بعض ما رأيت في العراق

بعض ما رأيت في العراق

زكي مبارك
تفضلت الاذاعة اللاسلكية فدعتني لالقاء محاضرتين عن العراق، فرأيت ان اقسم الموضوع الى قسمين: الاول اصور به بعض ما رأيت في العراق، والثاني اصور به الحياة الادبية في العراق. وابدأ فاذكر ان هجرتي الى العراق لم تكن تخطر بالبال، فقد كانت لي في مصر شواغل تصرفني عن التفكير في ذلك، ثم فوجئت بالدعوة الى خدمة العلم في العراق في مطلع شهر اكتوبر من السنة الماضية،

فترددت في قبول الدعوة، ثم قلت في نفسي ان من العقل ان اعرف جوانب من الشرق بعد ان عرفت جوانب من الغرب، وصح عندي ان الهجرة الى العراق قد تشرح دقائق الادب في العصر العباسي، ليس من المقبول ان يصح لمثلي ان يصف باريس عن علم ويصف بغداد عن جهل!.
وما هي الا ايام حتى كنت في طريقي الى العراق، ولعلي كنت المصري الوحيد الذي ل يطل بينه وبين المفوضية العراقية اخذ ولا رد في شروط العمل بالعراق.

ولكن كيف اصل الى العراق؟
كانت هناك مسالك للوصول: الاول الوصول بالطيارة، وهو اسهل الطرق، لانه يمكن المسافر من الفطور بالقاهرة والعشاء في بغداد، ولكني تذكرت اني اعطيت جماعة من تلاميذي موضوعا للانشاء منذ عشر سنين عن (خطر انعدام المسافة في العصر الحديث) وكنت ارى ان الطيران قضى على جانب مهم من الادب الوصفي فلن يكون في الدنيا بعد اليوم رجل مثل ابن بطوطة ولا رجل مثل جان جاك روسو، وانا ارى الشرق العربي اول مرة، فليس من المفيد ان اسافر في طيارة فاحجب عما فيه من انهار ومدائن وسهول!
الطريق الثاني هو طريق البحر من الاسكندرية الى بيروت وهو يعطي الفرصة لرؤية لبنان وسورية، ولكنه يحرمني رؤية فلسطين ويحسني في البحر يوما وبعض يوم، وانا ركبت البحر الى اوروبا اكثر من عشر مرات وشبعت منه وشبع مني!
الطريق الثالث هو السفر من القاهرة الى القنطرة لاختراق فلسطين بالقطار حتى اصل الى حيفا ومنها الى بيروت ثم الى الشام ثم الى بغداد.
ولكن طريق فلسطين كان في ذلك الوقت محفوفا بالمكاره، فقد كانت البرقيات تحدثنا ان الثوار ينسفون القطارات، فلم يصرفني ذلك عن المرور بفلسطين، لاني كنت احب ان ارى البلاد التي يقتتل حول خيراتها العرب واليهود، وقد نهاني بعض الزملاء المسافرين الى العراق فلم انته، وتفردت بتلك المغامرة لاكحل جفني برؤية فلسطين.
وصلت الى القنطرة في ليلة قمراء توحي غرائب الشعر والخيال، فعلمت ان القطار سيتاخر قيامه من هناك ثلاث ساعات حتى لا يدخل فلسطين الا مع ضوء الصباح، تجنبا لمخاطر التعرض لنسفه بالليل. وكذلك عرفت ان من نهوني عن المرور بفلسطين لم يكونوا مخطئين.
قضيت ساعات في مناجاة قناة السويس والتأمل فيما صنعت مصر لخدمة الانسانية، الانسانية الجاحدة التي جهلت ما قدمت مصر من جميل.
وقفت انظر كيف خدمنا بني ادم وكيف اتعبنا اجسادنا وافقرنا جيوبنا لنسهل وسائل النفع ولنصل بين المشرقين والمغربين، ثم لا نجد من يتفضل بكلمة ثناء.
وسار القطار قبيل الصبح فبخلت على عيني بالهجود لارى اطراف مصر من ناحية المشرق ولانظر بساتين فلسطين.
