هكذا قال معالي يوسف غنيمة عن حقوق العمال

هكذا قال معالي يوسف غنيمة عن حقوق العمال

ساقنا حب الاستطلاع لان نعود الى مجموعات احدى الجرائد البغدادية لنقلب صفحاتها فبينما كنا نتصفح مجموعة عام 1929اذا بنا نعثر على سلسلة من المقالات حول "حقوق العامل والفلاح في العراق" بقلم معالي يوسف غنيمة. وقد استلفت نظرنا هذا العنوان الجذاب فرحنا نقرأ المقالة تلو الاخرى.

وما كدنا نفرغ من قراءتها جميعا الا وتمثلت امامنا صور من الماضي والحاضر. وكأنها تقول جميعا، لقد سبقكم ايها الصحفيون وايها التقدميون في ميدان المطالبة بحقوق الفلاح والعامل رجل من اهل هذه البلاد منذ سنوات عديدة، واشار بكل قوة وحماس الى ضرورة العناية بالطبقة العاملة ان كانت في المعامل او المزارع. ويصعب كثيرا تلخيص ماورد في تلك المقالات من آراء واتجاهات، ولكن تلك الاراء والاتجاهات ليست بالخافية على ما يتابع تطور التفكير الحديث سيما في الاونة الاخيرة التي تولدت عن الحرب الحاضرة.. فالكل ينادي بضرورة تأسيس الضمان الاجتماعي وتعميمه لكافة الطبقات الكادحة، وقد نال السيد وليم بفريج شخرته العالمية عندما اصدر تقريره عن "الضمان الاجتماعي في بريطانيا".
ولكن معالي يوسف غنمية يقول عام 1929: "من واجب العدل ومقتضيات النظام الاجتماعي الراقي ان تضمن راحة كل افرد الأمة، وتكفل طمأنينتهم مدى الحياة، كما يجب الاهتمام باعالة ذويهم بعد موتهم، وذلك بتحديد ساعات العمل وتوفير شروط الصحة في محلات سكناهم واعمالهم وامان ومستقبل كل فلاح وعامل وغيرهما ويفكر في وسائل معيشتهم عند العجز والهرم وحلول العاهات ويقام باعالة ايتامهم واراملهم بعد موتهم".
فهل قال بيفريج باتري اكثر مما قيل من قبل رجل عراقي قبل ستة عشر عاما؟ ان الجواب على هذا السؤال ليس بالمهم ولكن المهم ان نعرف الدافع الذي حدا به الى مطالبة الحكومة بهذه الاصلاحات وليس هذا بالصعب فقد قال معاليه في هذا الشأن: "يؤلمني كل الالم ان اكتب هذا الفصل المحزن لاصور بقلمي حال الفلاح والعامل تلك الحال التي لا ترتضيها البشرية المتضامنة ولا يقرها العقد الاجتماعي بل ينفرها العقل السليم.
