شيءٌ عن البدايات الاولى لتنظيم الضباط الاحرار في العراق

شيءٌ عن البدايات الاولى لتنظيم الضباط الاحرار في العراق

اسراء خزعل ظاهر
اختلفت الآراء بشأن تحديد المدة الزمنية لتأسيس حركة الضباط الأحرار بشكل دقيق، إذ أنها في بداياتها كانت على شكل مشاورات فردية وغير منظمة بين الضباط القوميين والوطنيين الذين يرتبطون برباط الصداقة والعلاقات الشخصية، ولم تكن هذه العلاقات مبنية فيما بينهم على الوحدة الفكرية والخطط المنظمة والعمل الثوري.

فتنظيم الضباط الأحرار لا يزال يفتقر إلى الوثائق الرسمية التي تحدد بداية هذا التنظيم، إذ لا يمكن أن يقال عنه بأنه " تنظيم يضم مجموعة من الضباط الذين جمعتهم فكرة واحدة هي إنهاء النظام الملكي وإقامة الجمهورية فقد دفعت إجراءات السلطة القاسية آنذاك ضد العناصر القومية والوطنية في الجيش العراقي بعض الضباط الشباب إلى التكتل والعمل على مقاومة النظام الملكي.

 فقد أشارت المصادر إلى ظهور كتلة من الضباط أطلقت على نفسها اسم كتلة " الضباط القوميين " سنة 1927 تكونت من مجموعـة من الضباط وكان على رأس أولئك الضباط القوميين العقيدان صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد، وهما من ضباط ثورة الشريف حسين في الحجاز وقيل أنهما وضعا أول ميثاق عمل قومي في الجيش منذ عام 1927. وفي سنة 1929 تم الاتصال بالمحامي الشاب محمد يونـس السبعاوي واتصل هؤلاء بالزعيم المعارض محمد جعفر أبو التمن ووضعت منذ ذلك الحين نواة الكتلة العسكرية القومية وكان من أهم ما تهدف إليه هذه الكتلة هو تحقيق الفكرة القومية الرامية إلى تحرير البلاد العربية من النفوذ الأجنبي وتوحيدها ورفع مستوى الشعب الفكري إلا أن هؤلاء القادة اعدموا بعد فشل حركة مايس عام 1941 التحررية.
كما انشأ فئة من الضباط عام 1942 منظمة سرية في البصرة تهدف إلى تخليص البلاد من الحكم الملكي، وإزالة القواعد البريطانية، غير أن السلطات تمكنت من القضاء عليها وإحالة أعضائها إلى المحاكم ونقلهم من وحداتهم وعرف من أعضائها عبد السلام عارف وسليم الفخري. كما وقف الجيش إلى جانب الحركة الوطنية وظهر ذلك واضحا في المظاهرات التي شهدتها بغداد وكركوك عام 1946.
إن هذا لا يعني أن الجيش كان قوة وطنية خالصة فقد كانت فيه عناصر ارتضت الارتباط بالبريطانيين من جهة، وكان على الجيش أن يوازن أيضا بين شعوره الوطني وعواطفه وبين كونه مؤسسة رسمية لنظام يجب أن يدافع عنه من جهة أخرى إذ كان في العراق حكومة ملكية مرتبطة بالنفوذ البريطاني وترعى مصالحه واقتبست من البريطانيين المظاهر فقط وكان العراقيون يرددون بيت الشعر الذي أطلقه الرصافي في مجالسهم:
ملك ودستور ومجلس امة كل عن المعنى الصحيح محرف
ولم تكن هذه الدولة دستورية إلا في مظهرها فقط مما جعل تغيير النظام أمرا محتما. ولم تلبث تلك الأحداث التي طغت على الساحة العراقية حتى جاءت وزارة صالح جبر عام 1947، والتي عقدت عام 1948 معاهدة بورتسموث سيئة الصيت التي لم يكد يسمع بها الشعب حتى قام بانتفاضته المعروفة"وثبة كانون الثاني" عام 1948، منذ ذلك الوقت استطاع الشعب أن يعبر عن رأيه ويسمع صوته لحكامه الجائرين.
