أورهان باموق.. أمــتحــــــان دولــــــــــة

أورهان باموق.. أمــتحــــــان دولــــــــــة

ترجمة : لمياء مهدي
سواء برغبته او بدونها اصبح اورهان باموق رمزا سياسيا بالاضافة لكونه اديبا و روائيا فذا، فحين كانت تركيا تحاكم ابرز روائييها(حائز نوبل منذ ايام) بتهمة “ الاهانة العلنية للقومية التركية “. كانت هذه المحاكمة مهمة لطرفين اولهما اوروبا التي تتوقع انضمام تركيا لاتحادها والثاني الولايات المتحدة التي وصف رئيسها باموق ب “ الكاتب العظيم “ والذي “ تمثل اعماله جسرا بين الثقافات “

حتى ان جورج بوش الابن كما والده عندما كان رئيسا يشير دائما الى تركيا بانها الجسر بين الحضارات وتمثل نموذجا للديموقراطية العلمانية بين جميع الدول المجاورة.
وقد تشكل احساس قوي بان هذه المحاكمة هي امتحان تركيا لنفسها، امتحان للحقيقة الكامنة خلف التوجهات الديموقراطية وموجات الحداثة، انه اختبار لتعهداتها باطلاق الحريات المدنية بما يتيح للافراد قول او كتابة ما يشاؤون.
والان وبعد التغطية الاعلامية الواسعة لن يذهب باموق للمحاكمة وبعد ان هدأت الضجة بقي سؤالان عصيبان: الاول، هل اجتازت تركيا اختبارها بنجاح؟ وهل هذا هو الاختبار الصحيح لمواجهة المجتمع الدولي؟ والاجابات تكمن – عادة – في تفاصيل القضية....وفي وعي نابوكوف للتفاصيل...... سيكون باموق ممتنا للمقارنة!!!! بدات الدعوى عندما قدمت شكوى ضد الروائي التركي بعد تصريحات ادلى بها لصحيفة سويسرية في فبراير عام 2005 حيث اقتبست عنه قوله “ ثلاثون الفا من الاكراد ومليونا من الارمن قتلوا في هذه البقعة من الارض ولم يجرؤ احد غيري على الاشارة للامر “ وهو يشير هنا الى القتال بين الارمن العثمانيين وجيش الامبراطورية خلال الحرب العالمية الاولى اضافة الى الاعمال العدائية المستمرة منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي بين الجمهورية التركية والاكراد. ولا تشكك تركيا بقتلى الارمن في النزاع الذي مثل سقوط الامبراطورية العثمانية ولكنها تصر على ان القتل لم يكن ضمن حملة تطهير عرقي منظم وتؤكد ان مئات من اثنيات اخرى غير الارمن فقدوا حياتهم ايضا تلك الفترة، وترفض تركيا ايضا الادعاءات بان حملتها لاحتواء انتفاضة الاكراد يمكن ان تصنف ايضا كتطهير عرقي، ولم يكن امام باموق افضل من هاتين القضيتين فهي دعاوى مكثفة انسانيا وسياسيا.
في السادس عشر من السنة الماضية قرر قاضي المحكمة التركي تاجيل النظر في الدعوى بسبب الشك في المادة التي يجب ان يحاكم باموق وفقها اهي المادة 159 في قانون المحاكمات الجزائية الذي كان جاريا ايام تاليف الرواية محل الجدل او تحت القانون 301 المعدل والذي سن بضعة اشهر قبل ان يرفع النائب العام دعواه ضد باموق في سبتمبر 2005. وتطلب الامر –حسب القانون القديم – مصادقة وزير العدل للمضي قدما بالمحاكمة ولم تتخذ اية خطوات عملية في القانون الجديد للحد من تاثير الاجراءات التنفيذية في سير العدالة.
وبعد ذلك اعلن القاضي انه لن يسمح بالاستمرار واقفلت القضية واسقطت الدعوى ضد باموق الا ان التوجه الدولي في القضية ارسل رسالة واضحة لتركيا فيها من النقد الكثير واظهر كيف ان بعض السياسيين والمحامين والكتاب قد ادركوا طبيعة قضية اورهان باموق بوجهات نظر عديدة فعلى سبيل المثال نشرت التايمز في 14 اكتوبر 2005 مقالا لسلمان رشدي بعنوان “ كيف ينظم بلد يضحي باعظم ادبائه الاحياء الى الاتحاد الاوروبي؟ “ حيث يقول: “ قد تلاحظ ان الادباء الاتراك تجنبوا وبشكل صارخ الحديث عن سلب الحريات الاساسية لكاتبهم الاشهر بنفس اللحظة التي يطالبون فيها بالعضوية الكاملة في الاتحاد الاوروبي، ان المطالبة التركية هي في الحقيقة امتحان للاتحاد الاوروبي واذا كانت له اية مبادئ حقيقية فعلى مسؤولية المطالبة باسقاط الدعوى فورا ضد باموق ولا داعي للتاخير، قد يظهر هذا الاتحاد بلا مبادئ وهو يدير ظهره لاعظم اديب يقاتل لاجل الحرية والمدنية، انه اختبار للغرب كما هو للشرق “. وعندما اصدر الخميني فتواه الشهيرة ضد سلمان رشدي كان باموق اول الروائيين المسلمين الذين دافعوا عن حرية رشدي في التعبير وشدد كقارئ لرواية “ الايات الشيطانية “ على الطريقة غير المعقولة التي اسست عليها الدعوى المعارضة للرواية. وكانت الصورة قد اتضحت كمواجهة بين العلمانية الديموقراطية بابطالها المنادين بحرية التعبير والفكر من جهة والاسلام السياسي بسمته الاساسية وهي الوقوف بمواجهة الحريات المدنية.