ولم يكفني ما رأيت من فلسطين في الذهاب فقررت المرور عليها في الاياب لاتمتع باختراقها مرتين ولاقتنع بانها بلاد جميلة جذابة تستحق ما ثار حولها من النضال.
ولم ابت في فلسطين الا ليلة واحدة عند الرجوع، وكانت ليلة متعبة، فقد كان محرما على اهل حيفا ان يتجولوا بالليل، وكان من الحزم ان اقضي سهرتي في رحاب الفندق وان حرمني ذلك شهود المجتمع الفلسطيني في تلك المدينة البيضاء.
واعود فاقول اني امتطيت سيارة في ذهابي من حيفا الى بيروت وفي بيروت قضيت ليلة واحدة كانت ابقى اثرا من الليالي الطوال.
مضيت اتنقل في بيروت من مكان الى مكان بعد ان القيت امتعتي في الفندق، ثم اتفق ان عرفني بعض الادباء هناك فساقني ذلك الى زيارة اكثر الجرائد واندفعت فجاذبت اهل بيروت اطراف الحديث وعرفت الوانا من عتابهم على مصر والمصريين، وقد تعقبوني بعد ان وصلت الى العراق فكان بيني وبينهم مناوشات ستعرفون اخبارها حين انشر كتاب (وحي بغداد).
ومن بيروت رحلت الى دمشق مخترقا جبال لبنان فرأيت من جمالها الاعاجيب، ولاازال مفتونا بما شهدت في الموضع المعروف بسهل البقاع. وفي دمشق رأيت الاستاذ محمد كرد علي والاستاذ عبد القادر المغربي وزرت بعض الزعماء وقضيت لحظات في مناجاة نهر بردي الذي خلده حسان.
ثم اسلمت نفسي الى سيارة (نيرن) لاقطع الصحراء بين الشام والعراق ولارى بنفسي كيف شقي اسلافنا بمخاطر البيداء.
كنت اعرف اني ساقضي اكثر من خمس وعشرين ساعة في ذلك السجن المتحرك، وكان ذلك يغرق نفسي في بحر من الانقباض، ولكن كان يعزيني ما عرفت من اننا سنستريح في كل مدينة تصادفنا في الطريق، ولم يكن في الطريق مدائن وانما هناك محطتان هما الرطبة والرمادي.
وبعد ساعات من عبور الصحراء نظرت فرأيتنا مقبلين على مدينة فيحاء، مدينة تقع على نهر واسع تجري فيه سفائن بخارية وشراعية، فانشرح صدري وقلت سنستريح لحظات ثم عجبت من جهلي بالجانب الجغرافي من ذلك الطريق، فما كنت اعرف ان هناك مدينة تقع على نهر عجاج، وترحمت على استاذي اسماعيل بك رافت الذي اسقطني في امتحانات الجامعة المصرية مرتين لقلة ما كنت اعرف من دقائق علم الجغرافيا وعلم وصف الشعوب.
ولكن لم تمض غير دقائق حتى اختفت تلك المدينة مرة واحدة فعرفت انها كانت اضلولة من اضاليل السراب!
وبعد نصف ساعة لاحت مدينة جديدة، فتاملت مرة ومرتين ومرات فتاكدت انها مدينة حقيقية، وكنت كلما اقتربت منها زدت يقينا باننا سنستريح بعد لحظات، وتمتاز تلك المدينة بما يكثر فيها من منارات المساجد وابراج الكنائس، وبما يحيط بها من حدائق وبساتين، وقد نظرت فرأيت حولها فرقة من الجيش تسير نحو الشرق، وفوق ذلك الجيش يحلق سرب من الطيارات.
ما اسم تلك المدينة؟ ولم نذلك الجيش؟ ولاي غرض يتجه نحو الشرق؟ آه من جهلي بدقائق علم الجغرافيا وعلم وصف الشعوب!
كنت استطيع ان اسأل بعض المسافرين عن تلك المدينة، ولكني خجلت من السؤال. فقد كان فيهم من يعرف اني ذاهب لخدمة العلم في العراق، ومن كان في مثل حالي لا يليق به ان يجهل هذه البسائط الجغرافية.
وما هي الا دقائق حتى اختفت هذه المدينة وعرفت انها كتلك: اضلولة من اضاليل السراب.
