هل كانت نهاية المس بيل في العراق طبيعية أم انتحارا..؟

هل كانت نهاية المس بيل في العراق طبيعية أم انتحارا..؟

جورجينا هاويل
ترجمة: محمد حسن
وجدت غيرترود، التي اصبحت في الثالثة والخمسين من عمرها، تغرق أكثـر فأكثـر في صحبة الملك، لقد كان فيصل ابن السادسة والثلاثين، الرفيق الأكثـر سحرا ولطفا مع من يثق بهم، وكان يمارس تأثيرا مقنعا على كل من حوله، وكان وزير المشرق وفيصل يتمتعان بحس فكاهي كانا يستمتعان به في جلساتهما السرية لدرجة تجد مساعديهما كثيري الفضول لمعرفة سبب الضحكات التي كانوا يسمعونها تملأ المكان.

ومن جانبه، كان الملك يرى في غيرترود انسانة استثنائية وحليفة يمكن الاعتماد عليها وتتمتع بمعرفة واسعة وتاريخ شخصي حافل بالمغامرة يصعب عليه - كرجل عربي - تصديقه. وكانت حواراتها تشتعل نارا كلما لامست الوضع السياسي، وعلى الرغم من صعوبة الطقس وتأثيره على صحتها، فانها ظلت تحب التمشي على ضفاف دجلة في ساعات الصباح الاولى والسباحة في مياهه في المساء.

حين قابلتها الصحافية الاميركية مارغريت هاريسون من صحيفة نيويورك تايمز في عام 1923 في مكتبها ببغداد كتبت تقول انها دخلت الى غرفتها الصغيرة المواجهة للنهر فوجدت انها امام 'الغرفة الاكثر فوضى التي رأيتها على الاطلاق، فقد وجدت الكراسي والطاولات والارائك مغطاه بالوثائق والخرائط والمنشورات والأوراق باللغات العربية والانكليزية والفرنسية'.
تقاعد السير بيرس كوكس واستبدل به السيرهنري روبس وظلت غيرترود في بغداد لتقديم النصح الرسمي وغير الرسمي. وكانت هذه الفترة من حياة فيصل وغيرترود من اكثرها ارتياحا ومتعة لكليهما واصبحت بينهما علاقة صداقة وطيدة ومبنية على الثقة.
ولم يكشف عن مدى عمق علاقتهما الا بعد وفاة غيرترود، حيث اجرت مجلة بريطانية مغمورة اسمها EVERYBODYصS WEEKLY مقابلة مع الملك وسألته عن العلاقة التي كانت تربطه بها، فامتدحها فيصل بشدة وقال انها اسهمت شأنها شأن لورنس في اندلاع ثورة القبائل العربية ضد الاتراك، وان اسمها سيظل محفورا في تاريخ العرب. واضاف انها لم تكن تعرف الخوف او الخطر وكان آخر ما تعبأ به هو سلامتها الشخصية.
وكان الاتراك في وقت مبكر من الحرب قد اعلنوا عن مكافأة لمن يأتي برأس غيرترود لأنهم كشفوا عن المساعدات التكتيكية التي كانت تقدمها للعرب في الميدان وكانت لها فائدة كبيرة. لقد اعاد الملك فيصل، بعد تتويجه، ترتيب امور حياته. فقد انتقل من شقته في السراي الى قصر على تخوم بغداد. وكان له قصر آخر في منطقة الحارثية على شاطئ الفرات وامامه حديقة جميلة، واشترى مزرعة في مدينة خانقين على الحدود مع ايران. وحين تعلم قيادة الطائرات في وقت لاحق، كان ينتقل بين قصوره وممتلكاته جوا.
حد السيف
لقد كافحت غيرترود، ليس بأقل من فيصل، من اجل استقلال العرب وكانت هذه الرسالة التي حملتها من القاهرة الى البصرة الى بغداد، وكانت تعارض التهديدات البريطانية بالانسحاب من العراق، وتشعر بخيبة الامل من تنامي التمرد.
