الامراض والصحة في المجتمع البغدادي في العهد الملكي

الامراض والصحة في المجتمع البغدادي في العهد الملكي

د . عباس فرحان الزاملي

كانت المشاكل الصحية في العراق في العهد الملكي متعددة ومعقدة اسهم في ابرازها تخلف المجتمع العراقي آنذاك ، فاغلب الشعب كان يجهل القواعد الصحية. كذلك طبيعة مناخ البلاد القاري ، وكثرت الرطوبة والمستنقعات والاهوار وتكرار الفيضانات ، التي اثرت في واقع الخدمات الصحية التي لم تكن بشكل كاف حتى في العاصمة بغداد حيث كانت شوارعها مليئة بالاوساخ والقاذورات المتراكمة فيها خاصة في فصل الشتاء .

ساءت الاحوال الصحية لسكان بغداد ، نتيجة لتردي الوضع المعاشي وانتشار الامراض بفعل سوء التغذية ورداءة نوعيتها وندرة الادوية . وارتفاع اسعارها مما يحول دون استطاعة عدد كبير منهم ، معالجة تلك الامراض التي تنتابهم ، يزاد على ذلك النقص الواضح في الكفاءات الطبية ، الامر الذي أظهر تاثيراً سلبياً في كفاءة المؤسسات الصحية واعدادها. فجعل تلك المؤسسات عاجزة عن اداء وظيفتها في تحسين المستوى الصحي . لذلك انتشرت في بغداد امراض كثيرة وفتاكة مثل الملاريا والبلهارزيا والتدرن الرئوي والتراخوما والانكلستوما والجدري.

مرض الملاريا :

يحتل مرض الملاريا . الصدارة في قائمة الامراض المتوطنة الوبائية التي عانى منها المجتمع العراقي عامة . اذ اشتملت على معظم جهات المملكة حتى العاصمة بغداد.

انتشر مرض الملاريا بصورة واسعة في بغداد ، وبقي يمثل حالة متوطنة متفشية فيها منذ عام 1940، اذ بلغ عدد الاصابات المسجلة لدى الدوائر الصحية (97.361) أصابة وهو رقم خيالي لم تصله المدينة منذ تأسيس النظام الملكي.ومما ساعد على انتشار المرض اتصال مزارع بغداد بمزارع ديالى والفرات.وكانت الدوائر الصحية ولا سيما مديرية صحة العاصمة قد اهتمت بالكشف عن المرض في المياه الراكدة في جانب الكرخ ومياه الفرات التي كونت مستنقعات كثيرة في طريق الفلوجة والمياه التي تجمعت تحت جسر الخر ووصلت الى قصر الزهور والحارثية والرحاب وغيرها من جهات المدينة ، وعثرت على يرقات « الانوفيل « وهي جراثيم الملاريا في منطقة السعدون والوزيرية والكاظمية فاهتمت بمعالجة المصابين بالملاريا بمادة الكنين.ولكن المصاب بعد شفائه من المرض يعود الى البيئة نفسها مرة ثانية ، لذلك كانت الجهود المبذولة في هذا المجال تذهب سدُى.

اهتمت دائرة صحة العاصمة بمكافحة مرض الملاريا بمختلف الطرق وشكلت لجنة لهذا الغرض برئاسة الدكتور اسماعيل الصفار مدير صحة لواء بغداد والدكتور علي غالب مدير صحة العاصمة قامت بجولات تفتيشية واسعة في انحاء العاصمة وما حولها للوقوف على المناطق الموبوءة بجراثيم هذا المرض. واجرت اللجنة كشفاً موسعاً في الكاظمية والاعظمية وباب المعظم ووضعت تعليمات جديدة للوقاية من المرض ومعالجته. واجري كشف في منطقة البتاوين ورش النفط الاسود على الاماكن التي يوجد فيها البعوض. وزودت رئاسة صحة بغداد المستوصف السيار الخاص بقضاء الكاظمية (بالادوية الكافية ) ليقوم باعمال التجول بين سكان المزارع والحقول واصحاب الصرائف وتوزيع الادوية ومعالجة المرضى واسهم الدكتور البير الياس رئيس الهيأة الصحية في القضاء المذكور في توسيع عمليات المكافحة في مستشفى الكاظمية ، الذي كان يقوم بتلقيح حوالي خمسمائة شخص يومياً ضد مرض الملارياوبفعل اهتمام الحكومة انخفضت نسبة المراجعين الى المراكز الصحية مما دّل على احراز تقدم في معالجة جراثيم المرض ، وقد رفع الدكتور سندرسن تقريراً الى مديرية الصحة العامة بين فيه اجراءات مكافحة الملاريا ، فرفعته وزارة الشؤون الاجتماعية الى اللجنة الخاصة بمكافحة الملاريا وحثت الجميع على بذل جهود مضاعفة لاستئصال المرض.عن طريق سحب المياه الراكدة او ردم المستنقعات والقاء النفط الاسود في البالوعات مرتين في الاسبوع ومكافحة البعوض في الغرف. وطلبت اللجنة من الاهالي التعاون معها باستمرار.

