عوني كرومي.. أربعون عاماً من العطاء للمسرح العراقي

عوني كرومي.. أربعون عاماً من العطاء للمسرح العراقي

سعدي عبد الكريم

حينما تقودنا ملاذاتنا الحوارية في جلِّ الأحايين، للحديث عن جوهر المحاولات التوثيقية التي تلامس شغفنا المتجذر فينا، وتلك السطوة الأصلية الأخاذة المتوغلة داخل مفازاتنا الفائتة والتي تبحث بتوءدة في تأريخ المنتج الإبداعي لـ( المسرح العراقي)،

والتي هي بالأصل مناطقية اشتغالنا المهمومين برفعتها النبيلة، بقصدية الانفلات المؤقت من تلك الأطر الهزيلة المتشبثة بملامحنا المترهلة في زمننا الفني المحتضر هذا، او الذي شارف على لفظ أنفاسه المسرحية الأخيرة إلا من بعض المحاولات النبيلة لانتشال المسرح من الهوة السحيقة.

وحين يتشظى ذلك الحوار داخل محافلنا النائية، ذات الصبغة المسرحية بوجه خاص، والتي يحاول فيها جلاسها استقراء، أو تحليل، وربما تأويل القناعات الشخصية، الغير متواءمة بضرورة الإسقاطات الفكرية، او الفنية، و(كلٌ يدلو بدلوه) الممتلئ بالقيح الحاضر في خاصرة مستقبل الفن المسرحي العراقي، الذي يعاني من الهزال، والمُتمازجة بداخلة لواعج الفاقة والعوز، وبتواشج غريب داخل ثيمته الراكدة المحملة بملامح الأسى، والفقر الفني، وتلك (الآه) التي تطلع من متاهة تلك اللوعة الداخلية الدفينة، التي تغلف ذاك البوح الحواري الذي يواسيه أحيانا شيء من الهمس المسموع، الذي لا يصغي اليه بوضوح واهتمام بالغ ممزوج بالفطنة من جلاسه والمعنيين بملاذاته الجليلة، يستطرد الحاضرون في كنف وليمتهم الحوارية المسرحية المنعقدة على طاولة نصف مستديرة، وأيضا (كلٌ يدلو بدلوه)، وفق طريقته الاستنباطية، أو على ضوء ما تملية علية وجهته المذهبية المسرحية، ووفق طرائزية مخاصب مفاتنه المنهجية، أو ضمن مناخات رحلته الفنية العتيدة في كنف خيمتنا الكبيرة (المسرح العراقي)، وبخاصة حينما يستقر الحديث داخل رحم المحاولات الاستثنائية الحداثوية، التي طورها ووضع أسسها، وأناخ برحال بصمته الخالدة على ارض جبلتها الجليلة الأولى، ورسم فوق لوحتها المتسامية النبيلة خريطة ملمحه المسرحي المتسامي، ونَظَـرّ بل وعمل جاهدا، وبمهنية مخلصة، وبحرص فني تقني عالي، ومعملية صادقة، ونَـذرَ جلّ حياته، لصياغة هذا اللون المميز الراقي للمسرح العراقي، حينها يروح الغادي، ويغدو الرائح، وتتطاير الأسماء العمالقة الكبيرة فوق خشبة تلك الطاولة النصف دائرية، التي لا يستقر فوق متنها الهزيل (استكان الشاي) فكيف باستقرار الأفكار المتضادة المختلف عليها، أو المتفق حولها ضمنا، فوق أضلعها الخشبية الهزيلة، ويحتدم المعترك على إيجاد ملمح يشكلن وبوضوح أسماء العلامات الفارقة والهامات العملاقة الكبيرة الذين أسسوا لذلك الإبهار الجليل، وناضلوا فنيا، وحياتيا وفكريا، لعلو كعب المسرح العراقي بهذا الطراز الرفيع.

