عاتكة الخزرجي في آخر احاديثها بحترية الأسلوب غنائية النزعة

عاتكة الخزرجي في آخر احاديثها بحترية الأسلوب غنائية النزعة

لهيب عبدالخالق

قبل ان تغادرنا الى لندن.. في رحيلها الأخير.. عز على نفسي ألا أودع استاذتي.. ولم أكن اعلم بانه الوداع الأخير.. لكن قلبي كان يخفق, هذه الشاعرة.. سيدة الشعر العربي وان لم يكن فالعراقي.. تتلمذت على يديها, فحفظت الاوزان..

وشدت على اذني وانا اخون اذني الموسيقية اذا ما شططت عن الوزن وطاش صواب قصيدتي.. سجلت لها حوارا كنت اريد اضافته الى مجموعتين من الحوارات واللقاءات النادرة مع ادباء, مفكرين وساسة.. لكن هذا الحوار كان الاكثر ايلاماً.. اليوم اخرجه من مكمنه.. ليقرأ الجميع سفر الشاعرة الرقيقة الجميلة التي خطفها الحصار. عاتكة الخزرجي خزرجية.. ولكنها لا تكره الاوس.. خزرجية من الانصار الذين دعموا تأسيس الدولة العربية الأولى, ولايزالون.. خزرجيين شغلت باريس وحملت عباءة التاريخ العربي معها الى السوربون, وكانت أول شاعرة عربية تنافس أمير الشعر العربي شوقي في مسرحيته (مجنون ليلى) وهي في الخامسة عشرة من عمرها. قال عنها الدبلوماسي الجزائري الاخضر الابراهيمي: (انها الموهبة الخارقة التي بهرت الشرقي والغرب), وحظيت بتكريم عدد من رؤساء الدول العربية بينهم الرئيس الليبي والحبيب بورقيبة وسلطان عمان والرئيس العراقي وغيرهم كثيرون..

انها الدكتوره الشاعره عاتكة وهبي الخزرجي أحد ابرز وجوه الادب النسوي في الوطن العربي وصاحبة المجموعات الشعرية العديدة والمتعدده الجوانب.. الشهيرة..

عاشقة بغداد حين طلبت مقابلتها في جنتها الصغيرة.. بيتها الانيق, كانت مشغولة بترتيب وتصنيف اوراقها وكتبها.. كأنها كانت متأكده من انها ستعود.. تصف ما كتب عنها بكل لغات العالم وصورها الارشيفية التي تجسد حياتها الادبية والشعرية على مدى نصف قرن بالتمام والكمال تمهيدا لتسجيل ندوة موسعة عنها بالفيديو تستغرق ثلاث ساعات.. حضرت الندوة. وامتدت يدي الى احدى المجلات العربية التي كتبت تقول عنها: ولاتزال بغداد الرشيد واسحاق الموصلي وزرياب تتفتح في شعرها كريحانة متألقة, ان لهذه المدينة الخالدة سحراً لاتدركه الا عيون عشاقها, والخزرجية عاشقة مقيمة ببغداد لاتطيق فراقها, بل لا تصبر عليه: بغداد إن أزف الوداع وصاح بي داعي الرحيل منادياً بنواك وشددت من فوق الحشا واستعبدت عينان لم تدر البكا لولاك لهواك زادي بل لقاك تولهي والعيش ان احيا على ذكراك لولاك يا بغداد ما اخترت النوى وتركت امي والحمى لولاك وليست هذه العاطفة المتدفقة والحب الملوع بكثير على مدينة السلام والحب.. مدينة العاشق الخزرجية, ذلك لان عاتكة تملك قلباً يعصره الشوق وتطفح منه العذوبة والرقة. وليس غريبا ألا يجد القارىء فرقاً بين حب عاتكة لبغداد وبين حبها لأمها, الأم المدينة, والأم الجد.. معينان يتفقان في قلب الشاعرة الخزرجية. شعري للآخرين وذاتي.

وحين نسأل د. الخزرجي عن تأثير العباس بن الاحنف على شعرها, ولمن تكتب الشعر..؟ تجيب بعذوبة ورقة:

ــ اكتب الشعر للاخرين ولذاتي, لاخرج عما في داخل نفسي من احاسيس, اما تأثير الاحنف على شعري فيعود الى انني من أسره دينية, وقد نشأت في بيئة محافظة تعنى بالقيم وتعتد بالمثل ووجدتني منذ نعومة اظفاري وانا احس بالايمان يجري في عروقي, كما أحس ان الله محيط بي من كل جهة وحين اكتب شعري ارى هذه القوة الخفية تملي علي ما اريد ان اكتبه. اما العباس بن الاحنف فشاعر احبه, وحبي له دفعني لكتابة اطروحتي في الدكتوراه عنه وقد نلتها من جامعة السوربون في باريس.