تجددت مساعي الضباط لتشكيل تنظيم ثوري جديد في أعقاب الحرب العربية - الإسرائيلية عام حينما تأكد للضباط أن ما لحق بالجيوش العربية من فشل في معركة التحرير لم يكن بتقصير منها وإنما كان نتيجة لتقصير أنظمتها السياسية السائرة في فلك الاستعمار وتوجيهاته، والتي جعلت من " الحرب المقدسة " مجرد " تمثيلية هزلية " أراد الحاكمون بها نفض أيديهم من تبعة الاتهام وغضب الرأي العام العربي، وقد أعقبت مأساة فلسطين حوادث خطيرة في العراق الدول العربية منها الانقلابات السورية المتعددة عام 1949 اذ` شهدت سوريا عام 1949 ثلاثة انقلابات عسكرية متتالية الأول في الثلاثين من آذار عام 1949 بقيادة الزعيم حسني الزعيم احد كبار ضباط الجيش السوري والانقلاب الثاني في الرابع عشر من آب من العام نفسه بقيادة احد زعماء الجيش أيضا وهو اللواء سامي الحناوي أما الانقلاب الثالث فكان في التاسع عشر من كانون الأول عام 1949 بقيادة العقيد أديب الشيشكلي. ، واغتيال الملك عبد الله من قبل بعض الشباب الفلسطينيين عام1951، وقيام الثورة في مصر عام1952 التي أعادت الثقة للنفوس وقضت على الخوف والتردد لدى الضباط الشبابإذ كان لنجاح محاولة الضباط هناك وما أحرزه قادتها من سلطه وجاه الأثر الأكبر في توجيه ذهن بعض الضباط إلى محاولة شبيهه لتلك التي يقومون بها في العراق ، فضلا عن أحداث الحركات الشعبية في لبنان عام 1952 التي أجبرت بشارة ألخوري على الاستقالة ، ولكن العمل الجدي المنظم لم يبدأ إلا بعد قيام ثورة تموز عام 1952 في مصر، فأجرى رجب عبد المجيد اتصالا مع رفعت الحاج سري فيما بين شهري آب وأيلول 1952)، واتفقا على تأسيس تنظيم ثوري في الجيش وبدأ كل بمفرده في تنظيم وتجنيد الضباط الذين يثق بهم ويعتمد عليهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن آخرين قد فكروا في إنقاذ العراق وتخليصه من النفوذ البريطاني لكنهم أحجموا في اللحظة الأخيرة أو توقفوا عند الخطوة الأولى ومنهم العميد الركن حسن مصطفى الذي شرع بتنظيم للضباط الأحرار عام 1953، وانه فاتح اللواء الركن إسماعيل صفوت ونصحه بالتخلي عن هذه الفكرة والانصراف لواجبه .
اتفق اغلب المؤرخون على أن سنة 1952 وتحديدا في أواخر آب – وأوائل أيلول تعد البداية الحقيقية لهذا التنظيم. ويمكن القول أن هذا التنظيم ضم ضباطا قوميين متأثرين بمباديء حزب الاستقلال.ويبدو أن أخبار هذه الخلايا وصلت إلى أسماع السلطة الحاكمة ولكن جميل المدفعي)، رئيس الوزراء آنذاك، نفى هذه الأخبار في الحادي عشر من أيار 1953، وصرح بأن الجيش العراقي ابعد ما يكون عن مزاولة العمل السياسي وانه مشغول بأعماله العسكرية حصرا).
إن انبثاق تنظيم الضباط الأحرار في العراق، لم يكن محض صدفة بل جاء نتيجة لمعطيات تاريخية ونضالية تمتد جذورها إلى عمق نشوء الحركة الوطنية في الوطن العربي وعبرت اصدق تعبير عن نضالات الشعب العربي في استرداد حريته وكرامته وتلمس غده المشرق .
لقد كان رفعت الحاج سري الذي اشترك في حرب فلسطين عام 1948 أول من بدأ خطواته نحو تشكيل تنظيم سري داخل الجيش فأتصل ببعض أصدقائه من الضباط الذين يشاركونه الإحساس بسوء الأوضاع وعرض عليهم فكرة تنظيم أنفسهم فوافـق عدد منهم وكونوا خلايا في الجيش ومن أعضـاء خليته محي الدين عبد الحمـيد وإسماعيل العارف وخليـل إبراهيم حسـين وصـالح عبد المجيد السـامرائي وشكيب الفضلي ووصفي طاهر

وعبد الوهاب الأمين ومحمد مرهون ونعمان ماهر الكنعاني وعلي احمد فؤاد(والأخير انسحب في وقت مبكر من التنظيم) فقام بعضهم باجتهاده الشخصي بطبع وتوزيع نشرات تدين النظام الملكي وتدعو إلى الثورة عليه ووأده .
