كيف عرف العراق الطب العدلي؟..

كيف عرف العراق الطب العدلي؟..

د.حيدر حميد رشيد
تعود فكرة تأسيس الطبابة العدلية في العراق إلى مدير الشرطة العام صبيح نجيب الذي أصدر في عام 1931 تعميماً إلى أطباء مصلحة الصحة، مفاده عزم مديرية الشرطة العامة إيفاد عددٍ من الأطباء إلى أوربا للتخصص في مجال الطبابة العدلية، غير أن دعوته تلك لم تجد استجابة تذكر من الأطباء، فتم عرض الأمر على الدكتور أحمد عزت القيسي الذي كان حينها يدرس الطب في فرنسا،

فطلبت إليه المديرية المذكورة التخصص في ميدان الطب العدلي على نفقتها فاستجاب لطلبها، وبعد أن أنهى دراسته عاد إلى القطر، وعين بتاريخ 22 أيلول 1932 طبيباً عدلياً على ملاك مديرية الشرطة العامة، وانتدب للعمل في المستشفى الملكي رئيساً لشعبة الطب العدلي فيها.
كانت أعمال الطبابة العدلية قبل تأسيس معهد الطب العدلي، وقبل تأسيس شعبة الطبابة العدلية، تناط إلى أطباء مديرية الصحة العامة إلى جانب وظائفهم الرسمية، وكان يجري عادة تشريح الجثث في بنايات غير مستوفية للشروط الصحية والفنية، حتى شيدت بناية خاصة للعيادة الخارجية في المستشفى الملكي عام 1928، وكانت اول بناية حديثة أضيفت إلى الأبنية القديمة، وقد خصص فيها قسم صغير للطب العدلي مكون من غرفتين صغيرتين وصالة تشريح غير مزودة بجهاز تبريد.