* لنعد الى شعرك الذي يتناول قضايا العرب الكبرى.. أين نجدها فيه؟

ــ انا أول من دعا الى وحدة الصف في قصيدتي (وحدوا الصف), وانا أول من دعا ومازال يدعو الى وحدة العرب ويستفز الهم وقصيدتي (عيد العرب) شرفتها ليبيا العربية بأن جعلتها في مناهجها الدراسية. * ما هى المكونات الأولى لشعرك, وما المؤثرات فيه؟ ــ ان القارىء لشعري يلحظ أول ما يلحظ فيه ذكري الدائم لله سبحانه فلا تكاد تخلو قصيدة منه, والاثر القرآني روحاً وشكلاً واضح فيه فهو موشى بآية وانت تحس ان الله سبحانه مهيمن في اجوائي الشعرية من الفها الى يائها. واسلوب شعري كما لا يخفى هو السهل الممتنع, المطيع المعجز, القريب المحال, بلاشك الاسلوب الأول هو النمط الذي يجب ان يشار اليه, وبكلمة اخرى فانا بحترية الاسلوب لاني غنائية النزعة, واسلوب البحتري يمتاز بالماء والطلاء والرونقة.. ولعمري تلك هي سمات الشعر الصافي الاصيل.

* لاشك انك جددت في الموضوع الشعري.. كيف تقومين ذلك؟

ــ التجديد ضرورة من ضرورات الحياة فان لم يكن فالحياة اذن موت متجدد, وانني من دعاة التجديد في اعتدال. فالتجديد يجب ان يقع في جوهر الشعر, اعني في اغراضه واساليبه والحذر كل الحذر من ان يقع في الاقلال بعموده فيعود تخريبا وهدماً. اما تقويم فني الشعري فليس ذلك الي انما هو للملايين من جمهرة القراء وللتاريخ بعد ذلك.

*وما موضوعك المفضل في الشعر؟

ــ لا موضوع مفضل آخر عندي لاني أغرف من نبع روحي, فحين الانفعال يتدفق الشعر صافيا وروبة الشعر تملي وانا اكتب بسرعة تفوق الارتجال وبذلك فانا اكتب بقوة الالهام الروحي واستمد فني من الطبع لا تطبع وهو الهام لاتصنع ومن هنا جاءت قوته وشدة تأثيره في سامعيه.

* يصفك النقد بانك شاعرة مقدسة فما رأيك بهذا الوصف؟

ــ ألا ما أجمله من وصف وما انبله.. انه الوسام الذي يحق لي أن ازدهي به واباهي الزمن.. تكريم لمشاريع مؤجلة

* اريد التعرف على أعمالك؟

ــ في الحقيقة انني الان احيا أجمل سنين عمري الادبي. فالانتاج الشعري وفيد والحمد لله وربة الشعر تتنزل من عليا سماواتها على كل حين ولحظة حتى انه ليخيل الي ان بها انجذاباً الي وتعلقا بي وما اسعدني بذلك. وبعد مجموعتي التي صدرت عام 1986 اصدرت خمسة دواوين هى (ديوان نوراني) مدراه العشق الالهي وهو فريد في بابه يضم قصائد روحانية نورانية تقارب المئتي قصيدة وقد كتبته بخطي وسيطبع مخطوطا واراني لم أسبق الى الغرض والفكرة من قبل وهو حبيب الى روحي اثير لدي, وديوان يضم قصائد شتى في اغراض تفلسف بعمق الحياة والاحياء اسميته (قصائد آخر) وصفحاته قد تصل الى الالف صفحة, وديوان (من القلب الى القلب) وهو باب واسع لانه يعكس شفافية الروح ومدى محبتها لبني البشر على اختلاف اوزانهم والوانهم, ومسرحية (علية بنت المهدي) الاميرة الشاعرة الموسيقاره المغنية, ومضات في حياة المتوكل الخليفة العباسي العظيم وقد ثمنته الجهات العليا في الدولة فخشيت عليها من الضياع فصورتها وكتبتها بخطي في مجموعات انيقة لتطبع فيما بعد اذا كتب لها الخروج الى النور فطالما طالبني القراء على امتداد الوطن العربي بذلك وعسى الله ان يتيح الفرصة لظهور هذه الآثار كلها. هذا في المجال الشعري, اما كتبي الاخرى التي تضم بحوثي النثرية في الشعر والشعراء فقد خططتها كلها ايضا بخطي وصورتها جميعا الدولة كما فعلت باعمالي الشعرية حفظا لها وصوناً واعتزازا بمخطوط هو بخط يدي وهى عديدة منها كتب (نسيب الشريف الرضى) وهو مخطوط بخطي ومطبوع ويضم شعر الشريف كله في النسيب, و(من روائع الشعر العربي) و(من روائع الشعر الفرنسي), وهو مختارات لمشاهير الشعراء مترجمه من قبلي ومخطوطة بخطي واخيرا (في اجواء الاثير) مجموعة بحوث في الشعر والشعراء مما اذيع وتلفز وغير ذلك. عاشقة الوحدة بقي ان أقول ان الدكتورة الشاعرة الخزرجية كانت من عشاق الوحدة مذ كانت, وتقول: ــ بها عرفت الله ومن بعد عرفت نفسي.. هذه النفس العامرة بالنور, المشرقة بالايمان الفياضة بالحب, العائشة للخير وبالخير, فانا منها ابداً في سعد دائم وشباب روحي وجسدي متجدد, وهل يثقل الزمن على من يعمر الشباب كيانه ووجده..! ورحلت سيدة الشعر العربي.. في دار غربة وعيناها على بغداد.. هواها وعشقها..

عن موقع جريدة (البيان)