ويشجبها الشعور الحي. ولكن ما العمل ان ان لم اعين الداء واصف مظاهره لا اتمكن من ايجاد الدواء ولا تضميد القروح والجراح" وهنا نقف لنسل انفسنا عن تلك الامور التي لا ترتضيها البشرية المتضامنة ولا يقرها العقد الاجتماعي بل ينفرها العقل السليم ويشجبها الشعور الحي؟ وهنا يزودنا الكاتب بالجواب فيقول "انسان عريان او يكاد يكون عريانا اذ لا يستر جسمه الا ثوب ممزق او عباءة ممزقة، حافي الرجلين منهول القوى يشتغل منذ الفجر حتى ساعة متأخرة من الليل في كرب الارض وحرثها ويذر البذور وسقيها.. لا يتغذى الا خبز شعير او خبز ذرة او ارز، يولد جاهلا ويموت جاهلا. لا يقرأ ولا يكتب ولا يعرف من الدنيا وملذاتها الا ما تسوقه اليه طبيعته". وليس العامل باسعد حظا من الفلاح وفي كلتا الحالتين لا نجد سوى "حقوقا مضاعة وكرامة ممتهنة وحياة مؤلمة وقوى مبعثرة وشيخوخة تعسة كل ما يملكها الفلاح والعامل العراقي". حياك الله ايها الكاتب فلقد قلت الحقيقة ووصفتها ادق الوصف ولم ترد بها لنفسك سوى ان نرى ابناء المجتمع في سعادة وطمأنينة. الست انت القائل منذ اعوام طويلة ما يقوله الكثيرون من رجال الامم الديمقراطية اليوم "اسعى لاجل الفلاح ان ياكل الزبدة والدجاج مع الخبز وان يعيش برفاه" و"انشد رحمة للاجراء واطلب رزقا للعاطلين منهم". لقد كانت هذه الافكار ولا شك ثورة على النظام الاجتماعي – الاقتصادي السائد في العراق حينذاك. ولربما ظن البعض الان ان ليس في هذه المبادئ ، ولا هذا الاتجاه اي خطر او ثورة. وليس فيها اي جديد ولكن ذلك خطأ واضح ان قررنا كذلك. فنحن انما نقرن الحاضر بالماضي – فان وجدت هذه الافكار قبولا ورواجا في هذه الايام. فلقد غمرت الافكار الحديثة العراق وانتشر التعليم وعلمتنا الحرب ما لم نكن نعلمه من قبل. ولكن تذكر ايها القارئ عام 1929 والعراق في اوائل نهضته وعدد المتعلمين فيه قليل جدا واقل منهم بكثير عدد اولئك الذين كانوا يظنون ان للفلاح والعامل حقوقا اكثر مما وهبته الايام وما اعطته اياه التقاليد البالية. ولذلك فمن الحق ان نقول ان معالي يوسف غنيمة ان لم يكن الثائر الاول على النظام الاجتماعي الذي لا ينصف الطبقات العاملة، فانه ولا شك من اوائل من اعلنوا الحرب على التاخر ورفعوا علم التحرر من قيود الماضي السحيق وكان رائده من ذلك ان يحضر الرأي العام العراقي لتقبل النظم الاجتماعية الحديثة التي تستهدف نشر مبادئ التضامن الاجتماعي بين الافراد على السواء. فقد طلب مثلا بضرورة جعل ضمان خاص بالشيخوخة وحجته في ذلك ان الرجل الذي "يقضي زهرة شبابه ويفني ايام كهولته في خدمة المجتمع بمهنة يعالجها وضنعة يزاولها من فلاحة او او حياكة او بناء او نجارة او حدادة او غيرها من الصناعات يحق له في ايام شيخوخته ان يقوم المجتمع باعالته وتهتم حكومة البلاد به ولا تتركه يعاني الامرين بين انياب العوز والفقر المدفع" ومن حقهم "ان يطالبوا المجتمع والحكومة باعالتهم في شيخوختهم باسم التضامن الاجتماعي وليس باسم الصدقة." ففكرة التضامن الاجتماعي واضحة جدا في المطالبة بهذه المؤسسات التي يجب ان تكون جزءا من ماكنة الدولة وليس امورا عارضة فيها.
ويذهب في مطالبته تحقيق حقوق المنتجين بقوله ان من حق العمال "ان يطلبوا ضمانا يكفل لهم اعالتهم ومداواتهم في حالة مرضهم ولا سيما الاحوال الناشئة عن مهنهم التي تعطلهم عن العمل والارتزاق الى اجل معين او دائم" وبهذا يكون قد وضع اساس نظام التعويض عن الاضرار التي تحدث عن العمل ومسؤولية صاحب العمل عن ذلك ثم ذهب الى اكثر من هذا فعدد الاعمال الخطرة وما يحدث التسمم وعالجها من الوجهات الصحية والوقائية وعين لكل منهم تعويضا حسب ما هو جار عند الامم الراقية.