ومع حلول عام ،1921 سارت الاحداث باتجاه ايجابي، فقد عاد كوكس، المفاوض الحكيم الذي يؤمن بالمبادئ ذاتها لغيرترود واصبح هناك ملك عربي متوج والنقيب، هذا الرجل البغدادي الذي يحظى بالاحترام، رئيسا للوزراء، واصبح حق تقرير المصير يلوح في الافق، لكن لندن كانت تصر على ضرورة قبول العراقيين بالانتداب بشكل رسمي، والا فإن الانسحاب من العراق سيكون الرد. وكان فيصل يسير على حد السيف، فقد انفكت قبضته على سوريا بسبب فرض الانتداب الفرنسي عليها. وهو كان يدرك ان مصداقيته كزعيم للعرب تعتمد على ان يبدو رافضا للانتداب البريطاني.
وكانت فكرة كوكس ان تقبل لندن باتفاقية بدلا من الانتداب، وكان من المقبول بالنسبة لعصبة الامم ان تفي لندن بالتزاماتها تجاه هذه الدولة الناشئة. وكان يرضي العراق قيام علاقات متكافئة وحكم ذاتي دون تدخل بريطاني وتولي جيش وطني حماية البلاد.
وعند بدء المفاوضات بين الجانبين، طالب البريطانيون الملك بالالتزام بالانتداب كشرط لتوقيع الاتفاق، لكنه اصر على ان الاتفاقية يجب ان تكون منفصلة ورفض رئيس الوزراء الاعتراف بها ان لم تكن كذلك، وكانت لدى فيصل اجندة أوسع، فقد اعتقد ان رفض العراق الاعتراف بالانتداب سيدفع السوريين الى رفض الانتداب كذلك، وكان يريد ان يظهر للعالم قدرة المسلمين على حكم أنفسهم بأنفسهم.
وكانت غيرترود في تلك الأيام تتردد يوميا على القصر، لكنها أصبحت تجد ان من الصعب التعاطي مع الملك، الذي أخذ يحرض ضد الانتداب. وحين حاول البريطانيون اعتقال احد الشيوخ الذي اغتال ضابطا بريطانيا، اتهمهم بانهم اعداؤه، وقال للصحافة بأن الوجهاء العرب لا يتلقون الأوامر من الأجنبي، وفي كل مرة يتم التوصل الى اتفاق، كان الملك يجد فيه خطأ جديدا.
محاولة أخيرة
وقد ضاقت غيرترود بمثل هذا الوضع، وكذا كوكس وغيرهما، وكان فيصل يجازف بفقدان ولاء الشيوخ والوزراء المعتدلين الذين ايدوه، فقررت غيرترود بذل المحاولة الأخيرة مع فيصل، الذي كانت على ثقة باحترامه لها.
وقد قدم الانكليز الكثير من التنازلات حول شروط الاتفاقية، وبقيت مسألة الانتداب، فرفض تشرشل أي حل وسط بشأنه، وطالب كوكس وفيصل بالقدوم إلى لندن، حيث سيحدد لهما انذارا نهائيا. واقترح كوكس نشر الاتفاقية مع الملك واضافة ملحق يؤكد ان المسألة الخلافية الوحيدة المتبقية هي الانتداب.
وبينما كانت هي وكوكس في اجتماع مع الملك في القصر تقاطر أكثر من ثلاثة آلاف شخص الى القصر ضمن تظاهرة احتجاجية نظمها حزبان سياسان متطرفان. وكانت تلك بداية قيام المعارضين بحشد قواهم، وكان فيصل يرفض اتخاذ اي خطوات ضدهم ما لم يتم الغاء الانتداب، فاستقال مجلس الوزراء بأكمله، وظل النقيب في عزلة، بينما امتد التمرد المناهض للانتداب.
وشن كوكس حملة على المعارضين واعتقل سبعة من قادة التمرد في بغداد وفر كثيرون منهم بلباس نسائي واغلق لهم صحيفتين وحزبين سياسيين متطرفين. وحين زاره كوكس وغيرترود كان شعوره بالارتياح واضحا، وابدى اعجابه بتحركات كوكس وقال 'لقد كفيتموني الملامة'. وبعد ذلك، أخذ المندوي السامي الاتفاقية الى النقيب في منزله، ووضع قلما في يده وطلب منه التوقيع عليها، فطالب النقيب المرتبك، قراءة بعض نصوص الاتفاقية الانكليزية، باللغة العربية، كي يتأكد من تطابق النص باللغتين، ثم وقع. وكان ذلك في العاشر من اكتوبر 1922.