وفجأة يردد أحد الحاضرين بزهو مأخوذ بالنشوة، أسم الراحل المخرج المبدع الكبير (عوني كرومي) وراح يتطاول على الرقاب علوا، وفوق المنصات أرتقاء، وكأنه يحلق في ذاك البعد النائي للإبداع، بعدها وقف فوق طاولتنا الفقيرة الخجلة المُسومة بالبطالة، حينما خرج الأسم من فيه، وكأنه قد فاز علينا في برهنة نظريتة التوثيقية موضوعة حواريتنا السالفة، حينها تسمرت رعشات الاسترخاء المعهودة في أبداننا، وأشرقت الوجوه، وراح الألق يتراقص داخل المحاجر، بغبطة متمازجة بحزن جليل يملأ المآقي دمعا شفيفا ً، وراحت حدقات العيون تبحث عبر عبق مناخات المسرح واريج جدرانه العتيقة المتألقة، عن ذلك الوجه الودود، صاحب القلب الكبير، المعطر برائحة أم الربيعين التي ولد في ملاذاتها الخصبات، هذا المبدع الكبير، الذي أمتاز بتلك الرؤى الخلاقة، والملامح الفنية الغنية، والعمق العلمي التنظيري، والذي راح يطرق بزهو مفعم بالحب، مفاتن خشبة المسرح العراقي والمسرح العربي والعالمي بالاجمال بينما راح ذلك الصمت المقدس يغلف المكان برمته، بحثا عن ملاذاتنا الفائتة، في ملامح ذلك الراحل البمدع الكبير، الذي انعكست صورتـه ( الحاضرة - الغائبة)، المشعة بالحياة، على ملامحنا الهائمة بحبه، والمفجوعة بلوعة رحيله المفاجأة، راحت النظرات ترسم لنفسها ألوانا برائحة المسك، لتحيلها الى هول ٍ ًمن شوق أسطوري لرؤية شيبته الجملية الجليلة، التي طرزت ملامحه المجبولة بالكبرياء والألق المسرحي الخلاق.

راح الجمع الخير من الحاضرين على طاولة الحوار، التي تسامت مفتخرة للتو، وهم ينصتون بإبهار عجيب مأخوذ بالطيبة العراقية لصدى صوت الراحل المخملي، الآتي من تلك الضفة النائية البعيدة، السابحة في بون تلك الماهيات النبيلة القصية، وروحة الجليلة التي سكنت بطمأنينة أخاذة، في ذمة الخلود، وهي تصرح بثبات ملحمي أزلي، بما يعني لها المسرح: ــ

•· كان وما يزال العمل المسرحي بالنسبة لي، فعل حياة وبقاء، وتطور، وسؤال دائم عن الكينونة والوجود، وعملية ابداع الذات، الى جانب كونه، رحلة ومغامرة في المستقبل، بهدف الوصول الى الحقيقة.. ان المسرح لا يعتمد على المفاجأة والصدفة، وانما يعتمد على التجربة.

هكذا كان ينظر الراحل ( عوني كرومي) لفن المسرح، ويتحدث عنه بصوت غير مبحوح وعالٍ يسمعه كل من حضر الصالة المسرحية والفكرية الفائتة والحاضرة، أو اختبأ بين ثناياها الخافتة الخجلة، او دس رأسه خلف الكواليس، أو راح مولياً خارجها.

نعم انه ذلك الراحل الذي فجعنا برحليه، بل فجعت برحليه خشبة المسرح العراقي، وفجعت به النظرية الحداثوية المجددة للمسرح العراقي، هو ذلك الطود المسرحي الشامخ، الذي تربع في قلوبنا كواحد من أعظم المخرجين المبدعين الذين أسسوا لحركة التجديد والحداثة في المسرح العراقي، وهدف الى خلق الابهار العرضي والتنظيري، لأنه فنان استثنائي خلاق، لا يؤمن أو يعتمد البته على المفاجأة، لان المسرح، لا يتكأ على المفاجأة او الصدفة المحضة للنجاح الآني الزائل، ولأن مناهجيته وشرائطه العلمية المختبرية المتجددة، تعتمد بالكلية على عملية الخلق والإبداع، والإخصاب، فالمفاجآت لا تنمي إيقاع ديمومته التكوينية الإبداعية، واستقلاليته المتفردة، بل تسقطها في مرحلة ما، في أتون حضيض المفاجأة الكبرى ( الفشل) والانزواء، لكن عملية البحث العلمي الجاد، والاستقصاء الاستقرائي المتنامي البحثي العلمي، والتقصي الفاعل في إيجاد صور وأشكال مُتخلية جمالية جديدة، هي التي تُصعد وتنمي مهام التفسير والتحليل والتأويل، في متن القدرات الاستنباطية داخل الخطاب المسرحي، لأذكاء الملكة الفنية التي تفرض نفسها بشكل حضاري لتسجل أسمها باستثنائية نجيبة منتقاة، ضمن سجل الحركة المسرحية الدءوبة والتجربة الحداثوية المرتكزة على قيمة النجاح الانتخابي النخبوي، لذات الفعل المسرحي والانساني، لتُنشط من خلال تلك الرؤى الفنية الاستاتيكية المتجددة المولودة من رحم القيم المسرحية العالية، والمنتعشة في كبد إيقاع الحياة وديمومتها المعاشة اليوميـة، لتطوير الحاضرة العرضية الفكرية المسرحية الجمالية، لان المسرح جميل، بل ومجبول بالجمال.

