سالم الدباغ.. السواد لي وللآخرين البياض

سالم الدباغ.. السواد لي وللآخرين البياض

صلاح عباس

لا اعتقد بأن هناك فنانا عراقيا استثمر طاقة اللون الاسود مثل الفنان سالم الدباغ. فمنذ منتصف العقد السادس من القرن الماضي استطاع الفنان, ترسيخ اسمه ضمن المشهد التشكيلي في العراق, محققا حضوا فنيا منظورا من خلال مشاركاته في معارض الفن التشكيلي المعاصر والبينالات العالمية المهمة,

ومن خلال اسلوبه الفني المميز, ذلك الاسلوب الذي مهد له لكي يلج عالم الفن على نحو فريد وغير مسبوق. ولو اننا تصفحنا ملفاته وسفره الكبير لوجدنا المزيد من الاعمال الفنية التي تعد من نفائس الفن التشكيلي في العراق,المشفوعة بسبل الاشتغال الفني والتقني المختلف, مرورا بالمزيد من التجارب الهامة, المؤشرة على الرؤية الفلسفية من الوجود والحياة والكون, وكذلك المواقف من الاحداث المتسارعة والمتغيرة بشكل ديناميكي في العراق والعالم.

قلنا قبل قليل بأنه أكثر فنان عراقي استثمر طاقة اللون الأسود, ومؤكدا بأن اللون الاسود له دلالات كثيرة وفي معاجم تفسير معاني الالوان توجد الكثير من الدلالات ولكنها كلها تقبل التأويل والتفسير على انحاء شتى. واعتقد ان (مثيولوجيا) الشعوب حافلة بضروب من التفسيرات المختلفة, بيد ان سالما الدباغ, حين كرس تجاربه الفنية بتوظيف اللون الاسود, ربما يتأتى من كونه فنانا كرافيكيا, حيث ان الفنون الكرافيكية ومنذ مرحلة العقد السادس صعودا للعقد السابع كانت سبل الاشتغال عليها تتم بالوان محدودة وغالبا ما يتم استخدام اللون الاسود لأنه لون متسيد بين جميع الالوان الاخرى المستخدمة, لأنه يشكل تباينا لاسيما اذا تم وضعه على ورقة بيضاء, ويعرف الجميع بأن الفنون الكرافيكية تسمح باستخدام جميع الالوان, دون تفريق ذلك لاتساع التقنيات والحلول الفنية, نحن هنا, نضع مقتربات قد تسهم في ايجاد تفسير منطقي يسوغ لنا ايجاد المسببات التي تدفع بالفنان سالم الدباغ لتوظيف اللون الاسود, فهل استطعنا العثور على المغزى؟

لا اعتقد بأننا بلغنا المغزى الحقيقي فثمة مؤثرات خفية وسرية وذاتوية واخرى غير التي ذكرناها آنفا ولعل انبهار الفنان باللون الاسود يتأتى من خلال عشقه للصورالفوتوغرافية (بالاسود والابيض) او اعجابه الشديد بالبث التلفزيوني القديم. ومهما خاض المتلقي لايجاد تفسير لمسببات توظيف اللون الاسود في اعمال الفنان سالم الدباغ, فانه قد يجد بعض الحلول التي قد يتصورها منطقية ولكن المتلقي, ربما يلامس اطراف الحقيقة, غير انه لا يستطع الدخول في جوهرها, لأن سالم الدباغ يتمتع بعقل راجح وخيال طليق ومعرفة مستوفية بالفنون والثقافات والآداب المختلفة ولأنه اختار السكن في الفن وغالبا ما يفكر بطريقة فنية حاسمة ومتغايرة عن الجميع.

ان الفنان سالم الدباغ, وعلى مدى مسيرته الفنية الطويلة والممتدة لأكثر من نصف قرن اشتغل على تجارب فنية مختلفة ومتنوعة, وفي مراحل سابقة كان مهتما بتوليف تراكيب مجسمة ضمن بناء العمل الفني محققا تواصلات معمارية وتصميمية على درجة عالية من الاناقة والترتيب والنظام, وتارة اخرى رسم لوحات هندسية محسوبة الابعاد ولكنه لا يترك سبل الاشتغال الهندسي بجعله قائما بذاته ولذاته ولكنه يضفي عليه طابعا حسيا مختلفا, اذ ان الفنان لا يترك عمله رهينة الابعاد الهندسية المحسوبة مسطريا وانما يعمل على مزاوجة الجوانب العقلية والحسية في آن معا, فكيف يكون ذلك؟