وفي عام 1941 تأسست مديرية الوقاية الصحية التي قامت باجراء مسح شامل للملاريا في انحاء العراق. واستدعت الدكتور احمد الحلواني ، الخبير المصري المتمرس في الطب الاستوائي لمكافحة المرض بعد انتشاره في بغداد اثر فيضان سنة 1942 ، فقام الخبير بمكافحة المرض في مرحلتين : المرحلة الاولى من بغداد حتى شقلاوه والمرحلة الثانية باتجاه البصرة وقد نجح في المرحلة الاولى بشكل كامل في حين احرز نجاحاً جزئياً في البصرة بسبب طبيعة البيئة فيها. وانخفضت نسبة الاصابات في مدينة بغداد بشكل واضح مقارنـة مـع مدينتـي

البصرة والموصل . وفي عام 1946 تأسست مديرية مكافحة الملاريا في بغداد [ التي اصبحت فيما بعد معهد الامراض المتوطنة ] برئاسة الدكتور محمد ابراهيم وزملائه عبد القادر شاتي وخليل ابراهيم ، فكان لهذه المديرية جهود جدية في المعالجة .

البلهارزيا البول الدموي :

وفضلا عن مرض الملاريا انتشر في بغداد مرض البلهارزيا . وكان اكثر الاصابات التي سجلت لدى الدوائر الصحية هي من خارج المدينة ، عن طريق المهاجرين الذين وفدوا اليها. إذ كانوا يستعملون المياه الملوثة ويغتسلون في البرك والمستنقعات ، وتركز المرض في نهر ديالى بالرستمية وفي محلة السعدون. وظهر كذلك في جهات مختلفة من بغداد ، لاسيما في الكرخ والمنصور والكاظمية والرصافة لوجود جداول اروائية موبوءة فيها.

مرض السل “ التدرن الرئوي “ :

من الامراض الخطرة المؤثرة في حياة الانسان مرض السل او “التدرن الرئوي” .وهو يصيب الكبار والصغار على حد سواء. وعرف بالمرض الاجتماعي اذ ان معظم الاصابات به كانت تحدث في اوساط الاحياء الشعبية المزدحمة بالسكان التي تعاني سوء التهوية وعدم دخول اشعة الشمس اليها ، الامر الذي جعل المساكن غير صحية. فضلاً عن قلة التغذية وعدم تنوعها لانخفاض المستوى المعاشي لدى تلك الطبقات الفقيرة.

انتشر مرض السل في بغداد على الرغم من تركز القسم الاكبر من المؤسسات الصحية فيها. وظهر في المدن ذات الكثافة السكانية العالية لاسيما مدينتا كربلاء والنجف المقدستان.اما عن موقف السلطات الصحية من انتشار المرض فلم تكن لها خطة مرسومة للسيطرة عليه او الحد من انتشاره ، فكان عملها لا يتعدى ادخال المصاب الى ( مستشفى العزل بانتظار الموت) لعدم توفر الادوية المضادة للمرض . وكان معظم المصابين المتمكنين مادياً يتوجهون الى مصحات لبنان للاستشفاء. لم تقف الدوائر الصحية والجمعيات الخيرية في العاصمة مكتوفة الايدي امام انتشار مرض التدرن الرئوي فقد قامت جمعية مكافحة التدرن التي كانت تعرف في بداية تأسيسها بجمعية مكافحة السل بجهود كبيرة لمعالجة المرض .

الانكلستوما “ الدودة الشصية “ :

تركز مرض الانكلستوما. في الاحياء (الشعبية) التي كان اغلب سكانها من الطبقة الفقيرة والمعدومة لانخفاض مستواها المعاشي فضلا عن عدم التزامها بالشروط الصحية. وانتشر المرض في صفوف الفلاحين بالدرجة الاساسية.لاسيما سكان الصرائف بعد هجرتهم الى العاصمة واستقرارهم في بيئة ملوثة تفتقر الى ابسط الخدمات الصحية .

امـراض العيـون :

كانت امراض العيون تؤلف واحدة من اخطر المشكلات الصحية التي واجهتها المدن العراقية ومنها بغداد ويأتي مرض التراخوما في مقدمة هذه الامراض . ارتفعت نسب الاصابة بمرض التراخوما بالمقارنة مع الامراض الاخرى التي ابتلى بها المجتمع العراقي. وتركز في مدينة بغداد اكثر من المدن الاخرى وبلغت نسبة الاصابة فيه في بداية الاربعينيات حوالي 26.9 بالمائة. ومما يجدر ذكره في هذا المجال ان انتشار هذا المرض الخطر قد ادى الى اصابة البعض بـ (العور والعمى) على الرغم وجود المؤسسات التعليمية والتثقيفية اكثر والمنظمات الصحية الوقائية والعلاجية « .