ولكن خداع السراب لم يستمر طويلا، فقد اقبلنا على واحة كثيرة النخيل، قد انتشرت فيها منازل صغيرة اكثرها اكواخ، وفيها الوان من الحيوان اكثرها الابل والشاة، وفيها عدد قليل من الاعراب.
لم اطرب كثيرا لظهور هذه الواحة، فقد كنت استبعد ان نقف عندها لحظة او لحظتين فما فيها – فيما اظن مطاعم ولا مشارب حتى يستريح بها المسافرون.
ولكنها على كل حال فرصة للنزول، وساقترح الوقوف عندها بضع دقائق.
آه، ثم آه، هذه ايضا اضلولة من اضاليل السراب.
ولكن هذه الاضاليل ستقفني بعد اشهر موقفا سخيفا جدا، ستكون حفلة الافتتاح للمؤتمر الطبي العربي في بغداد، وسيكون فيها الوزراء والنواب والاعيان وكبار الاطباء، وسيلقي الاستاذ علي الجارم بك قصيدته في تحية المؤتمر فيقول في وصل البيداء:
طالت بنا الصحراء حتى خلتها ابد الابيد
يتخلص المرمى البعيد بها الى مرمى بعيد
كتخلص الحسناء من وعد طوته الى وعود
فاصرخ: اعد يا استاذ، اعد الكلام عن وعود الحسان!
وعندئذ يتلفت الحاضرون فيرون الدكتور زكي مبارك هو الذي يستعيد، فيقول بعضهم لبعض: هذا مجنون ليلى، ولا حرج على المجانين!
وعذرهم في اللوم مقبول فما عرفوا من اضاليل السراب مثل الذي عرفت!
***
ثم وصلت الى الرطبة تعبان فلم اذق معنى للراحة هناك.
وبعد نصف الليل قضينا مدة في الرمادي فذقت اول مرة طعام العراق.
وبعد الفجر رأيت افواج الفلاحين وهم يسيرون بمواشيهم الى حقولهم على الاسلوب الذي يجري عليه الفلاحون المصريون.
وبعد تفتيش الامتعة اخذت سيارة لادخل بغداد بعد ان بقيت في ذلك السجن المتحرك مدة طويلة رأيت فيها الشروق والغروب ثم الشروق.
***
الله اكبر ولله الحمد!
هذه بغداد التي قأت عنها ما قرأت، وسمعت في وصفها ما سمعت.
وهذا هو الجسر الذي قال في مثله ابن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري
اعدن لي الشوق القديم ولم اكن
سلوت ولكن زدن جمرا الى جمر
وذلك خيال باب الرصافة الذي تشوق اليه ابن نبانة السعدي فقال:

سقيا لتغليسي الى
باب الرصافة وابتكاري
ايام اخطر في الصبا
نشوان مسحوب الازار
حجي الى حجر الصرا
ة وفي حدائقها اعتماري
ومواطن اللذات اوطا
ني ودار اللهو داري

وما كدت اضع امتعتي في الفندي حتى اخذت عربة ومضيت فسلمت على وزير المعارف فراعني ان ارى شيخا معمما اسمر الوجه فصيح الحديث، وقد سألني عن الصحراء، فاظهرت تألمي لما كابدت وعانيت، فقال: اشكر ربك، فقد قطعتها قبلك في مدة دامت خمسة وعشرين يوما قبل ان تعرفها السيارات، وكان حديثا ممتعا عرفت به من خصائص الصحراء ما لم اكن اعرف.
ومضيت فقيدت اسمي في ديوان حضرة صاحب الجلالة ملك العراق، وانتقلت فسلمت على فخامة رئيس الوزراء، واسرعت فالقيت الدرس الاول في دار المعلمين العالية وانا بغبار الطريق.
سلام الله وسلام الحب على ايامي في العراق
كنت في البداية اظن انني ما حضرت الا لتدريس الادب العربي، فحبست نفسي بين المدرسة والمكاتب زمنا غير قليل.