بحثت هذه الخلية كيفية اختيار الضباط للانضمام للعمل فجرى ترشيح عدد من الضباط من مختلف الرتب والصنوف ممن تتوفر فيهم الكفاءة والإخلاص واقترحت مفاتحتهم بحذر شديد وأرسل البعض من أعضاء الخلية لمفاتحة البعض من هؤلاء المرشحين الذين لهم بهم صداقة وصلة تربطهم.من هؤلاء صبحي عبد الحميد وهادي خماس..وعندما دخل صبحي عبد الحميد كلية الأركان عام 1953 فاتح عددا من الضباط وضمهم إلى التنظيم، ومنهم صالح مهدي عماش وجاسم العزاوي وحسن النقيب وخالد حسن فريد.
كان الضباط العراقيون في حركة الضباط الأحرار من العناصر الوطنية الواعية التي تمتلك القوة والقدرة على توجيه سياسة العراق نحو سياسة وطنية وقومية، وكانوا يشعرون بحالة التخلف التي كان يعاني منها الشعب العراقي، وتزامنت توجيهاتهم مع ظهور الأحزاب السياسية آنذاك ذات الأيدلوجيات الثورية، وازدياد نشاطها في صفوف الشعب والقوات المسلحة الذي أدى إلى زيادة الوعي الثوري لدى الضباط وبعض الجنود واخذوا يدركون أهمية الاعتماد على الجيش وطلائعه الثورية للقيام بالتغيير المطلوب الذي باتت الأحزاب السياسية غير قادرة على تنفيذه .
وكان اسلوب العمل مبنيا على نظام الخلايا(تتألف كل خلية من ثلاثة إلى خمسة ضباط وأحيانا أكثر من ذلك) خشية على سرية التنظيم ولم يكن لهذا التنظيم هيئة عليا تسيطر على إدارته كما لم تكن هناك هيئة مؤسسة للحركة بل كانت القرارات تؤخذ بشكل فردي فنتج عن ذلك ضعف في السيطرة وأخطاء في مفاتحة الضباط للانتماء إلى الحركة.
كان هدف التنظيم في بداية تشكيله ضم اكبر عدد ممكن من الضباط إليه ولاسيما الذين يتولون منهم قيادات في الوحدات الفعالة الضاربة.إذ كانت هناك أهداف وطنية عامة يشترك فيها الوطنيون كافة على اختلاف نزعاتهم وعقائدهم.
لذلك وكما اشرنا فان تنظيم الضباط الأحرار كان يضم مجموعات من الضباط تجمعهم " الصداقة " بالدرجة الأولى,فكان " تكتل قاسم وعارف " ابرز هذه التكتلات.فكانوا لا يجمعهم فكر تنظيمي موحد ولا خطة سياسية أو اقتصادية مستقبلية.
وقد أشار نعمان ماهر الكنعاني إلى القول انه في عام 1954 كانت هناك قيادة موجودة فهم بعض أسمائها بعد حوار وانتساب للحركة وذكر أسماء بعض الأشخاص من هذه القيادة وهم محي الدين عبد الحميد، رجب عبد المجيد، إسماعيل العارف، عبد الوهاب الأمين، محمد سبع....بعد ذلك انضم إليهم آخرون عبد الوهاب الشواف، وناجي طالب متأخرا.. ويقول الكنعاني" انه في سنة 1954-1955 كانت توجد قيادة ومن بين الحضور عضوا فيها وهو الأخ محسن حسين الحبيب أما أنها قيادة منظمة أو غير منظمة فهذا جانب آخر".
كان رفعت الحاج سري على صلة وثيقة باللواء الركن نجيب الربيعي وفي بداية التنظيم كان يفكر أن يعهد إليه برئاسة التنظيم لما يتمتع به من سمعة حسنة واحترام معظم ضباط الجيش وقد كان يتكلم عنه دوما حتى شعر الضباط انه فعلا على رأس التنظيم وقد فاتحه رفعت في النصف الثاني من سنة 1953 ليكون على رأس التنظيم إلا انه رفض ذلك.
كان الربيعي يؤيد تنظيم الضباط الأحرار، كما كان على علم بأهدافه إلا انه لم يقبل أن يكون على رأسه ولا احد أعضائه.وقد أشار خليل إبراهيم حسين إلى أن رئيس التنظيم الروحي والفعلي حتى أواخر سنة 1956 كان نجيب الربيعي وكان يتصل به كل من رفعت الحاج سري ومحي الدين عبد الحميد قبل نقل الربيعي إلى خارج العراق).