وبعد ثلاثة أيام، أعلن فيصل ان الاتفاقية تمثل استمرارا لعلاقة الصداقة التي تربطنا بالحليفة بريطانيا، ومهدت الاتفاقية السبيل امام العراق للانضمام إلى عصبة الأمم كدولة مستقلة، وابلغ فيصل غيرترود، انه بعد المشكلات التي وقعت في دمشق، فإنه كان يتخوف من جلب زوجته وابنائه معه الى العراق، والآن، اصبح الوضع اكثر استقرارا في العراق، منه في الحجاز، فقد اخذ عائلة شقيقه زيد الى العراق. لقد قاتل زيد مع فيصل في الثورة ثم ذهب الى الدراسة في بريطانيا في وقت لاحق من ذلك العام. ويأتي في الاهمية من بعد زيد، الامير غازي ابن الملك فيصل ذي الاثنين عشر ربيعا، ولم يكن غازي يجيد قراءة أو كتابة اللغة العربية، واحتاج الى مدرسين خصوصيين، واصبح الملك في هذه الآونة يرتدي الملابس الاوروبية واراد من ابنه ان يفعل الشيء ذاته.
وكانت ثمة حاجة لتعيين مسؤولة مراسم في البلاط الملكي لمساعدة الملكة في تنفيذ المراسيم والبروتوكول الدبلوماسي، فاقترحت غيرترود على فيصل تعيين زوجة جودت بيك كبير مستشاري الملك للاضطلاع بهذه المهمة، وكانت المرأة من عائلة شركسية معروفة، وكانت متعلمة وتحظى باحترام شديد وتعيش في بغداد منذ زمن طويل. وكان الملك سعيدا بهذه النصيحة، وهنأت غيرترود نفسها على قدرتها على التفوق على حاجبة زوجة الملك السورية التي كانت تدفع بابنتها باستمرار لاقناع الملك على الزواج منها اما كزوجة ثانية او انها لم تكن تعرف ان الملك متزوج.
وبعد وصول الملكة الى بغداد، بدا ان فيصل سوف يستقبل ضيفا غير متوقع من العائلة، ضيف لن يكون موضع ترحيب كبير. انه والده الذي طرده ابن سعود من مكة التي ضمها الى مملكته، ولم تكن غيرترود مرتاحة لوجوده في بغداد وقالت انها تتمنى لو انه لا يستقر هناك. فهو مناهض لفيصل ومناهض للانكليز.
خطوة تصعيدية
لقد برزت المتاعب منذ ان اطلق الحسين على نفسه لقب خليفة المسلمين، وهو المنصب الذي الغاه مصطفى كمال اتاتورك. هذه الخطوة التصعيدية من جانب الحسين منحت ابن سعود المبرر لطرد الشريف حسين من مكة. فقد احتل ابن سعود حائل حيث اعتقلت غيرترود. وفي عام 1921 حيث تنصيب فيصل، اندلعت اعمال العنف، حين بدأت قوات ابن سعود في مهاجمة الحجاز وشرق الاردن الذي كان حينها تحت حكم عبدالله، وحتى حدود العراق، وقد لقي مائتين من رجال القبائل حتفهم في تلك الهجمات، واضطر سلاح الجو الملكي البريطاني للتدخل لحمايتهم.
لقد وجد فيصل وهو رجل النشاط والحركة، نفسه محاصرا بين القصر والمكتب ومحاطا بالكثير من المشكلات المعقدة واصبح يجد صعوبة في الوثوق بمن حوله وبدأ صبره ينفد. وقاوم المزيد من المحاولات لاجباره على التوصل الى حلول وسط مع الانكليز ومع وزرائه ومع الاكراد وآخرين واخذ يضيق ذرعا بتدخلات والده وطار الى شرق الاردن من اجل حل المشكلات التي تواجه العائلة وابلغ غيرترود في طريق عودته بأنه إذا لم يتخذ البريطانيون خطوات للتدخل في الحجاز، فسوف يضطر إلى مغادرة العراق من أجل القتال دفاعا عن عائلته، ونصحته بتوخي الحذر، لكن الملك لم يعد يأخذ بنصائحها، بل انه لم يعد يثق بها، وبالفعل، فقد بدأ شهر العسل بينهما إلى أفول.