ثم رأيت ان هذا المسلك غير مقبول لانه سيحجبني عن الخصائص الذاتية للشعب العراقي وخصائص هذا الشعب تفسر كثيرا من دقائق الادب في العصر العباسي، فانقطعت انقطاع يكاد يكون تاما عن المصريين المقيمين في بغداد، واقبلت على البغداديين اصاحبهم واصداقهم واقضي معهم ما تسمح به اعمالي من لحظات الفراغ.
وكانت حجتي ان الشعوب لاتموت، فبغداد التي غيرتها الازمان من احوال الى احوال لا بد ان تحفظ كثيرا من شمائلها الاصيلة لعهودها الذهبية، ولا بد من الوصول الى بعض الاسرار التي قضت بان ينبغ فيها كبار الكتاب والشعراء.
وما هي الا اشهر قلائل حتى كنت على صلات بمختلف الطبقات في بغداد، وحتى صححت لنفسي اخطاء كثيرة في فهم الادب والتاريخ.
وبغداد تنقسم في وضعها الحاضر الى قسمين: بغداد القديمة التي كان يعيش فيها الناس قبل التمدن الحديث، وهي مدينة جافية لمن يراها اول مرة، ولكنها جذابة جدا لمن يعرف روحها الشفاف، هي مدينة تجذب من يعرف اهلها، وهم في اكثر احوالهم على جانب عظيم من الادب والذوق ولطف الاحاسيس وكرم النفس ولن انسى طول حياتي ما لقيت في تلك الدور الجافية من عذوبة الارواح وصفاء القلوب.
كنت ادخل المقاهي في تلك المدينة القديمة فيؤذيني حرمانها من النظافة والتنسيق، ولكن قلبي يتفجر بالعطف حين اتذكر ان هؤلاء الناس قاوموا الحوادث والخطوب حتى حفظوا اصول اللغة العربية وقواعد الاسلام، وحتى استطاعوا ان يحفظوا لانفسهم وجودا خاصا بالرغم من تصاريف الزمان.
في تلك الدور الجافية نشأ ناس تغلبوا على مصاعب اخفها الاوبئة والطواعين!
في تلك الدور الجافية خلقت عواطف واحاسيس واهواء!
في تلك الدور الجافية نبغ شعراء وصفوا الحب والليل!
في تلك الدور الجافية الفت احزاب ودبرت مؤامرات غيرت وضع العراق من حال الى حال!
وكانت لتلك الدور الجافية تقاليد، اهمها الباب المفتوح للجائعين والملهوفين!
اليك ايتها الدور الجافية والى ما يعلوك من رواشن وما يحيط بك من مضايق، اليك في خشوتك التي اراها انعم من خدود الملاح اقدم تحيتي وثنائي!
اما بغداد الجديدة فتصورها الضواحي التي انشئت على النظام الحديث.
وهذه الضواحي تمتد الى افاق بعيدة على شواطئ دجلة، وفيها يعيش المياسير من اهل بغداد، هي ضواح لا تقاس الى الجيزة او مصر الجديدة او المعادي او حدائق القبة، ولكنها بالنسبة الى بغداد القديمة تعد انتقالا سريعا الى اجواء الرفاهية واللين.
وفي الاحياء الجديدة ميل شديد الى الاناقة والتنسيق، ولن تمضي غير سنين قلائل حتى تخلق بغداد كلها خلقا جديدا، بفضل ابنائها الذين يزورون مصر وغير مصر فينقلون الى وطنهم بذور الحضارة والعمران!!
***
ليس في بغداد مواصلات سريعة على نحو ما في القاهرة او الاسكندرية، فليس فيها ترام ولا مترو وسيارات التاكسي قليلة جدا، وانما يعتمد اهل بغداد على عربات تجرها الخيل، وهناك سيارات عمومية تسمى (باسات) وهي قذرة وضيقة ولايركبها في الغالب الا الطبقة الشعبية.
والنساء في بغداد يؤثرن (الحجاب) وهو الزي الغالب على النساء المسلمات، والسفور لا يشيع الا بين نساء النصارى واليهود، على ان تلميذات المدارس من المسلمات ينتقلن رويدا رويدا الى السفور، ومن المنتظر ان يصرن بعد نحو عشرين عاما الى ما صار ليه الفتيات القاهريات ان لم تقع موجة اجتماعية تردهن جميعا الى مأثور الحجاب.
