بريد بغداد....  بين اشتعالات  الغربة ولوعة الفقد

بريد بغداد.... بين اشتعالات الغربة ولوعة الفقد

عبد الأمير خليل مراد
بريد بغداد مجموعة من الدراسات النقدية التي كتبها الناقد الدكتور حاتم الصكر في مراحل متعددة، وهي دراسات غير محددة بجيل، أو مقصورة على أسماء معدودة في الشعر العراقي، وإنما هي دراسات اشتملت مساحة واسعة من مفردات هذا المشهد الذي يزخر بالأسماء الشعرية من مختلف الأجيال والمدارس.

إن موضوعات هذا الكتاب (الصادر حديثا عن دار الثقافة والإعلام في الشارقة) توضح – بتنوعها – قدرة الناقد الصكر على مراقبة المشهد الثقافي، وملاحقة إصداراته الجديدة، ورصد تفاعلاته، ومعاينة تحولاته الإبداعية، على الرغم من استقراره خارج البلد منذ حقبة التسعينات.
لماذا بريد بغداد، وليس بريد القارات كما جاء في عنونة المؤلف، ولاسيما انه بريد مختلف المصادر والأمكنة، بريد يصل إليه من آسيا وأوربا وأستراليا وعمان وأوطان شتى ؛ انه بريد المنافي الموجعة والتي عاش مخاضاتها أدباء العراق، غير أنَّ هذا البريد كما هو مألوف يختلف عما يمتد إليه يقين الدكتور الصكر من طرود ورسائل ؛ انه بريد بغداد التي لم يستطع أن يهرِّب اسمها في أخاديد ذاكرته، أو يسمح للغربة أن تهتك عذرية حروفها في ضميره ؛ فالصكر، وهو يعيش أوجاع الغربة، لا يريد أن تكون هذه الغربة من محفزات القطيعة القاسية والتي اطمأنَّ إليها الكثير من نقادنا، وهم يتلمسون دروبهم الجديدة بعيدا عن الوطن.
ففي مقدمة الكتاب يشير الدكتور الصكر بعد اختناقه بغبار الغربة الممض الى توقه وحنينه الى بغداد وبريدها... بريد تلك المدينة ذات الحروف الخمسة بعد أن استعاد هذا البريد حياته، وهو يمر بعواصم عدة، ويتلكأ متعثرا لكنه في النهاية يصل، إعلانا عن وجود الكلمة التي لم يطفيء وهجها الاحتلال والإرهاب.
فالكاتب، وهو يتناول هذه النصوص المتباينة في نضجها أو قصورها لم يغفل أفق وتاريخ الحداثة الشعرية في العراق، ودوره المبكّر في ريادتها منذ السياب، فقد استوت له هذه القراءة بين اشتعالات الغربة ولوعة الفقد....غربة قسرية، ورحيل نجله مغدورا إلى معارج الأبدية، محاولا ترميم عذاباته وانكساراته، وكأنّه في ممارسة تعويضية واستبدالية، ومن هنا، نرى الدكتور الصكر يبحث عن ذاته في هذه النصوص تلك الذات التي ارتهنها الثكل وتقاذفتها المحن. وكيف يمكنه – تحت وطأة هذه الفاجعة – أن يقهر الحزن بالكتابة؟
فالصكر استطاع أن يستغور هذه التجارب الشعرية بذائقة فنية مرهفة، ووعي نقدي متقدم، كما حفر من قبل (طرقات الطفولة)، وهي تتسرب من بين يديه الى تخوم البحر المضطربة ؛ حفر تلك الطرقات بأزاميل من وجع، كأنك تحسّ لهيبها يتفلّت من أصابعك الندية كما يتفلت الجمر من موقد النار..
ففي قراءته لملف صحيفة الأديب الأسبوعية بعنوان (قصائد في أفق الحداثة)، يقرر المؤلف دخول عالم هذه القصائد من خلال استذكاره الخريف الثالث لغياب نجله في صندوق سيارة احد الوحوش (ذي الدشداشة القصيرة)، حيث تتحدث قصيدة الشاعرة هنادي خليل عما يشبه هذه الواقعة... واقعة الغياب والقتل بلا موعد، ويرى الناقد أن القصائد التسع... تتوزع بين التفعيلة والنثر، على الرغم من انحياز أكثر شعراء العدد الى النثرية مع وجود استثناءات قليلة في اعتماد قصيدة التفعيلة، مبيّنا أن قراءته لهذه القصائد هي مناسبة نادرة لاكتشاف جيل شعري نشأ في أتون التحولات، وكأنَّ قدره أن يشهد خراب كل شيء ويبدأ من النهاية.