وفقد الملك فيصل أعصابه اثناء جلسة لمجلس الوزراء بسبب الفشل في وقف الاجتياحات السعودية للحدود، وفجأة طالب خمسة من الوزراء بتقديم استقالاتهم، وسارع كوكس الى تهدئته. وكان قد بعث برسالة لابن سعود يطلب تفسيرا لتلك الاجتياحات، فرد ابن سعود بأن لا علم له بأي اعتداءات على قبائل فيصل.
وكانت غيرترود تخطط للعودة الى بريطانيا لقضاء العطلة ومقابلة والدها في طريق سفرها بالقرب من القدس. ثم عدلت عن رأيها بسبب حساسية الوضع وضيق الوقت، وقررت السفر لمقابلة والدها في 'زيزا' لعدة ايام فقط، فأبلغها انهما مدعوان على مائدة الامير عبدالله في معسكر يقيم فيه بالقرب من عمان، لكنه رفض الدعوة لان غيرترود كانت مرهقة، ثم اقنعته بانها بحالة جيدة وان بوسعها تلبية الدعوة. وكانت ترقب عبدالله طوال الوقت فأخذت عنه انطباعا سلبيا. وحين عادت الى بغداد، ذهبت لتناول كأس من الشادي مع الملك فيصل، وكتبت في مذكراتها ان قناعة كانت لديها في ذلك الوقت بان العراق هو البلد العربي الوحيد الذي كان يسير في الاتجاه الصحيح وان الفشل في العراق يعني نهاية الطموحات العربية، وقالت انها كانت محظوظة لانها تتعامل مع فيصل وليست مضطرة للتعامل مع عبدالله.
ضيف ثقيل
وحل الشريف حسين اخيرا ضيفا على الملك عبدالله في شرق الاردن. ومن هناك شن حملة ضد ابنه عبدالله لاذعانه للبريطانيين وللحكومة التي يقودها الصهاينة في القدس. وكان عبدالله الذي يتلقى 150 الف جنيه استرليني سنويا، بحاجة ايضا الى الدعم البريطاني لمحاربة ابن سعود. وقد ثار الخلاف بين الاب وابنه. وطرد الشريف حسين ثانية قأقام في يخته قبالة مدينة العقبة، لكن طلب منه المغادرة مرة اخرى، فانطلق من البحر الاحمر الى البحر المتوسط. وبدأت المآسي تنهال على العائلة الهاشمية.
وقد انقذ الموقف السير رونالد ستورز حين وجد ملاذا للشريف حسين في جزيرة قبرص، حيث كان ستورز حاكما لها. وعاش الحسين في المنفى هناك حتى وفاته. وفي هذه الاثناء، قبل ابن سعود عرش الحجاز 'نزولا عند رغبة الشعب'.
وعكفت لجنة من عصبة الامم لمدة سبع سنوات لحل نزاعات الحدود بين تركيا والعراق، وقررت اخيرا ان ولاية الموصل تتبع العراق وليس تركيا، وكان الجيش العراقي ضعيفا، آنذاك وتولت القوات البريطانية التصدي لتمرد القبائل وللاعتداءات التركية على الحدود.. وكانت مواقف تشرشل متذبذبة وفي عام 1921 أمر قواته بالانسحاب من الموصل. وفي مؤتمر القاهرة أمر بالسماح للأكراد بأن يحددوا مستقبلهم. ونفذ كوكس الأوامر وبعث بالجواب المتوقع الذي لم يكن جوابا على الإطلاق، فقد رفضت السليمانية المشاركة في هذه اللجنة، وكركوك كانت تريد الانضمام إلى الاستقلال الكردي، ووافق فيصل على منح الأكراد حكما إقليميا في الشمال ضمن السيادة العراقية، ووعد الأشوريين الذين طردوا من ديارهم بإعطائهم الأرض وحكما ذاتيا.
