شيء عن الرصافي في القدس سنة 1920

شيء عن الرصافي في القدس سنة 1920

رفعة عبد الرزاق محمد
كتب الكثير عن شاعر العرب الكبير معروف الرصافي، وتناول الكتاب جوانب مختلفة من سيرته وشعره، وعلى الرغم من كثرتها وتنوعها فقد بقيت حلقات مهمة من حياة شاعرنا، بعيدة عن اقلام الكتاب وتحقيقاتهم لاسباب كثيرة، ولعل لاستاذنا الفاضل عبدالحميد الرشودي في كتابه الاخير عن الرصافي، العذر الواضح في عدم ولوجه تفاصيل سيرة الشاعر وآرائه لانه اراد ان يقدم صورة عامة للمترجم له مالا يسع الاديب جهله، كما ان بعض كتابنا الافاضل،

ابتعد – بقصد- عن الحديث حول موضوعات معينة في حياة الرصافي درءا للتقولات (كذا)، مع ان الرصافي عاش ومات فوق الشبهات وبعيدا عن كل مايشين وطنيته وحبه لوطنه وامته، فضلا عن ان حياته صارت ملكا للتاريخ ومجردة من النوازع الشخصية. ومن هذه الموضوعات حياته في فلسطين وقصيدته الذائعة التي القاها في القدس سنة 1920، وما اثير حولها من شبهات، ومقالنا محاولة اولية، لبيان (حقائق) و(طرائف) من حياة الرصافي في القدس، وكشف بعض الصفحات المطوية منها. انتهت الحرب الكونية الاولى، وانهار الحكم العثماني في بلاد الشام والعراق، وتأسست دولة عربية في سورية ترأسها احد انجال الشريف حسين هو الامير فيصل وفي هذا الوقت كان معروف الرصافي في اسطنبول، فسر سرورا كبيرا لقيام الدولة العربية وشعر بأن منصبا كبيرا في هذه الدولة العربية ينتظره، لانه كان شاعر العرب وقصائده في العرب وامجادهم سارت بين الناس مسار الامثال، لكنه لم يفز بما كان يأمله، ولم يظفر بشيء يسير. لقد لقي من الحكومة العربية في الشام اعراضا بسبب موقفه المعارض لثورة الشريف حسين سنة 1916 ونظمه قصيدته الميمية (الديوان/ 3/ 59). واكاد اعتقد بأن حاشية الملك هي التي لعبت دورا كبيرا في عدم الاهتمام بالشاعر العربي الكبير، وربما اسروا للملك مايذكره بأن هذا الشاعر كان قد تعرض لابيه في مناسبات سابقة، واصيب الرصافي بخيبة امل كبيرة، وأحس بالضيق واليأس، ولما كان شاعرنا من الذين فطروا على عدم الاستجداء والتراجع عن مواقفه السياسية، فقد قرر العودة الى وطنه العراق. وفي غمرة استعداده الى العراق، تصله دعوة كريمة لم تكن في الحسبان، فتدارك امره اصدقاؤه في فلسطين، اسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وعادل جبر وكانوا يومئذ يتولون امر التعليم في فلسطين فترامت الى اسماعهم اخبار صديقهم الرصافي فدعوه للتدريس في دار المعلمين بالقدس، فوافق على دعوتهم ووصل القدس يوم (3 آذار 1920) واصاب في وظيفته الجديدة بعض الراحة والاستقرار، حيث خصص له راتب قدره ثلاثون جنيها، وسكن لائق في احد اجنحة دار المعلمين، وقد ذكر هذه الحقيقة رفائيل بطي (ت 1956) نقلا عن اسعاف النشاشيبي (مجلة القلم الجديد العمانية، ايار 1953). عاش الرصافي في القدس في دعة ورخاء، محاطا بعناية اهلها الكرام وهو القائل:
اصبحت بالقدس في امن وفي دعة
وكدت من قبلها في الشام اعتفد
(الاعتفاد: ان يغلق الرجل بابه عليه فلا يسأل احدا حتى يموت جوعا وكانوا يفعلون ذلك ايام الجدب). ومن مظاهر هذا الرخاء، قيام طلبة مدرسة الشبان في القدس بتكريم الرصافي في حفل ادبي رقيق (الاتجاهات الفنية في الشعر الفلسطيني، كامل سوافيري ص 27). وقد اقتنت نظارة المعارف في فلسطين الف نسخة من ديوان الرصافي الموسوم (الاناشيد المدرسية) الذي نظمه في القدس على اقتراح الدكتور خليل طوطح، وكان يستشير بعض الموسيقيين قبل ان يبدي له موضوع النشيد لينسجم اللفظ والنغم، كما افادنا استاذنا عبدالحميد الرشودي (ذكرى الرصافي، بغداد 1950، ص 84) وقد بقي الرصافي يذكر باجلال واعجاب كبيرين حفاوة الفلسطينيين: قد كان في الشام للايام مذ زمن ذنب محته الليالي في فلسطين اذ كان فيها النشاشيبي يسعفني وكنت فيها خليلا للسكاكيني وكان فيها ابن جبر لايقصر في جبر انكسار غريب الدار محزون واوحت فلسطين للرصافي بعدد من القصائد، هي: في سبيل الوطن، في ايلياء، دار الايتام، الحمد للمعلم، تحية سركيس.