طه حسين يرصد انهيار الحكم والدول عند إبن خلدون

طه حسين يرصد انهيار الحكم والدول عند إبن خلدون

د. إبراهيم البحراوي
من الجوانب التي توقف عندها د. طه حسين في رسالته للدكتوراه التي قدمها لجامعة السوربون عام ١٩١٧ حول فلسفة ابن خلدون الاجتماعية القسم الثالث من مقدمة ابن خلدون والذي يبحث كل الظواهر الاجتماعية المتعلقة بالحكومة وعوامل تأسيسها

ومدى تقدمها وأسباب اضمحلالها وبوادره، وقد مس طه حسين أثناء عرضه وتحليله لأفكار ابن خلدون في هذا الجانب أفكار بعض الباحين الغربيين الذين تناولوا الموضوعات نفسها بعد ابن خلدون، مثل مكيافيللي ومونتسيكيو وكورنو، وهو ما يحتاج الى التوسع من جانب الباحثين المعاصرين، يقول طه حسين: ومع أن ذهن ابن خلدون شرقي محض،
فإنه يدهشنا أن نرى من خلال أرائه الصائبة العميقة مشابهات يمكن معها أن نقربه بنوع ما من بعض الأذهان العظيمة في العصور الغابرة والحديثة، فمثلاً تذكرنا بعض تأملاته بتأملات أرسطو ومكيافيللي ومونتسكيو، يتخذ ابن خلدون الدولة الإسلامية ونشأتها نموذجاً لتأملاته مبتدئاً بمكونها الأول وهو القبيلة.
بين عناصر القوة في حياة القبيلة، يرصد ابن خلدون العصبية والفضيلة ويرى أنهما تؤهلانها للفتح، ولكن لابد في رأيه من تدخل عامل ثالث لكي تخرج هذه الأهلية من القوة الى الفعل ذلك العامل هو مبدأ ديني أو سياسي، مهمته أن يحدد الغاية التي تجري نحوها القوة التي نالتها القبيلة، وأن يشحذ كذلك تلك القوة وأن يسير بها نحو طريق أخرى فيحول بذلك - على حد تعبير طه حسين -
دون أن ترتد هذه القوة المكتسبة الى القبيلة نفسها، وينتهي ابن خلدون من رصد حالة التقاتل والتنافر التي كانت سائدة بين القبائل البدوية قبل الإسلام، وكذلك حالة التآلف والتآخي التي رتبها الرسول «صلي الله عليه وسلم» بين هذه القبائل الى أن العنصرين الديني والسياسي معاً، عندما دخلا حياة القبائل العربية شحذا قوتها فلم يمض إلا القليل على وفاة الرسول حتى انقضت تلك القبائل على الشعوب المجاورة وشيدت دولة شامخة ويضرب ابن خلدون أمثلة تؤكد أثر العامل الديني والسياسي في حياة الحكم والدول، ويؤكد أنه حيثما
اضطرمت نار غزوة أو ثورة تنتهي بعزل أسرة وإحلال أخري مكانها، مبدأ ديني أو سياسي هو الذي آثار هذه الحركة، فيري أن استعادة قريش للسلطة بعد الإسلام سبب في نشوب حروب أهلية دفعت بني أمية - وهي قبيلة كانت تتمتع قبل الإسلام بسلطان مطلق- الى رئاسة الدولة في القرن الأول من الهجرة، وكانت غاية الحروب الأهلية التي انتهت بإسقاط تلك الدولة، وإحلال الدولة العباسية محلها هي أن تعاد الى الفرس سلطتهم التي استلبها العرب من ناحية،
وأن يعاد الملك الى قريش وبني هاشم التي كانت تنافس الأمويين منذ الجاهلية.. وفي هذين المثلين كان العامل السياسي هو المحرك، ويرصد ابن خلدون العلاقة المتينة بين قوة إيمان الرؤساء بالعامل الديني أو السياسي وكذلك قوة إيمان أتباعهم وجندهم بهذا العامل، وبين نتائج مشاريعهم، فيري أن أسباب معظم الهزائم التي أصابت كثيراً من الطامعين ترجع إما الى فتور الإيمان لدي قبائلهم وإما الى زوال العصبية من صفوف الجند، إن كانوا من المرتزقة.
وينتقل طه حسين بعد أن ينتهي من رصد عوامل نشوء وازدهار الحكم والدولة في مقدمة ابن خلدون الى استخلاص ما يسيمه العناصر أو الجراثيم التي تؤدي الى انهيار واضمحلال الحكم والدولة.
يرصد طه حسين ثلاثة أسباب جوهرية كبري، وهي ميل الرئيس الى الاستقلال بالحكم والانفرادية بعيداً عن الحزب الذي مكنه من الوصول إليه، وهو في حالة الدول الإسلامية الارستقراطية المكونة من زعماء القبائل فينشأ الصراع الذي ينتهي عادة من وجهة نظر ابن خلدون الى انتصار سلطة الفرد أو الأوتوقراطية كما يسميها طه حسين، ويستدعي طه حسين رأي أحد المؤرخين المحدثين وهو فوستل دي كولانج الذي يؤيد نظرية ابن خلدون،
حيث يقرر أنه في بدء نهضة كل مدينة توجد أرستقراطية تحكم، ثم ينشب بعد ذلك صراع بين تلك الأرستقراطية وأقوي زعيم، ويسجل طه حسين أن أفق ابن خلدون المعرفي كان محصوراً في تاريخ المشرق، ومن هنا استخلص قانوناً يفيد أن سلطة الفرد تنتصر دائماً، اعتماداً على التجارب المشرقية وحدها في حين أن التجارب الغربية في المدن اليونانية واللاتينية كانت تشهد عكس ذلك،
حيث كان النصر حليف الأرستقراطية، المهم عند ابن خلدون أن ظفر الاستبداد الفردي يحمل معه أول جرثومة لاضمحلال الحكم، فالهاوية التي تفرق بين الملك المستبد وبين الحزب الأرستقراطي تضطره الى أن يلتجئ إلى قوة أخري تحميه وتحمي الدولة وتقمع الثورات الداخلية، وهي قوة لا تكونها رابطة الدم، بل هي قوة الجند المرتزقة الذين لا ينصرون الملك إلا التماساً لعطائه وللسلطة والبذخ، فيضطر الملك الى الإغداق عليهم وحرمان شعبه وإفقاره أوإثقاله بالضرائب مما يثير السخط ضده.
أما السبب الثاني فهو أطماع الأتباع والجند المرتزقة الذين يظهرون الاستعلاء على الشعب، ويتباهون باعتماد الملك عليهم، وينتهون عادة الى الإطاحة به، أما السبب الثالث فيصفه طه حسين على النحو التالي: وفوق ذلك يميل الملك وأسرته بطبيعة الأمر الى أن ينبذوا تقشف الحياة البدوية، وأن يتبعوا نوعاً آخر من الحياة يغلب فيه عنصر الترف واللهو، ويؤدي ذلك الترف الى إضعاف الدولة إضعافاً مزدوجاً، فيتعود الملك وبطانته الفتور والتراخي وزيادة الإنفاق، أعتقد أن الباحثين المحدثين في علم الاجتماع السياسي ونظم الحكم سيضيفون الكثير لابن خلدون.

عن جريدة المصري اليوم/ 2011