واهل بغداد لا يشربون الخمر على قارعة الطريق كما يقع في بعض الحواضر المصرية، وانما يشربونها في فنادق مغلقة الابواب، وذلك ادب مقبول.
وقد اذيعت منذ اشهر اوامر توجب ان لا تقدم الخمر في الفنادق والملاهي بعد الحادية عشرة مساء. حفظا لصحة الشعب وآدابه من التبديد.
وفي العراق مدن لايباح فيها بيع الخمر علانية، واشهر المدن في هذا المعنى مدينة النجف وهي مدينة كبيرة، ولكنها مع ذلك خالية من الملاهي والملاعب والمراقص، ولم يدخل فيها الراديو الا بعد جدال طال امده بين العلماء.
ولما زرت النجف جلست على قهوة، فلامني اخواني هناك، وقالوا: سيكتب في التاريخ ان الدكتور زكي مبارك حين زار النجف جلس على قهوة!!.
وسمعت ان احد الموظفين بالكوفة كان يشرب الخمر سرا، فلما علم الاهالي بخبره طاردوه الى ان نقلته الحكومة من هناك.
ويمكن القول بان اهل العراق في جملتهم ينكرون شرب الخمر، تشهد بذلك الحفلة التي اقامها فخامة رئيس الوزراء لاعضاء المؤتمر الطبي فلم يكن فيها شراب غير الماء القراح، ومعنى هذا ان آذاب الاسلام لا تزال مرعية في تلك البلاد!
وهناك شارع مشهور يسمى (شارع ابي نواس) وكنت اظنه يشبه شارع وجه البركة في القاهرة، فلما رأيته عجبت، لانه شارع نظيف جدا يساير دجلة بحيث يمكن ان نسميه (كورنيش بغداد) وفيه قهوات لايباح فيها شرب الخمر على الاطلاق.
وانما نصصت على هذا الجانب من حياة اهل العراق لانه يدخل في صميم المجتمع، ويمثل اذواق الناس اصدق تمثيل.
وقد لوحظ اخيرا ان الفنادق التي تبيع الخمر تكثر فيها المشاجرات فاهتمت الحكومة بالامر وبثت حولها الارصاد والعيون.
ويتصل بهذا ما شهدته حين دخلت بغداد فقد عرفت ان هناك اوامر تعاقب من يفطرون علنا في رمضان، وكذلك ينقضي شهر الصوم وليس فيه مطعم مفتوح اثناء النهار، وليس معنى هذا ان اهل بغداد يصومون جميعاً، ولكن معناه انهم يراعون اداب الصيام.
وملاهي بغداد تنقسم الى قسمين: ملاه شرقية وملاه غربية.
اما الملاهي الشرقية فتقوم على الغناء والرقص على نحو ما كنا نشهد في القاهرة منذ سنين. وقد عرفت ان البغداديين لا يسفقون حين يطربون للغناء، وهذا فيما علمت كان من اسباب الوحشة التي احسها الاستاذ محمد عبد الوهاب حين غنى هناك!
اما الملاهي الغربية فتقوم على الرقص الافرنجي، وهي ملاه قليلة جدا، لان الذهاب اليها يعد من العيوب، وهي مع ذلك تزدحم بارواد في اكثر الليالي.
ومن هذا تفهمون ان المجتمع العراقي يعاني صعوبة الانتقال من وضع الى وضع.
وما نقول به في الحكم على مدينة بغداد نقول به في الحكم على مدينة البصرة، ففيها رأيت مرقصا افرنجيا لو شهده الجاحظ لكتب في وصفه رسالة او رسالتين!!
وقد اقمت في مدينة الموصل خمسة ايام فرأيتها اكثر احتشاما من البصرة وبغداد، والسر في ذلك ان الموصل يكثر فيها النصارى فيحرص المسلمون على ادابهم اشد الحرص ليقيموا التوازن بين المذاهب ويذهبوا قالة السوء عن العقيدة الاسلامية.