وكان قتل المخرج الهولندي فان كوخ دليلا مرعبا على الحد الذي وصل اليه الخلاف “ كان فان كوخ قد اخرج فيلما مثيرا للجدل ينتقد فيه توجهات في الثقافة الاسلامية “.
قدمت قضية باموق وجها اخر للصراع الدائر في تركيا مع او ضد الاصوات المطالبة بالتشديد على العلمانية الديموقراطية التركية وكانت معارضة توجهات الروائي التركي اغلبها من اجهزة الدولة البيروقراطية او بعض المؤسسات العسكرية التي ترى انها اهم القوى المؤثرة في تركيا وحراسها والفصل الثابت في نظرية تدحض فكرة ان تركيا بدات بالعودة الى جذورها الاسلامية، ولذلك يجب الا يتعجب سلمان رشدي عندما اختار الحاكم في قضية باموق احضار القضاة بوقت قصير قبل انعقاد قمة الاتحاد الاوروبي فالدعوى المقامة في قضية كهذه تدار من مجموعة محامين دوليين هي محاولة لاحراج الحكومة ونسف جهودها باتجاه الوحدة الاوروبية واكثر من ذلك هي حث لقادة الاتحاد الاوروبي لممارسة ضغط سياسي على النظام القضائي التركي في قضية مهمة ابدت الجانب الاخر لمعارضة الاتراك لما يرونه تاثيرا سيئا للتدخل الاوروبي على السيادة التركية. لقد تمت تبرئة اورهان باموق حينما بعد ان خضعت الحكومة للضغوط الدولية والمحلية الداخلية.
استغل محامو حقوق الانسان والمنظمات الدولية الاخرى الضجة التي اثارها اعتقال باموق لجذب الانتباه الى ان اكثر من خمسين كاتبا وصحفيا وناشرا اخرين يواجهون مصير باموق نفسه وتحت الظروف نفسها ولم يعرضوا على محكمة لحد الان. وان الوقت لا زال مناسبا لتركيا لاثبات تعهدها باحترام حرية التعبير وهو الوقت المناسب لتعديل – ان لم نقل الغاء – القانون 301. خمسون قضية تخص حرية التعبير قد تكون مخالفة او نقصا ولكنها في الحقيقة تشير الى اتجاه التغيير في تركيا. وبعيدا عن مركز صنع القرار في اسطنبول او انقرة تلاحظ اكبر علامات التغيير عند الاكراد الذين يقطنون شرقي تركيا. وفي تقرير للنيويورك ريفيو في 21 كانون الثاني 2006 كتب ستيفن كنزر عن لقاء مع الكاتب الكردي لطفي باسكي: “ سابقا كنا نخشى الحديث علنا، كانت الحكومة تصر على ان لا للاكراد فلا اعتراف باللغة او الثقافة الكردية، كانوا يعتقلوننا ويغلقون مؤسساتنا اما الان فامور كثيرة تغيرت وخصوصا في الاشهر القليلة الاخيرة، صحيح ان مشاكلنا لم تحل لحد الان الا اننا اصبحنا نتحدث عنها بثقة مؤخرا، انه تغير ما، وحتى الامل المرجو بانضمام تركيا للاتحاد الاوروبي اصبح يشكل مصدر ثقة مضاعفة بالغد للاكراد، وعلى ما يبدو فان تسوية اوضاع الاكراد في كردستان العراق لم تؤثر بأوضاعنا. ان فرصة انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي ستعيد صياغة الحياة السياسية هنا، ولن يكون الاتحاد صادقا مع نفسه اذا ادار ظهره لتركيا والتقدم الذي تحققه “. ولم يمر الا اقل من عقد من الزمان منذ تولى رجب طيب اردوغان رئاسة الوزراء في تركيا حتى وجد نفسه بمواجهة مع العصيان الذي اثارته اعادة نشر ابيات لشاعر تركي قومي بداية القرن العشرين:
ستكون المساجد ثكناتنا العسكرية
القباب خوذنا الحربية
المنائر حراب بنادقنا
والمؤمنون جنودنا
واليوم يحاول اردوغان كتركي مثل باموق التصدي للتابوهات الثقيلة التي تردد ان تركيا ستخسر الكثير في محاولتها الانضمام للاتحاد الاوروبي، وفي هذه الحالة يبدو مهما جدا للمفكرين والسياسيين الغربيين التمييز بين الاكثرية الاصلاحية والاقلية الرجعية. ويبدو ان اورهان باموق سيواصل كشفه حيره تركيا في تحديد هويتها سواء برواياته او تصديه العملي لكسر الاسوار عن حرية التعبير في بلد ظل حتى وقت قريب – وكما يقول الايرلندي جويس – “ بلد يرسل كتابه وفنانيه الى المنافي “ ولم يعد من شك في ان تركيا يجب ان تغير قوانينها حيث يعد اطلاق سراح باموق خطوة ايجابية كان يجب ان تتم عبر المحكمة لا من طريق رئاسة الوزراء، ويجب ان يستمر التغيير وتعديل القوانين حتى التحول الى بلد ديموقراطي بالكامل. اما بالنسبة لصدق تعهداتها للمجتمع الدولي فيجب الاخذ بعين الاعتبار محاولة فهم التطورات في بلد لا يوحد القارات فحسب بل يعمل كحلقة وصل بين عالمين يؤمنان بنظريتين مختلفتين للحياة.: “ نحن نفتخر بنور حضارتنا، ولكن ان لم نحدق في الشمس بقوة فسوف نقذف في الظلام بعنف “كان ميلتون محقا تماما.
عن الغارديان