخذ يشتري اليها كل ما يتمكن من الحصول عليه من المصادر والكتب النادرة بمختلف اللغات وكان مدير الاثار العامة ساطع الحصري فبذل مجهوداً كبيراً وعزز رغبة كوركيس عواد، فتظافرت الجهود فنمت المكتبة حتى اصبحت الان اكبر وانظم مكتبة في العراق وكان ساطع الحصري يفاصل عند شراء الكتب من أي كان فاذكر مرة انني عرضت عليه كتاب اسمه (نزهة الزمن في تاريخ اليمن) للحجة الحسن طبعة هامبورغ وكان قليل الصفحات وثمنه مرتفعاً جداً فطلب مني تنزيل ثمنه وارسل لي مذكرة كتب عليها بخطه (موا...) ولم يتم الكلمة، وبما انني اعرف بانه اذا لم يشتر هذا الكتاب من قبل مكتبة المتحف فانه سوف يبور ولا يتصرف تنازلت عن ذلك السعر فاكمل الحصري بعد ذلك كلمة (موافق).. وكان مدير المتحف عبد الرزاق لطفي وهو لا يقل عن ساطع بما قام به من خدمات لهذه المكتبة وهي تنظيم وتنسيق واهتمام بما تحتاجه من كافة متطلباتها.

فالح الصيهود
وكان من عملاء سوق السراي ولا سيما عملاء نعمان الاعظمي زبون من اكابر شيوخ العمارة ونائب في مجلس الامة هو الشيخ فالح الصيهود وكان عند انعقاد دورة المجلس يسكن بغداد ويتردد على السوق فيطلب من عندنا كل الكتب التي تبحث في الامور الجنسية كالقصص والملح والمناظرات مثل رجوع الشيخ الى صباه والايضاح في علم النكاح واخبار النساء لابن الجوزية ومحاضرات الادباء للراغب الاصبهاني وزهر الربيع وغير ذلك من الكتب وكان يقتني الكتب دون مساومة وربما دفع ثمن الكتاب مضاعفاً باختياره، فمثلاً كتاب عيون الاخبار لابن قتيبة يتكون من اربعة مجلدات وفي المجلد الرابع منه كتاب خاص بالنساء ولذا فانه يشتري الكتاب كاملاً ويدفع ثمنه، الا انه يترك المجلدات الاخرى ويكتفي بالرابع.
واذكر ان عبد الستار القره غولي رحمه الله كان يحتفظ في مكتبه بنسخة مخطوطة من كتاب رشف الزلال من السحر الحلال للسيوطي، وهو يتالف من عشرين مقامة كتبت على لسان عشرين علماً دخلوا على زوجاتهم في عيد الفطر، فوصف كل واحد منهم ما بان له من ذلك حسب علمه وعمله وفنه فقدمه الى نعمان الاعظمي الذي استنسخ منه نسخة اعطاها الى القره غولي وباع الاصل للشيخ فالح الصيهود وعرض القره غولي النسخة التي اخذها الى احد كبار الضباط هو عبد المطلب الامين، فاعطاها الى صبري الخطاط الذي نسخ بخطه الجميل منها نسختين اعطاني احداها وما زلت احتفظ بها الى يومنا هذا.

عبد الكريم خضر
كان سوق السراي يتأثر بالروح الوطنية المتأججة بسبب فلسطين ووعد بلفور والثورة في كافة المدن الفلسطينية اشد التاثر، وكان يهيئ السوق للمظاهرات والاضرابات ويحثهم عليها عبد الكريم خضر صاحب مكتبة الشرق فكان يحرضنا جميعاُ على غلق مكتباتنا فاذا ما تاخر احدهم ذهب اليه مسرعاً واذا ما لاحظ ان السوق يتباطأ في غلق الابواب فانه ينزل من مكتبته ويمر على المكتبات واحدة بعد الاخرى وخلفه بعض الشبان والصبيان وهو ينشد هذه الكلمات المؤثرة:
قم من القبر حزينا يا امير المؤمنين
قتل الصهيون في القدس خيار المسلمين
وكنا نرددها جميعاً بعده ونمشي خلفه، ولابد من امتثال امره، اذ كان مخلصاً صادقاً وهو لا ينفك يصف احوال العرب والمسلمين في فلسطين واذلالهم من قبل اليهود، واول من يتاثر به السوق هو غلق خان الشابندر للصاغة حالما يسمعون الاناشيد.. وكنت اشاهد السيد حسون ابو الجبن لابساً الكفن مضرجاً بالدم في منظر مؤثر جداً يتقدم المظاهرة وهي تسير في شارع الرشيد.

امجد الزهاوي
ومن عملاء السوق الفضلاء العلامة الجليل والفقيه الكبير الشيخ امجد الزهاوي، وهو يقتني كتب الحديث والفقه والتفسير وقليلاً من كتب التاريخ والادب وعندما يختار الكتب ويريد شراءها فانه لا يساوم على اثمانها بالرغم من ان اصحاب المكتبات لا يقر لأسعارهم قرار وعند تمام موافقته على شراء صفقة الكتب فانه لا يدفع ثمنها حتى يلقن البائع صيغة البيع الشرعية كأن يقول: انني اشتريت منك كذا وكذا بمبلغ قدره كذا فهل وافقت؟ فيقول البائع: وافقت، فيدفع اليه الثمن ويقول له: هل قبضت؟ فيقول البائع: نعم قبضت، فيتسلم الكتب واذا اراد الشيخ امجد الدخول الى المكتبة فانه لن يدخلها قبل ان يخلع نعليه ويضعهما تحت ابطه وهو بهذا يتحاشى ان يدوس ورقة، اذ ربما كان في تلك الورقة لفظة الجلالة او أي اسم مقدس آخر او أي حرف يمكن ان يكون رسماً مقدساً..