وهكذا بذرت أول نواة لهذا الفرع المهم من فروع الطب المختلفة ولم تنقطع بعد ذلك مطالبات الدكتور احمد عزت القيسي الجهات المعنية بالأمر بتأسيس معهد خاص للطب العدلي ليكون مرجعاً لمختلف الأطباء القائمين بأمور الطبابة العدلية في العراق، ويبدو ان مطالباته تلك قد وجدت تجاوباً محدوداً من لدن القائمين بأمور الصحة في ذلك الوقت، فوافقت مديرية لصحة العامة على إجراء توسيع بناية شعبة الطبابة العدلية، وذلك بإضافة اربع غرف جديدة إليها، كما قررت بتاريخ 11 آب 1935 تعين الدكتور وصفي محمد علي مساعداً له.
وفتح في عام 1938 أول مختبر طبي عدلي داخل شعبة الطبابة العدلية، وبتاريخ12 حزيران 1939 انفصلت شعبة الطبابة العدلية عن مديرية الشرطة العامة وألحقت بمديرية الصحة العامة بعد ارتباط الأخيرة بوزارة الشؤون الاجتماعية المستحدثة فأطلق عليها لأول مرة أسم " معهد الطب العدلي ".
وفي عام 1941 انتقل المعهد إلى بنايته الجديدة في منطقة باب المعظم (يتوسط حالياً وزارة الصحة وكلية الطب) وقد شيد المبنى على وفق طراز فني حديث، زودت منشأته بأجهزة التهوية والتبريد، وبكل ما يحتاجه المعهد من أدوات ولوازم ومستلزمات عمل الطبابة العدلية.
تكونت بناية المعهد من طبقتين مقّسمتين إلى شعب تكاد تكون منفصلة بعضها عن بعض حتى بأبوابها الخارجية، ولكل شعبة موظفون ومستخدمون يختلف عددهم بحسب الواجبات المناطة بهم، فضلاً عن الغرف الأخرى المخصصة للقائمين عن إدارته من ملاحظ ومحاسب وعدد من الكتبة المختصين بطبع تقارير المعهد أو استنساخها، ثم أصدارها وحفظها وفق الأصول المتبعة، وقد تألفت الطبقة الاولى من المعهد من الأقسام الآتية:-
أ- قسم التشريح: أختص هذا القسم بالإصابات المرضية والعوارض من الجروح القاطعة والواخزة، وغير ذلك من الإصابات. وكان القسم يتكون من صالة واسعة أحتوت على جهاز مُبرد للهواء وأجهزة أخرى ساحبة للهواء، ونصبت داخل الصالة ثلاث مناضد للتشريح ثبت بجوارها أنابيب خاصة للمياه الساخنة والباردة، واحتوت على مدرج واسع لجلوس طلبة الكلية الطبية لتقلي الدروس العملية للتدريب على كيفية التشريح ومشاهدة المظاهر التشريحية ورؤية مختلف الصور بعد عرضها بواسطة جهاز الفانوس السحري.
اتصلت بصالة التشريح غرفة أخرى نصبت فيها منضدة خزفية لوضع الجثث عليها، وللقسم باب خارجية واسعة استخدمت لإدخال السيارات لتسهيل عملية تسليم الجثث، وعلى مقربة من باب التشريح خصصت غرفة لمبيت خفر المعهد، وقد زودت الغرفة بما يقتضي من ضروريات السكن، فضلاً عن جهاز هاتف يسهل عملية الاتصال عند الحاجة، واتصلت بصالة التشريح بالجهة المعاكسة لغرفة الموتى غرفة مبردة، شيدت عام 1947 لحفظ الجثث في المعهد، وهي تتّسع لثماني جثث في آن واحد بغية حفظها إن كانت مجهولة الهوية، واستخدمت الغرفة لحفظ الجثث لعدة ايام بناءً على طلب السلطات القضائية.
ب- قسم المختبر: تألف هذا القسم من ثلاث غرف واسعة بداخلها عدد كاف من الخزانات الخشبية لحفظ العينات والملابس والأدوات التي ترسلها السلطات التحقيقية لحين اتمام فحصها. وزود المختبر بعدد من المجاهر العادية ومجهر للمقارنة، وأخر للطيف الشمسي المعاكس، وجهاز للأشعة ما وراء البنفسجية وأدوات أخرى من شأنها أن تسهّل إجراء تجارب تشخيص البقع الدموية والمنوية وتعيين مجموعاتها، وفحص الشعر والبقايا النسيجية).
ج- قسم التصوير والأشعة: أنشئ هذا القسم عام 1938 وجهز بما يلزم من مواد وأدوات للقيام بمهمته. كان القسم يقوم بأخذ الصور الشمسية للجثث وما عليها من أضرار مختلفة، والمصابين في الحوادث الجنائية، وما في ملابسهم التي كانوا يرتدونها خلال الحادث من أضرار أو بقع دموية، ويقوم بمساعدة المستشفى التعليمي في الوقت نفسه بتصوير الوقائع النادرة لخلو المستشفى هذا آنذاك من شعبة خاصة بالتصوير، وكان المعهد يلبي طلبات المستشفى المذكور بدافع خدمة العلم وروح التعاون وشيد للقسم جناح خاص به في العام 1948.
اضطلع القسم أيضاً بوظيفة أخذ الصور الشعاعية لبعض المتهمين والمجني عليهم لإظهار المراكز التعظيمية لبعض عظامهم بغية تقدير أعمارهم، وأسدت هذه الشعبة خدمة كبيرة للعدالة من خلال مساعدة الحكام والمحققين على أداء مهامهم على الوجه الأكمل، إذ أن الطبيب كان يرفق مع تقريره صورة شمسية للقتيل أو الشخص المصاب وما عليه من إصابات.
د- قسم قضايا الشرطة اليومية: تولى هذا القسم أمر تسلم مختلف الرزم البريدية الخاصة بالوقائع الطبية العدلية من إصابات وجرائم التعدي الأخلاقية، وللقسم غرفة خاصة للطبيب الفاحص وأخرى للفحص الطبي مجهزة بما يستلزم من أدوات ومواد طبية.
اما الطبقة الثانية فقد أحتوت على الوحدات الآتية:-