وفكرة التضامن الاجتماعي هي المبدأ الذي حدا بمعاليه الى معالجة هذه القضايا بطريقة علمية واضحة. فعين الداء ووصف الدواء، فقد رأى في تأسيس جمعيات ونقابات العمال تضامنا بين اصحاب املهن وهذه الخطوة الاولى في سبيل الاصلاح الاجتماعي اذ انها سهلت عليهم المطالبة بحقوقهم ورفهت عن حالتهم ولا غرو في ذلك اذ "ان اصحاب رؤوس الاموال يتمكنون من خذل الاجير المنفرد الي لا تعاونه نقابة مهنية، فالمساومة مباشرة بين الطرفين تفضي لا محالة الى تعلب الاول على الثاني لان الاجير المنفرد الذي لا يستند الى قوة نقابة لا يمكنه الصبر على العطالة زمنا طويلا بل يضطر الى العمل باجرة زهيدة فيغلب على امره" وعلى هذا فقد نادى الكاتب قائلا:.
"وحدوا كلمتكم ايها الاجراء ولموا شعثكم ليسمع لكم صوت". وقد نبه الحكومة الى ضرورة وضع تشريع خاص بالعمال اذ ان بقاء البلاد بدون قانون يعين حقوق العامل يعد نقصا كبيرا في التشريع اعراقي وخطرا على النهضة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما انه بين ان استقلال البلاد يعتمد بدرجة كبيرة على نهضة ورقي الاكثرية فيه من عمال وفلاحين فقال ان من واجبنا" ان ننسج قماش استقلالنا في مناول حياتنا ونفرغ دعامته في قالب معاملنا ونكتب صكه في مزارع فلاحينا" ولم يقف عند هذا الحد بل عين مطالب الفلاحين والعامل. فقال في مطالب الفلاح .
1- نبقي الحكومة مالكة رقبة الارض 2- تفويض الاراضي للفلاح والعامل بيده اولا وترجيحه على اي كان سواء 3- تشجيع الملكية الصغرى 4- وضع تشريع يعين الحد الاعظم من مساحة الاراضي التي تعهد زراعتها لشخص واحد 5- وضع تشريع ينص على اشروط التي تطلب من اصحاب الملكيات الكبرى وعند اخفاقهم في تطبيقها الى اجل مسمى يحرمون منها 6- تاليف مصرف زراعي ونقابات زراعية لمعاونة الفلاحين ذوي الملكيات الصغرى بتقديم البذور والسلفة المالية والسماد والادوات والارشاد الزراقي الفني 7- تشريع يعين حصة السركال في المزارع تعيينا عادلا يرفع الحيف الحاضر عن كواهل الفلاحين 8- تشريع ينص على الحد الاعظم للفائدة والكسب للمالكين والرأسماليين والسراكيل من المساعدات والسلفات 9- تشريع ينص على واجبات الرؤساء والشيوخ من الاهتمام الصحي والتهذيبي وضمان العجز للفلاحين من عشيرتهم او قبيلتهم او فخذهم 10- حماية الانتاج الزراعي وايجاد اسواق له. اما مطالب العمال فهي:
1- تحديد سن العمال 2- وساعات العمل 3- تحديد الاجرة الصغرى 4- ضمانة في حالة المرض 5- وعند وقوع الحوادث المهنية 6- وعند الشيخوخة والعجز 7- معاونة في ايام العطلة 8- معاونة لايجاد شغل للعاطلين ومكافحة البطالة 9- معاونة لايجاد دور سكني صحية ورخيصة 10- رفع مستوى التهذيب بين طبقات العمال.
هذه خلاصة سريعة لعدد من مقالات معالي الاستاذ غنيمة كتبها منذ ستة عشرة عاما بصراحة وجرأة يهنأ عليهما – ولكن قد مرت السنين ومازال العامل والفلاح يعاني انواعا من الجور والفاقة، ومازالت نهضة البلاد مفتقرة الى ما نادى به من اصلاحات. ونحن نسجل هذا لا لشيء بل للتاريخ ونذكر عسى ان تنفع الذكرى.
جريدة السياسة 1947