الفرد والدولة عند هيغل وماركس

الفرد والدولة عند هيغل وماركس

أحمد جميل حمودي
لن تجد بين مؤسسي الماركسية من يجادل في الأثر الذي تركه الجدل الهيجي على فكر ماركس, في الوقت الذي افترق عنه في العلاقة بين الفكر والوجود وهي التي عُبّر عنها في ما بعد بانفصال الرؤية بين الفلسفة المثالية (الهيغلية) والفلسفة المادية (الماركسية) ,كما كان يعبّر ماركس عن ذلك بأنه"قلب المذهب المثالي"او"عكس التصور المثالي للعالم".

(راجع مقالة خليل اندراوس: نقد الهيجلية من وجهة نظر ماركسية,الحوار المتمدن,حيث يعالج التباينات بين المنهج الهيغلي والماركسي).
لكن قليلة هي البحوث والمقالات التي درست الافتراق الهيغلي-الماركسي في العلاقة بين الفرد والدولة.
نظر كارل ماركس (1818-1883) وهو في الخامسة والعشرين من عمره الى ما كتبه الفيلسوف الالماني جورج فريدريخ فلهلم هيغل(1770- 1831) في مؤلفه"مبادئ فلسفة القانون"الذي كتبه سنة 1821 , وفيه جسد المثالية التي انتهت الى تقبل الملكية (بفتح كل من الميم واللام) الدستورية, والى تصورات لماهية الفرد لم يستسغها ماركس, ذو الضمير العلمي منذ شبابه الباكر, والصواب المنقطع النظير في سنوات نضجه, فانتقدها في مؤلفه ذاك الذي كتبه بعنوان"نقد القانون السياسي الهيغلي".
كان هيغل قد صاغ مؤلفه في مجموعة من الفقرات بلغ عددها ثلاثمائة وستين, وتعرض ماركس لما يربو على ستين منها, وهي التي ركّز فيها هيغل على الصلة القانونية بين الدولة والأفراد, او ما يسمى في مصطلح الحقوقيين بالقانون الدستوري. ويستدل على الاختلاف بين هيغل وماركس من اعتراض الأخير على الفقرة رقم 277 من كتاب هيغل, والتي جاء في نهايتها ان شؤون الدولة ترتبط بالأشخاص الخاصة- من حيث هم كذلك- على نحو خارجي ومحتمل الوقوع", تأسيسا على ما جاء في بداية الفقرة من أن"شؤون الدولة ترتبط بالافراد الذين بهم تجري ممارستها ووضعها موضع التنفيذ, وهذا لا يكون وفقا لأشخاصهم المباشرة بل بصفتهم العامة والموضوعية فقط", فيقول ماركس"انه ما للدولة من فاعلية إلا من خلال الأفراد, ومن ثم فان شؤونها هذه ترتبط بالفرد من حيث انه فرد سياسي لا من حيث انه فرد بدني, أي أنها ترتبط بالصفة السياسية للفرد, ولا ترتبط بالأشخاص الخاصة- كما يقول هيغل- على نحو خارجي ومحتمل الوقوع, بل إن هذه الشؤون بالأحرى ترتبط بالدولة نفسها- برباط هو من جوهر الدولة ذاتها. إن هذه الشؤون هي الفعل الطبيعي للدولة من حيث صفتها الجوهرية.... ولكن هيغل يدرك الدولة وشؤونها على نحو مجرد لذاته ويدرك الفردية الخاصة كنقيض لذاك. انه ينسى أن جوهر الشخص الخاص ليس لحيته ولا دمه... بل على العكس صفته الاجتماعية, وان شؤون الدولة ليست إلا افعالا تصدر عن صفات الانسان الاجتماعية, وسلوكا يعرب عن هذه الصفات, وبالتالي نفهم ان الافراد- من حيث انهم قائمون بشؤون الدولة وسلطاتها- معتدّ بهم وفق صفتهم الاجتماعية لا صفتهم الخاصة". ويرى احمد علي بدوي ان هذه النتيجة التي يريد ماركس التوصل إليها وهي إدانة فصل الإنسان طاقته الاجتماعية عن نفسه تدين من تلقاء نفسها تقاعس الإنسان, مثلما نشهد لدينا في الشرق بصورة ملحوظة عن العمل العام بحجة انه من شؤون السياسة التي يجب تركها"دع الخلق للخالق"!.
إن النص الذي كتبه ماركس في نقد فلسفة القانون عند هيغل لم يحظ بالاهتمام في عالم النشر إلى أن نشره معهد"ماركس انجلز"في موسكو سنة 1927 بإشراف البرفيسور ريازاروف, وترجمه ج.موليتور الى الفرنسية سنة 1935 بعنوان"نقد فلسفة الدولة لدى هيغل", وان كان ماركس قد اختار له عنوان"نقد القانون السياسي الهيغلي". في هذا الكتاب تبدّى نضج ماركس في تلك المرحلة التي لم يخل من حماس الشباب, وفيها وضع قدمه على بداية الطريق الذي انتهى فيه الى ربط الفلسفة بالكادحين"ستنتصر الفلسفة بانتهاء عناء الكادحين, وسيظل عناء الكادحين طالما بقيت الفلسفة مهزومة"! لقد كان نقد ماركس لهيغل موجها نحو رؤيته لعلاقة الفلسفة بالدولة بعد ان كان ربطها بتعظيم الدولة, يقول هيغل:"لا تمارس الفلسفة لدينا[الألمان] كحرفة خاصة كما كان عليه الحال لدى الإغريق بل إن لها بصفة أساسية - في خدمة الدولة او اقتصارا عليها!- وجودا عاما يمس الجمهور". ومن بين ما يقوله ماركس في المقدمة التي نشرها سنة 1844 في باريس لنصه في نقد هيغل:"اين تكمن الإمكانية الايجابية لخلاص الأمة؟ الإجابة: في تكوين طبقة ذات قيود جذرية, طبقة من المجتمع المدني لا تكون هي إحدى شرائح الطبقة الوسطى من المجتمع المدني, تكوين وضع اجتماعي هو انحلال لجميع الأوضاع الاجتماعية, تكوين بعض من الدوائر له طابع العمومية بحكم عمومية معاناته, ولا يدعي لنفسه حقا خاصا, لان ما يعانيه ليس ظلما بل الظلم نفسه من دون كلمة واحدة زائدة ولا يستطيع أن يتباهى الا بلقب واحد دون أي لقب تاريخي: هو لقب"الإنسان", ولا يكون مناقضا- من ناحية ما- للعواقب بل مناقضا من جميع النواحي للأوضاع الممهدة للنظام السياسي الطاغي, وأخيرا لا يملك خلاصا إلا بخلاصه من دوائر المجتمع الأخرى كلها. أي أن يكون ضياعا تاما للانسان, ومن ثم لا يستطيع ان يسترد سيطرته على نفسه الا باسترداد السيطرة التامة على الانسان. انحلال المجتمع هذا يتحقق في وضع اجتماعي بعينه: هو وضع الكادحين".
ويوم يرى الكادحون صورتهم على هذا النحو الذي فصّله ماركس, ويتعرّفون على أنفسهم على هذه الشاكلة, فسيستملكهم غضب كذلك الذي صوره شكسبير في مسرحيته العاصفة, وهو يرى هيئته المنفرة في مرآة للمرة الأولى. ولكن العقلاء الذين يرون الوحش أصلا على هيئته الحقيقية عليهم أن يقوم عذاب هذا اليوم الأليم!