أ- المتحف: وكان عبارة عن قاعة واسعة نصبت فيها خزانات خشبية خاصة صفت بجوار جدرانها، بداخلها قنانٍ زجاجية وأخرى مصنوعة من مادة غير قابلة للكسر لحفظ النماذج التشريحية الممثلة لمختلف الجروح الجسمية، وفي المتحف مجموعة كبيرة من، الصور الشمسية، تمثل مختلف الوقائع الطبية العدلية النادرة وزجاجات فوتوغرافية صفت على خزانة خاصة بداخلها مصابيح كهربائية كافية بحيث تتيح رؤية ما في الزجاجات الشمسية من صور لمختلف الوقائع المهمة. وضم المتحف المجموعات الآتية:
1- الآلات النارية المستعملة قديماً وحديثاً والقاطعة والراضة، كالفؤوس والعصي والخناجر والسكاكين.
2- عظام مختلفة مصابة بآلات نارية أو رضية أو قاطعة حديثة كانت أم قديمة، ونماذج عظمية لايضاح تطور المراكز التعظيمية التي يستند عليها تقدير العمر.
3- ملابس متنوعة بها تمزقات بمقذوفات نارية أو بآلات قاطعة أو حروق كهربائية.
4- عينات مختلفة من المواد السمية المستعملة في العراق وطرائق تعاطيها.
5- عينات مختلفة لوقائع تجريبية كانت قد أُجريت لغرض البحث والتحري.
6- صور شمسية لوقائع طبية نادرة ولتجارب قام بها المعهد.
7- صور شعاعية تبين درجة نمو وتطور العظام.
8- قطاعات تشريحية بها أنواع الإصابات المختلفة.
9- قطاعات تشريحية تمثل تمزقات مختلفة في الأحشاء الجسمية دون أن يرافق ذلك أضرار خارجية.
كان الطبيب العدلي يباشر عمله بمعالجة القضايا العدلية على أثر تسلمه طلباً بذلك من المراجع المختصة، وكان عليه قبل ان يبدأ بالفحص الطبي ان يكون ملماً بظروف القضية وملابساتها إلماماً تاماً، وقد اشتملت الفحوص الطبية العدلية على الحالات التالية:
1- التشريح الطبي العدلي.
2- وقائع الشرطة اليومية الاعتيادية ذات الاصابات الخفيفة.
3- وقائع الشرطة اليومية الخطرة.
4- وقائع التعديات الأخلاقية.
5- الفحوص المختبرية.
6- تقدير العمر.
لقد زار المعهد الكثير من الوفود الطبية واساتذة الطب العدلي من البلدان العربية والأجنبية، وقد اشادوا بحسن تنظيم المعهد وبمستواه العلمي الرفيع، ومن بين هؤلاء الدكتور سدني سمث عميد جامعة أدنبرة واستاذ الطب العدلي فيها ورئيس الطبابة الشرعية في مصر سابقاً، سجل أثر زيارته في شهر نيسان 1956 في سجل المعهد ما يلي: " شاهدت كثيراً من أعمال هذا المعهد واكتسبت كثيراً من المعلومات المتعلقة بكيفية قيامه بالتعليم والبحث والأعمال الطبية للقطر العراقي وتأثرت جداً بالمستوى العالي بأعماله وما لدى موظفيه من أحدث المعلومات الطبية ".
وفي الواقع أن " معهد الطب العدلي " قد عاني منذ تأسيسه ضغطاً شديداً لكثرة الطلبات التي تحيلها إليه الهيئات المختصة والتحقيقية سواء أكانت عسكرية أم مدنية، وبالرغم من أن هذه القضايا قد أخذت بالازدياد بصورة مطردة عاماً بعد عام لم يزَددْ، ملاك المعهد من فنيين وإداريين بما يناسب ازدياد القضايا المحالة إليه، ولم يتمكن المعهد من تأسيس فروع طبية عدلية في الألوية، ألا في أواخر عام 1951، إذ جرى تدريب بعض الأطباء ممن وقع الاختيار عليهم من الألوية في المعهد تحت إشراف الدكتور أحمد عزت القيسي مدير المعهد ثم عادوا إليها للقيام بمهمة الإشراف الفني على شؤون الطبابة العدلية في ألويتهم، وهكذا أنشأت خمسة فروع للمعهد وزعت على عددٍ من الألوية.
وقد اعترضت عمل سير الفروع في الألوية جملة من المعوقات أصبحت سمة ملازمة لها أثرت سلباً في أداء عملها، واعاقت الغاية المرجوة منها وهي تلبية الفحوص الطبية العدلية التي ترد من السلطات العدلية المختصة، واخبار السلطات المذكورة عن الوقائع المثبتة فيها التي تردها دون علم هذه السلطات. وقد دون مدير فرع الطبابة العدلية في لواء البصرة الدكتور علي كجك تلك المعوقات في تقريره الذي رفعه إلى مديرية الطب العدلي ببغداد، وكالآتي:
1- عدم توافر بناية خاصة لأعمال الطبابة العدلية في لواء البصرة، إذ كان الطبيب العدلي يمارس عمله في مستشفى مدينة البصرة الرئيس التي كانت تفتقر للمستلزمات الضرورية لأداء عمل الطبيب العدلي من أدوات ولوازم، فضلاً عن النقص الحاصل في الملاكات الفنية والإدارية المدربة على اداء العمل في هذا الميدان، وقد أدى ذلك ولاسيما عند غياب الطبيب العدلي في مدة الأجازات الاعتيادية والمرضية إلى حدوث أخطاء جسيمة في تقدير أهمية بعض الإصابات في الكثير من القضايا ذات العلاقة بالطبابة العدلية..
2- عدم وجود ارتباط وثيق بين الفرع ومديرية الطب العدلي، فطبيعة العمل في هذا الميدان تحتم الرجوع في احيان كثيرة إلى المعهد بقصد الاستئناس برايه في المسائل ذات الصلة بعمل الطبابة العدلية، واجراء الفحوص التي كان يتعذر أجراؤها في مدينة البصرة.
إلى جانب " معهد الطب العدلي " فإن العديد من المعاهد الصحية الأخرى كانت قد شهدت هي الأخرى تطوراً لأسباب فرضها التطور الذي حصل في القطاع الصحي، واستحدثت معاهد صحية منها " معهد الأمراض المتوطنة".