كما أكد خليل إبراهيم حسين أن رفعت الحاج سري وآخرون وحتى نجيب الربيعي في تلك الفترة التي سبقت تشكيل القيادة لم يؤمنوا بتشكيلها وكانت عقيدتهم هي أن تشكيل القيادة يسبب التنافس والتناحر والحسد بين الضباط وانه إذا ما رشح ضابط للقيادة باعتباره آمر وحدة قد ينتقل ويحل محله ضابط آخر قد يطلب أن يكون في هيئة القيادة أيضا وهذا ما حدث فعلا من خلافات في القيادة التي شكلت .
كان إسماعيل العارف ذو تطلعات سياسية منذ وقت مبكر في حياته وذو توجهات قومية فكان يسكن, عندما تخرج عام 1939 من المدرسة العسكرية(الكلية العسكرية),بالقرب من جامع أبي حنيفة في ضاحية الاعظمية وعلى مقربة من الدار التي يسكنها كانت توجد مقهى مكشوفة تسمى "الجرداغ" كان يقضي فيها الأمسيات مع الملازم عزيز عبد الهـادي وبعض المدنيين النشـطين سياسيا مثل
عبد الله سرية الذي قضى معظم حياته في العمل ضد الحكم الملكي وكان الحديث يدور في السياسة ومناقشة وتحليل الأخبار التي كانت تذاع عن معارك الحرب العالمية الثانية من خلال استماعهم إلى إذاعة المانيا النازية من بغداد بصوت مذيعها العراقي يونس بحري.
ولقد كان للدعاية الإعلامية الألمانية في العراق دورا في إثارة المشاعر القومية بين أوساط الشباب العراقيين, واستخدمت عدة صحف بطريقة أو بأخرى لإثارة المشاعر المعادية لبريطانيا لدى الرأي العام العراقي وذلك عن طريق نشر مقالات معادية للحلفاء وكانت صحيفة العالم العربي أول صحيفة بادرت بشن هذه الحملة فضلا عن النوادي والجمعيات المعادية لبريطانيا والتي تشكلت في العراق بتشجيع ودعم من الحكومة الألمانية.
فكان هؤلاء ومن بينهم إسماعيل العارف يتناقلون ما يتلقونه من وسائل الإعلام المختلفة متتبعين انتصارات ألمانيا وما يذاع عن العراق والبلاد العربية بحماس منقطع النظير أملا أن تربح ألمانيا الحرب ويتخلص العراق من النفوذ البريطاني ومن السياسيين الموالين له في العراق.
انعكس تأثير الحرب العالمية الثانية على المجتمع العراقي إذ انقسم إلى معسكرين احدهما موال للحلفاء وبريطانيا والثاني يؤيد ويثمن انتصارات ألمانيا
وكان على رأس المعسكر الأول الوصي على عرش العراق عبد الإله ونوري السعيد وبقية الساسة التقليديين الذين عملوا في ظل الانتداب البريطاني أما المعسكر الثاني فكان يضم الجيل الجديد من الساسة وبعض الشخصيات الوطنية التي انشقت عن الساسة التقليديين وضباط الجيش المتخرجين من الكلية العسكرية العراقية واعتقد الساسة الوطنيون أن في الحرب فرصة مواتية ليتخلص العراق من السيطرة الأجنبية إذا انتصرت ألمانيا وكان مصدر ذلك الشعور كره العراقيين للدولة المهيمنة على مصيرهم وليس حبهم للألمان.
كما قرر إسماعيل العارف في أواخر عام 1941 مع بعض أصدقائه من الضباط الذين تخرجوا معه في الكلية العسكرية تشكيل جمعية سرية تؤمن بالأفكار القومية وتستهدف القيام بإعمال ضد النظام الملكي وكان من أعضائها الملازم محمد علي عبد اللطيف والملازم عبد المجيد رشيد والملازم مدحت السيد عبد الله وقاموا بإصدار منشورين سريين مكتوبين باليد وغالبا ما كانوا يعقدون الاجتماعات في أماكن منعزلة أو في بيوتهم ولكن نشاط هذه الجمعية اضمحل بسبب نقل بعض أعضائها إلى معسكرات نائية خارج بغداد.

عن رسالة ( اسماعيل العرف ودوره العسكري و.... )