وكانت العلاقة تتوثق يوما بعد يوم بين مستشار الملك كينهان كورنواليس وغيرترود، فعرض عليها منصبا في الإدارة العراقية الجديدة هو رئيسة الاستخبارات في وزارة الداخلية، فابتسمت قائلة انها لا تستطيع أن تترك بيريس، كما ان من شأن ذلك أن يضع حدا لوضعها الخاص لدى الملك.
وكان الاثنان يشتركان في ولائهما وإخلاصهما، بل وحبهما للملك. وكثرت اللقاءات بينهما في المناسبات التي يقيمها القصر وفي حفلات نهاية الأسبوع وحفلات أخرى، وكان الملك يحب الألعاب مثل البريدج والسكة الحديدية والسباحة في النهر، وكانت غيرترود تذهب إلى السباحة مع الملك وتتندر على ضعف إجادته للسباحة، كما تفعل. وكانت تلجأ إلى شجر التين كي تغير ملابسها بعيدا عن الأعين. كما كانت تستمتع بأكل السمك مع الملك، على شاطئ النهر.
وفجأة غادرت زوجة كورنواليس إلى لندن، وفاتح كورنواليس غيرترود بأمور خلافاته مع زوجته. وذكرت في مراسلاتها مع شقيقتها انها تشعر بذلك الحب تجاه كورنواليس الذي ينشأ تجاه الأم أو الشقيقة إضافة إلى ذلك 'الحب الآخر'!
وكان كورنواليس يرى في غيرترود انها امرأة لا تضاهى وان هناك الكثير من الاهتمامات المشتركة بينهما، لكنه كان يصغرها بثلاثة عشر عاما، وهو لم يكن يبحث عن أم أو شقيقة. وكانت غيرترود ترى فيه واحدا من أروع الرجال الذين تعرفت عليهم في حياتها، وحين ذهب إلى إنكلترا طلبت من شقيقتها مولي أن تدعوه إلى العشاء.
حقبة جديدة
وقد بدأ الملك يجري الاستعدادات لانتخاب المجلس الدستوري للمصادقة على اتفاقية لوزان ولوضع قانون الانتخابات، في هذه الأثناء استقال النقيب وحل محله في رئاسة الحكومة عبدالمحسن بيك. وتزامن ذلك مع تولي المحافظين برئاسة بونار لو السلطة في بريطانيا الذي تعهد بانسحاب مبكر من العراق. واستدعي كوكس مرة أخرى إلى لندن، لمراجعة الدور البريطاني في العراق، وعاد بملحق جديد للاتفاقية يتضمن انخراطا بريطانيا هناك لمدة أربع سنوات أخرى فقط، وقد أعطى ذلك، فيصل اكثر مما طلب، واصبح السؤال الآن، هل العراق قادر على الدفاع عن نفسه وعلى حكم نفسه بنفسه، خلال اربع سنوات؟
في نهاية ابريل ،1923 غادر كوكس اخيرا العراق، وحين اقام حفل الوداع في حديقة منزله، بدا الامر وكأنه نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة، وهكذا كان ولم يفتقده احد بقدر غيرترود. وكان المندوب السامي الجديد السير هنري دوبس قد وصل في شهر ديسمبر الماضي ليتأقلم مع مهام عمله الجديد. وامسك دوبس بزمام الامور الامنية والشؤون الخارجية، واصبح بالامكان المضي قدما في اجراء الانتخابات، وقد قام الملك بجولات على طول البلاد وعرضها لحث الناس على المشاركة في الاقتراع.
وبينما كانت تخطط لاستقبال شقيقتها مولي وزوجها السير هربرت ريثموند في زيارة رسمية مقررة لهما الى بغداد، اصيبت بالاعياء الشديد، وارسل لها الملك طبيبه الخاص هاري سندرسون (الذي شخص حالتها بأنها التهاب الشعبة الهوائية) ووضعت الليدي دوبس سيارتها تحت تصرف غيرترود بعد ان تحسنت قليلا، كي تصطحب زوارها في جولات في مختلف انحاء بغداد، واصبح الاهل في لندن يخشون على صحتها بعد ان علموا بانباء توعكها.