كما تناول المؤلف تجربة (الكتابة الشعرية النسوية) في قراءته لنماذج ثلاث شاعرات عراقيات أقمن في الغربة، وهي سهام جبار وداليا رياض وفليحة حسن، فمجموعة سهام جبار (قديما مثل ذكرى في الريح) تعبِّر فيها عن اهتمامها بالحكاية وتغيير عناصرها السردية، واختزال رموزها في قضية المرأة، حيث تحضر الرموز الأسطورية في شعرها من خلال الطوفان وحواء وميدوزا، وهي شاعرة تنتمي الى جيل الثمانينات.
أما داليا رياض، فان مجموعتها الشعرية (البرتقالة والقمر)، وهو عنوان كما يرى الصكر لا يثير أي إحساس بالانتماء الى الحداثة كخطاب متكامل العناصر والابنية النصية، ومما يؤخذ على خطاب هذه الشاعرة المنتمي الى قصيدة النثر كليا، هو تساهلها في بناء الجملة الشعرية وشيوع أخطاء اللغة والتراكيب، وغالبا ما تكتفي داليا باللغة المباشرة من دون وصف أو شرح أو تأكيد.
كما يقف المؤلف عند الشاعرة فليحة حسن، ومجموعتها الشعرية (قصائد أمي)، مبينا امتلاكها وعيا مغايرا للنسوية المتبدية في شعر زميلاتها، حيث تختلط في قصائدها الإشكال الشعرية: فصيحة وشعبية، وكذلك موزونة عموديا وتفعيلة وقصائد نثر، وكثيرا ما كان فيض العاطفة يكتسح حدود الأشكال عند الشاعرة مما يدخل قصائدها في مناطق مختلفة الإيقاعات وزوايا النظر والرؤى.
كما اشتمل الكتاب على دراسة عن الشعر الكردي بعنوان (أرواح الشعراء في عراء القصيدة)، توقف فيها المؤلف على أهمية الشعر الكردي في المشهد الثقافي العراقي، وحضور الشعراء الكرد في الصحافة والدوريات العراقية، مبينا حاجتنا الى ترجمات جديدة تقوم بنقل هذا الشعر الى العربية، حيث يتعزز ذلك بكثرة اللقاءات والمؤتمرات الثقافية و الأدبية والتعرف على اتجاهات الشعر الكردي وأسلوبياته وأصواته الفاعلة في المشهد الشعري الحديث.
كما تمنى المؤلف على المؤسسات الرسمية المزيد من الرعاية والاهتمام بهذا الشعر، وأعرب عن سعادته بصدور كتاب (انطولوجيا الشعر الكردي المعاصر) –الذي أعده الشاعر، والمترجم عبد الله البرزنجي- مؤخرا في بغداد، إذ يأتي تمثيلا رمزيا للأدب الكردي وروحه الضاجة بالحياة، مبينا أن الشعر الكردي هو شعر الإنسان المتسائل عن حافاته وعن مصيره وحريته، وهو مليء بالأسماء الشعرية المهمة كعبد الله كوران وشيركوبيكس ولطيف هلمت وفرهاد شانكلي وأنور قادر ورفيق صابر وحسين عارف وجلال زنكبادي وصلاح شوان وكزال احمد وغيرهم.
والمدهش أن هذا الكتاب لا ينتهي عند شعراء المنافي وإصداراتهم الجديدة، بل يتعدى ذلك الى استغراق العديد من التجارب الشعرية في الداخل، ولاسيما أن اشتغالا ته كانت على أدب الداخل والخارج على حد سواء، ولم تكن بغداد على غلافه إلا محمولا رمزيا لبغداد القارة في وجدان الكاتب، إذ لم تستثن هذه الكشوفات النقدية شعراء الداخل كطالب عبد العزيز وديوانه (ألم أضيق من بحر) ونصير فليح وديوانه (إشارات مقترحة وقصائد أخرى) وعباس مزهر السلامي وديوانه (هذيانات عاقلة) وجواد الحطاب وديوانه (إكليل موسيقى على جثة بيانو) و حسن حميد جعفر وديوانه (ارتباك الجثث) وحسين عبد اللطيف وديوانه (نار الذكرى).