اننا سنغض الطرف عن منتجات الفنان السابق وتجاربه المختلفة. وسنؤكد هنا على كل ما نستطيع الظفر به وعن الكيفيات الحسية والتفكرية التي اشتغل عليها الفنان سالم الدباغ في لوحاته الاخيرة سنذكر بعلم عناصر الفن, هذا العلم, الذي يدرس اساسيات بناء الاعمال الفنية وسنضيء اهم النقاط السيادية الخاصة ببناء أي عمل فني ومهما يكن, ومن خلال النظرة العمومية المفضية الى النظرة الخصوصية, المعنية بفن الفنان سالم الدباغ, وعندما نذكر جملة (علم عناصر الفن) فإننا لا نقصد ما جاء به الفنان الراحل (فرج عبو) وانما سندرس منهج الفنان سالم الدباغ على وفق النظريات الفنية الحديثة وبخاصة ما ورد ذكره من قبل الناقد (استولنتيز جيروم) و(سانتيانا) و(اندرية ريشار) أي اننا سنحاول اتباع المنهج العلمي المتعارف عليه من قبل النقاد والدارسين للفنون. ومن المعروف بأن الفن يتشكل من ثلاثة عناصر وهي: المواد الخام ويطلق عليها بالمواد الملموسة والشكل والتعبير فالمواد الخام لدى سالم الدباغ متنوعة وكلها مواد تقليدية ومصنعة خصيصا للرسم ويستخدم الفنان الالوان الزيتية والاكرلك والفحم والمذيبات والمثبتات وانواعا من ادوات التنفيذ مثل الفرش للرسم وسكاكين لسحق الالوان والرولات لحدل الالوان, ولأنه فنان خاض غمار التجريب وعرف اسرار المواد وتحولاتها وسبل ادائها المختلف, وفي البدء فإن الفنان يجري على السطح التصويري تحضيرا واجراءات خاصة وليس من السهل معرفتها فنيا وتقنيا والفنان يولي اهمية خاصة للمواد الخام ليس لأنها تمثل وسائطه لنقل ما يعتمل في ذاته من افكار واخيلة واحاسيس وانما لان للمواد سحرا وتأثيرا خاصين وتتأتى أهميتها لكونها عنصرا اخذا كفايته بذاته ولذاته.

ان عنصر الشكل لدى الفنان سالم الدباغ يتم من خلال المزاوجة بين الجانبين العقلي والحسي, ففي الجانب العقلي انه يضع صيغا معمارية وهندسية محسوبة الابعاد وغالبا ما ينجذب لأشكال المربع والمعين, وفي لغة التأويل يمثل المربع الجهد الانساني المختلف عن الجهد الطبيعي أو ان دوال الاشكال الهندسية ماهي الا اشكال من صنع البشر. ولكن في دراسة مرجعيات الشكل المربع او المعين سنجد ان الارث الثقافي في الحضارات الرافدينية القديمة, بأنه سياق من العمل المعتاد, فالأرض التي يوضع عليها البيت او المعبد او الواجهات او الالواح النذرية وسواها, كلها تأخذ تشكيلات مربعة او معينية, فمجموع زوايا المربع هي نفسها زاوية الدائرة ومن هذا المنطلق الذي يقبل الاحتمال والتشاكل والتغاير على نحو ديناميكي مستمر لان شكل المربع يتضمن رؤية منفتحة ويتضمن ايضا ابعادا سكونية وحركية في ان معا. وعلى هذا الاساس, فإن سالم الدباغ يزاول لعبة بناء وتخريب الاشكال, لأنها وبكل احوالها تمثل حواضن مناسبة لاستيعاب الرؤى والمواقف وكل الحالات الحسية والشعورية والحدسية وقد يمكن تضمين النظرة الاستشرافية المدركة لمجريات الامور في الغد.

وعنصر التعبير لدى سالم الدباغ يتبلور في مفاصل متعددة, ولأنه يرسم بطريقة تجريدية, فهذا لا يعني انعداما مطلقا للوحدات الصورية وليس بالضرورة ان يكون الفنان متبنيا لأفكار دينية او تصوفية, واجد بان سالم الدباغ يتمتع بأفكار علمانية حرة, وقد درجت العادة على تنسيب الاساليب الفنية المجردة للأفكار الدينية والروحانية وغير ذلك.

حتما, ان سالم الدباغ يؤمن بالفكر الروحاني والديني ولكنه لا يوظفه توظيفا مكرسا كما كان يشتغل شاكر حسن ال سعيد, ويبدو بأن معطيات الحياة اليومية في العراق والمتغيرات السياسية والاحداث الملتهبة والمفارقات المدمرة كلها تدخل في باب عنصر التعبير لدى الفنان سالم الدباغ, وكما قال الشاعر عبدالحسين الحيدري (السواد لي وللآخرين البياض) فإن كل قصود وغايات الفنان سالم الدباغ تدخل من باب الفن المعبر عن الذات على الرغم من كون هذه الذات متمازجة مع الكوني والحياتي والنظرة الاممية المسالمة, المهتمة بالتاريخ البشري والعلاقات الاجتماعية والوعي الخاص بالفنان ورؤيته الخاصة المدركة للقيم الفنية والادائية, تخطيطا وتلوينا وصناعة للاشكال, لكنها جميعا تمثل خصائص مؤكدة على الذاتوي قبل كل شيء, فإذا قال الشاعر (عبد الحسين الحيدري) كلمته البليغة فهذا يعني بان ممتلكات الفنان الحسية تكون في الاستخدامات اللونية والخطية، فأي جزء ومهما ضؤل فانه يمثل جزءا من نص مفتوح يقبل القراءة على انحاء متعددة فهل ان الاشتغال على منوال علم عناصر الفن تكفي لانتاج عمل فني ناجح؟

لا بد ان تسوغ حقائق الفن وكل العناصر المتداخلة في بنيته على اسس تخليق وحدة الانسجام الموضوعية, تلك الوحدة المؤاصرة بين عناصر: المواد الملموسة والاشكال والتعبيرات, وسالم الدباغ فنان منتبه, واحد اهم سماته انه يستطيع خلق اجواء من الانسجام بين كل المفردات والوحدات الصورية وسبل الاشتغال الفني والتوصلات التقنية وقيم الموضوعات التي يروم التعريج عليها, وبذا فان الامر الهام الذي يتوق بلوغه هو خلق وحدة الانسجام الكلية بين مختلف عناصر العمل الفني ضمن اطر تتداخل بينها وحدة انسجام موضوعية.