وبعد وقت قصير، تفاقمت حالتها فقد ارتفعت درجة حرارتها وبدأت تشعر بالارهاق والانهيار الحقيقي، وذلك بالاضافة الى شعورها بالوحدة والاحباط والحزن. وحين عزمت على العودة الى انكلترا، غضب الملك وقال لها: 'لا تتحدثي عن العودة الى بلدك، فهذا هو بلدك، ويمكنك الذهاب لزيارة الأهل والعودة ثانية، وفعلا وصلت الى لندن يوم السابع عشر من يوليو، وتوعكت مرة أخرى فنصحها الطبيبان المعالجان بعدم العودة الى طقس العراق وكذا فعل الاصدقاء.
الشتاء الأخير
في احدى رسائلها، تحدثت عن الشتاء الاخير في العراق فهل كانت تقصد الشتاء الاخير لها في العراق ام شتاءها الاخير؟ ففي نهاية سبتمبر، غادرت غيرترود لندن ولوحت لمجموعة من الاصدقاء، وكتبت رسالة حب لكل من والديها.
وفي فبراير 1926، توفي الاخ غير الشقيق لغيرترود، هيوغو، نتيجة اصابته بالتيفوئيد، فحزنت عليه غيرترود حزنا شديدا، وجعلها غير قادرة على القيام بشيء، فتقاطر الناس لمواساتها والتخفيف من صدمتها، وعاودها المرض، وبالرغم من ذلك اصرت على حضور حفل للملك في مزرعته في خانقين بمناسبة اعياد الميلاد، فاشتد عليها المرض بسبب البرد القارس، فاستدعي لها طبيب من بغداد، فقرر نقلها الى المستشفى في بغداد.
وبدأت غيرترود تفكر في انشاء متحف العراق من اجل الحفاظ على تاريخ هذه البلاد، وبدأت تجمع القطع الاثرية الثمينة ذات الصلة بهذا البلد، من مختلف انحاء العالم، وقررت اقامة هذا المتحف في مكان منفصل عن وزارة الاشغال، وبالفعل، فقد افتتح الملك المتحف الجديد في شهر يونيو.
وفي الخامس والعشرين من يونيو 1926، اقام الملك حفل عشاء احتفالا بتوقيع اتفاقية لوزان، وعبر عن شكره العميق للحكومة البريطانية وممثليها لكل ما فعلوه من اجل العراق، وكانت غيرترود من ابرز حضور هذا الحفل. وفي الحادي عشر من يوليو، وبعد عودتها من رحلة السباحة الاعتيادية في المساء، شعرت بالاعياء من شدة الحرارة، وذهبت الى النوم، وطلبت من الخادمة ان توقظها في السادسة صباحا وألا يتم ازعاجها قبل ذلك، وخلدت غيرترود الى النوم، والى جانبها علبة الادوية، ولم يعرف على وجه اليقين ما اذا كانت قد اقدمت على الانتحار او ما اذا كانت زجاجة الدواء فارغة ام ملأى، وكل ما هو معروف انها ارسلت في اليوم السابق ملاحظة الى كين كورنواليس ما اذا كان بوسعه ان يعتني بكلبها، 'اذا حدث لي مكروه'!.
وكانت غيرترود قد ابلغت دومنول قبل عدة سنوات انها لم تعد تخشى الموت، لقد خلدت الى النوم ولكنها لم تستيقظ هذه المرة ابدا، واشار الطبيب الذي حرر شهادة الوفاة (الدكتور دنلوب) الى أنها توفيت بسبب تناول حبوب مهدئة، وان الوفاة حدثت في الساعات الاولى من الثاني عشر من يوليو، اي قبل يومين فقط من عيد ميلادها الثامن والخمسين.
وكان الملك فيصل خارج العراق وقت وفاة غيرترود، وكان ينوب عنه الامير علي، فأمر بتنظيم جنازة عسكرية لها، ولف جثمانها بالعلم العراقي ونقل في سيارة اسعاف ودفنت في المقبرة البريطانية، وشارك في القاء نظرة الوداع الاخيرة عليها اركان العائلة الملكية وممثلو الحكومة البريطانية واخرون.