ولد المبدع الكبير الراحل ( عوني كرومي) عام 1945 في مدينة الموصل ورحل عن عالمه ( خشبة المسرح) عام 2006، بعدما نقش اسمه الجليل باحرف نيرة ماسية، طرزتها فوق سجادة المسرح العراقي الفخمة، أنامل ذات الخشبة التي اشتق من عبقها واريجها ملامحه العبقرية الفطنة والتي كانت حاضنة مخصبه الابداعي الدائم، وتنفس شذاها على مدى اربعة عقود ونيف قضى جلها بالمتابعة، والاستقراء، والتحليل، والتأمل في مجاهل الجمال اللا متناهي.

تخرج الراحل من معهد الفنون الجملية / بغداد عام 1965، نال شهادة البكلوريوس من اكاديمية الفنون الجملية / بغداد عام 1969، حصل على الماجستير / علوم مسرحية / جامعة ( همبولدت) / برلين / المانيا عام 1972، نال شهادة الدكتوراه من معهد العلوم المسرحية جامعة ( همبولدت) / برلين / ألمانيا عام 1967، شارك في العديد من الحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الأعوام 2002 - 1972.

دَرسَ في العديد من الجامعات والكليات والمعاهد الفنية المتخصصة العراقية والعربية والالمانية بين الاعوام 1977- 2002، تخرج من بين خلجات ملامحه العبقرية، العديد من الأسماء الكبيرة التي أصبحت قامات عالية في المسرح العراقي والعربي والعالمي.

أخرج الراحل الكبير ( عوني كرومي) أكثر من سبعين عملا مسرحيا، ياتي على راسها، كاليكولا، وغاليلو غاليليه، وكريولان، انتيكونا، وترنيمة الكرسي الهزاز، التي حصدت العديد من الجوائز، ومأساة تموز، والانسان الطيب، صراخ الصمت الاخرس، الغائب، كشخة ونفخة، وفطور الساعة الثامنة، في منطقة الخطر، القاتل نعم القاتل لا، وتداخلات الفرح والحزن، وفوق رصيف الغضب، وحكاية لاطفالنا الاعزاء، بير وشناشيل، المحفظة، المسيح يصلب من جديد، والصمت والذئاب، عند الصمت، وفي المحطة، الشريط الاخير، المساء الاخير، الطائر الازرق، وفاطمة، والسيد والعبد.

نال الراحل الكبير ( عوني كرومي) العديد من الجوائز العالمية والعربية والعراقية، منها في مهرجان بغداد المسرحي، مهرجان القاهرة المسرحي، مهرجان قرطاج المسرحي، مهرجان برلين المسرحي، حصل على لقب ( وسيط الثقافات) من مركز ( بريشت) في برلين، توفي في مدينة برلين بألمانيا، في فجيعة صباح يوم 28 / مايو /2006.

لنرفع أغطية الرأس التي نعتمرها، ونحن في جلال هذا الألق العراقي المسرحي المتفرد، ونخطو خطوات واثقة، يملأها الزهو، والكبرياء، والفخر، ونحو مقدمون لإلقاء تحيتنا الأخيرة المتأخرة، على روحة الطاهرة الجليلة، ولننحني جميعا، إجلالا في حضرة جثمان هذا الفنان المخرج المسرحي المجدد المبدع الكبير الخلاق (عوني كرومي) المسجى بألق مبهر، وعلو وشموخ، داخل ذاكرة المسرح العراقي الجليلة.