***
ويسوقنا هذا الوصف الى الحديث عن تدين اهل العراق، فهم في رأيي من اشد الامم تمسكا بالاسلام، وربما كان العراق هو الامة الوحيدة التي لا تزال تختلف وتأتلف حول المذاهب الاسلامية والاختلاف حول تلك المذاهب يوحي الى الجمهور حب التعمق في درس الاراء والنظريات.
وكذلك يعرف اهل العراق من تاريخ الخلفاء والائمة ما لا يعرف جمهور المسلمين في غير العراق. وفي العراق عدة جمعيات تهتم بنشر المعارف الدينية، منها جمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية، والجمعية الاسلامية والاخيرة جمعية يديرها جماعة من فضلاء الهنود.
وعلماء الدين في العراق يحترمون أئمة الاسلام احتراما شديدا وقد يصلون في ذلك الى حد التعصب الممقوت، واذكر ان جماعة منهم قاطعوا محاضراتي في بغداد بسبب كتاب (الاخلاق عند الغزالي).
ومحطة الاذاعة العراقية تصنع مثل الذي تصنع محطة الاذاعة المصرية من الاهتمام بتلاوة القرآن واذاعة الاحاديث الدينية، وهم ينظرون الى من يذكرهم بالدين والاخلاق نظر الاحترام والاعجاب وهم يتوجعون لما قد يقع بالمسلمين من سوء، تشهد لذلك مواساتهم التي لا تنقطع لاهل فلسطين.
وجملة القول في هذا الباب ان العواطف الدينية في العراق عواطف سليمة جدا، والمصلح الموفق يستطيع ان يقود العراقيين باسم الدين الى اشرف الغايات.
وهم مع تدينهم اهل مرح وطرب وانشراح، واكثرهم يجيد الغناء.
***
بقيت كلمة عن خيرات العراق
واقول انهم لم يستطيعوا الى اليوم ان ينتفعوا تمام الانتفاع بما في بلادهم من خيرات، فعندهم نهران عظيمان هما دجلة والفرات، ولكن مياه هذين النهرين يذهب معظمها الى البحر بلا رقيب ولا حسيب.
ويوم يستطيع العراق حبس مياه هذين النهرين ستنقلب سهوله الى رياض وحقول تعود على الناس بالخير العميم، ولعل ذلك قريب. وجو العراق عنيف جدا في الصيف، ولكن ينتظر ان يلطف حين تخزن مياه الانهار وتكثر المزارع والبساتين.
وانهار العراق مسمكة جدا فهم يأكلون السمك في جميع الاوقات وليست انهارهم كنهر النيل الذي يضن بالسمك فلا يراه الفلاح في العام غير مرات معدودات، وكثرة السمك في انهار العراق هي السبب في رخص اللحوم هناك!
وفي العراق يختلف الشمال عن الجنوب.
فالذاهب الى البصرة تروعه النخلات التي تعد بالملايين، والذاهب الى الموصل تبهره حقول الحنطة وهي حقول مسدودة على مسافات طوال. وفي العراق خيرات النفط الذي نسميه البترول، ولها سوق قائمة في كركوك، ويرى المسافر جذوات اللهب من مكان بعيد.
وسكان العراق هم اليوم (نحو اربعة ملايين) ولو استطاعوا تدبير الخيرات في بلادهم لول السكان الى اربعين مليونا.
واخلاق اهل العراق تدور بين الشدة واللين، فهم يسرفون في الحب، ويسرفون في البغض وهم في هذا يتبعون جو بلادهم الذي يرق فيكون نسيما، ويقسوا فيكون جحيما.
ذلك ايها السادة بعض ما رأيت في العراق سقته اليكم بلا تزيين ولا تجميل، وهو يصور اهم ما يجب ان تعرفوه عن المجتمع العراقي!!
وفي المحاضرة المقبلة احدثكم عن الحياة الادبية في تلك البلاد لنرى كيف صارت اللغة وصار الادب في الامة التي رفعت لواء النهضة العلمية في عصر بني العباس.
ويسرني وانا في مصر ان اقدم التحية الى سائر اهل العراق راجيا لهم من الخيرات والبركات ما ارجوه لنفسي ولاهلي ولوطني.
حيا الله العروبة، وحيا الله الاسلام.

عن كتاب زكي مبارك في العراق
عبد الرزاق الهلالي - بيروت 1969