رائدا الطب العدلي
في العراق

ـــ الدكتور أحمد عزت القيسي، رائد الطب العدلي في العراق، ولد ببغداد في 20 حزيران 1906، وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية والأعدادية فيها، التحق بكلية الطب بدمشق وقبيل انتهاء دراسته فيها التحق بكلية الطب في مونبليه بفرنسا، ثم التحق بقسم الدراسات العليا بباريس لدراسة الطب العدلي، فحصل على دبلوم الطب العدلي والأمراض العقلية ثم تدرب بعد ذلك لمدة ثلاثة أشهر في معهد الطب العدلي بباريس، وبعد عودته للقطر انيطت به أعمال الطبابة العدلية في المستشفى الملكي وطبابة الموظفين وطبابة دار الشفاء ومستشفى الأمراض العقلية، وفي عام 1933 عهد إليه تدريس مادة الطب العدلي في الكلية الطبية، اوفد في عام 1936 إلى بريطانيا، إذ عمل تحت إشراف أستاذ الطب العدلي في جامعة أدنبره سدني سميث (Sydny Smith)، شكل مع زميله الدكتور وصفي محمد علي ثنائياً فعملا بلا كلل في بناء وتطوير الطبابة العدلية في العراق، تولى إدارة المعهد منذ تأسيسه وحتى نهاية العهد الملكي، ثم عين بتاريخ 4 تشرين الأول 1958 عميداً لكلية الطب، وفي بداية عام 1963. أحيل على التقاعد، وفي 16 تشرين الأول 1963 أعيد تعينه طبيباً اختصاصياً في معهد الطب العدلي ببغداد ومديراً له. توفي في أول يوم من أيام عيد الأضحى المبارك المصادف 14 كانون الثاني 1973 وهو اليوم نفسه الذي توفي فيه والده ووالدته له أثار علمية عديدة، نشر عدة بحوث حول تنظيم أساليب الطبابة العدلية وتعليم الطب العدلي، ودراسات عن بعض الوقائع الطبية العدلية التي ألقيت في المؤتمرات العالمية للطب العدلي، وله مؤلفات عديدة.
ـــ الدكتور وصفي محمد علي: من الرواد الطب العدلي الأُوَل في العراق، ولد ببغداد عام 1909، ألتحق بكلية الإمام الأعظم بعد اتمامه الدراسة الابتدائية، درس الطب بعد ذلك وتخرج من الكلية الطبية عام 1935 وعين مساعداً للدكتور أحمد عزت القيسي، ألتحق بكلية الطب بجامعة القاهرة عام 1944 وحصل منها على دبلوم الطب العدلي وعلم السموم، مارس الطبابة العدلية مع السير سدني سمث أستاذ الطب العدلي في جامعة أدنيره للمدة 1950 – 1951، وقام بتدريس الجانب العملي من مادة الطب العدلي في كلية طب أدنبره، كما مارس الطبابة العدلية مع الدكتور كيت سمبسن (K. Sampsun) أستاذ الطب العدلي فيها، ثم انتقل بعد ذلك إلى جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1955 وعمل بمعية الدكتور فورد (Foard)، ثم مارس الطبابة العدلية في كل من الدنمارك وفرنسا، وهو عضو الجمعية الطبية العدلية البريطانية منذ عام 1955 وعضو الأكاديمية الأمريكية للعلوم العدلية منذ عام 1957، وكان عضواً في جمعيات علمية أخرى، تولى رئاسة تحرير مجلة نقابة ذوي المهن الطبية ما بين عامي 1953 و 1954، ونقيباً لذوي المهن الطبية للدورة الانتخابية الثالثة 1958 – 1960، عين مديراً للطب العدلي منذ الأول من تشرين الأول 1958 حتى يوم 4 أيلول 1982. ألف ونشر كتباً عديدة ونشر بحوثاً بلغ مجموعها (64) بحثاً باللغة العربية والإنكليزية.

عن رسالة (الأوضاع الصحية في العراق
1945 - 1958)