مطبعة كردستان
واذكر ان شخصين من لواء السليمانية هما فرج الله زكي الكردي ومحيي الدين صبري الكردي غادرا العراق الى مصر فالتحقا بالجامع الازهر مجاورين فيه يطلبان العلم، فتخرجا فيه وفتح كل واحد منهما مكتبة ومطبعة سمياها مطبعة كردستان العلمية ونشرا كثيراً من الكتب الاسلامية القيمة مثل مشكل الحديث لابن قتيبة وكثيراً من رسائل ابن تيمية ومؤلفات ابن القيم الجوزية وغير ذلك مما لم يسبق لاحد ان طبعه طبعة علمية صحيحة ونشره، ولكنهما بعد مدة اعتنقا البهائية واخذا ينشران الكتب والرسائل البهائية موافقة لمبادئهم ومؤيدة لها ونشرا خطب عبد البهاء في امريكا وغير ذلك، وكان يصدران مطبوعاتها بعبارة (يا الهي بهاء) وهذا من المفارقات الغريبة التي قلما تقع.

الاعلان
كان روفائيل بطي من محبي مكتبة المثنى الناشئة ومشجعيها، وكان لا يمر يوم الا وزارها، واقترح علي يوما ان يحجز لي حقلاً صغيراً في جريدته (البلاد) ليعرض بعض الكتب التي تصل الي ولم اكن يومئذ اهتم بمثل هذا ولكن ترغيبه والحاحه علي باستمرار حملاني على قبول الاقتراح فهيأت بعض الكتب واعددتها للتقريض بناء على رغبته، وكان اول اعلان كتبه لي ونشره في جريدته اعلاناًَ عن كتاب صغير هو (النزاع والتخاصم فيما بين بني امية وبني هاشم) لتقي الدين المقريزي بعد ان كان قد اعيد طبعه في القاهرة عن طبعة ليدن ولم اكن اتصور ان يكون لمثل هذا الاعلان البسيط كل هذه الاهمية وهذا الاثر فقد جئت –كعادتي- صباح يوم الى المكتبة واذا بي ارى جمعاً من الناس ينتظروني لافتح المكتبة وكلهم يبتغون شراء هذا الكتاب فبعت لهم وبقيت ابيع منه طول النهار حتى نفدت نسخه.. ورفائيل بطي اديب المعي وصحفي قدير وهو ممن يمتلك مكتبة صحفية فيها كل طريف، وقل من يهتم من الصحفيين بهذه الناحية الا انني رايت كلاً من كامل الجادرجي السياسي والصحفي لا يصل كتاب الا اقتناه وتوفيق السمعاني الذي فاقت مكتبته جميع المكتبات بما فيها من مختلف الكتب والمراجع بالعربية والسريانية وهو ممن يرتاد المكتبة العصرية ويجلس فيها ثم يقصد مكتبة المثنى وهو صديق الجميع.

مصطفى علي والاثري
وكان من عملاء المكتبة منذ ان فتحت الى سنة 1953 مصطفى علي وزير العدل في حكومة عبد الكريم قاسم وقد توثقت صلتي به كثيراً اذ انه يعد من اصدقاء المكتبات ولا سيما مكتبة المثنى فهو لا يشتري كتاباً ما من أي جهة كانت اذا وجده في هذه المكتبة وهو ممن يهتم بالكتب الرصينة لا سيما كتب التراث العربي القديم الذي يميل اليه اكثر من غيره، وفي بيته مكتبة قيمة فيها امهات الكتب والمراجع ومن عادته انه لا يشتري الكتاب قبل ان يورقه بباب المكتبة، وهو معروف لدى الكثيرين بسرعة زعله لاتفه الاسباب وكنت اتحاشى كل ما يزعجه، ولكنني لم اوفق دائماً، وهو عند الشراء لا يساوم كما يفعل صديقه بهجة الاثري الذي اذا اراد كتاب وهو امر نادر جداً وكان ثمنه ديناراً مثلاً فان من حسن حظ البائع اذا دفع له مائة فلس دون الجر والعر والكر والفر حتى يدع صاحب المكتبة يجري وراءه ملتمساً اعادة الكتاب اليه او دفع ثمنه، ولذا فقد زهد الاثري في شراء الكتب واكتفى بان يستعير ما يحتاج اليه منها للمراجعة من مكتبة المجمع العلمي العراقي ومن مكتبات اصدقائه ولذا فان مكتبته الخاصة لا تتناسب وشهرته الادبية واذا اراد كتاباً فانه يطلب –رغم غناه وسعة ذات يده- من البائع ان يتقاضى من الكتاب نسخاً من كتيب صغير له هو (مأساة الشاعر وضاح) او من كتبه المدرسية كالمدخل في الادب العربي او المجمل التي كان يقرر تدريسها قبل تأميم الكتاب المدرسي ومع ان مؤلفات العلامة الشيخ محمود شكري الالوسي اية في الجودة والاتقان، فانه يحلو للاثري ان يكتب على غلاف كل كتاب منها (حققه وهذبه محمد بهجة الاثري) ولم يكتف الاثري بذلك بل جعل من نفسه الوارث الشرعي الوحيد للعلامة الالوسي رحمه الله.

مجلة (المكتبة) لسنة 1967