وبعد تفاقم المرض وانتشاره بشكل واسع في بغداد بذلت وزارة المعارف جهوداً كبيرة في زيادة كفاءة دوائر الصحة التابعة لها ، التي كانت تعرف « بصحة المعارف « لغرض تمكينها من اجراء الفحوص الطبية بصورة منتظمة على طلبة المدارس في مختلف المناطق واقامة المستوصفات في بغداد وفتحت اول مستوصف لها في اواخر عام 1944 لغرض تقديم العلاج اللازم لطلبة المدارس، ضم المستشفى 42 سريراً موزعة على ردهتين منعزلتين واحدة للطلاب والاخرى للطالبات .

امراض الاطفال :

انتشرت الامراض بين الاطفال لا سيما الهزال والإسهال والتهاب الأمعاء والسعال الديكي والحصبة والنكاف والزحار والكزاز ، بسبب ضعف مقاومتهم للامراض فضلاً عن جهل الامهات بقواعد التربية الصحية وانعدام العناية بتنوع التغذية.

وأدى انتشار الامراض بين صفوف الاطفال الى ارتفاع نسبة الوفيات بالمقارنة مع الولادات لا سيما في المناطق المتخلفة التي تعتمد على القابلات الشعبيات دون المؤسسات الصحية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الدوائر الصحية في معالجة الامراض للتقليل من نسبة الوفيات ، لكن هذه المحاولات كانت نسبية في نجاحها ، اذ استمرت حالة ارتفاع وفيات الاطفال الرضع في مدينة بغداد في نهاية الاربعينيات وبداية الخمسينيات .

اما فيما يتعلق بتنظيم الإحصاءات الحياتية في العاصمة فقد نظمتها « مجموعة من الاميين والجهلة « الذين قسموا اسباب الوفاة على اربعة اقسام :

القسم الاول : اذا كان المتوفى طفلاً فان سبب وفاته هو عدم الرضاعة .

القسم الثاني : اذا كان المتوفى شاباً فان سبب وفاته حمى وضعف عام .

القسم الثالث : اذا كان المتوفى كبير السن فان سبب وفاته هو الشيخوخة .

القسم الرابع : اما اذا وجدت بقع زرقاء على صرة المريض او في أي مكان من جسمه عندها ترسل الجثة الى الطب العدلي للتحري عن سبب وفاته. وكانت تعطى اعانة مالية مقدارها خمسة دنانير لذوي المتوفين الفقراء ، وقد اورد الدكتور فالح حسن مطر الذي مارس العمل في مديرية صحة العاصمة في الخمسينيات حادثة طريفة مفادها لجوء بعض « النساء « الى وسائل غير مشروعة في الحصول على شهادة الوفاة بقصد الحصول على تلك المعونة ، بوساطة احضار تابوت وهمي ولبس الثياب السوداء « وهن يبكين ويلطمن الخدود « ، وعندما اراد الدكتور الكشف عن تلك الجثة امتنعن عن ذلك بحجة ان المتوفاة شابة ولا يجوز الكشف عنها لانه حرام حسب اعتقادهم ، وعندما اصر الدكتور على اجراء الكشف لم يجد سوى مجموعة من الحجارة ، فهربت النساء.

الامـراض الزهريـة :

أدت ظروف الحرب العالمية الثانية الى تفاقم مشكلة البغاء « الاتصال الجنسي غير المشروع «. مما ساعد على انتشار الامراض الزهرية في بغداد لاسيما السفلس والسيلان والقرحة اللينة ، وهذه الامراض تركزت في العاصمة بشكل كبير لوجود العوامل المساعدة على انتشارها. لاسيما تعدد دور البغاء العلنية والسرية. وحاولت المؤسسات الصحية والجمعيات الاجتماعية معالجة مشكلة البغاء للحد من انتشاره لخطورة اضراره الصحية والاخلاقية. وهذه الجهود كانت عديمة الجدوى بفعل علاقة السماسرة بعض الاوساط المتنفذة الامر الذي ساعد على استمرار البغاء وديمومته.

لكن انتشار الامراض الزهرية بقي مرتفعاً فيها ، ويبدو لنا ان هذه الارقام لا تمثل العدد الحقيقي للمصابين في العاصمة لامتناع بعضهم عن مراجعة المستشفيات الحكومية من جهة ، او مراجعتهم للاطباء الاختصاصيين لاسباب اجتماعية من جهة اخرى، لذلك فان البيانات الرسمية لم تصل الى احصاء دقيق عن نسبة الاصابة او عدد المصابين في الامراض الزهرية .

عن رسالة :

الحياة الاجتماعية في بغداد 1939 ــ 1958