قضية رسوم البلديات 1931 وسقوط أمين العاصمة

قضية رسوم البلديات 1931 وسقوط أمين العاصمة

رفعة عبد الرزاق محمد

في 23 آذار 1930 تألفت وزارة نوري السعيد الاولى خلفاً لوزارة ناجي السويدي، وكان في مقدمة اهدافها إجراء انتخابات نيابية جديدة ليتسنى لها عقد المعاهدة العراقية البريطانية الجديدة، فتولى السعيد ايضاً منصب وزير الداخلية للسيطرة على الأضاع العامة. وقد أختار السعيد لمنصب امين العاصمة السيد محمود صبحي الدفتري لخبرته واسرته في العمل البلدي منذ تأسيسه في بغداد عام 1868.

صدرت الأرادة الملكية بتعيين الدفتري أميناً للعاصمة في 9 نيسان 1930 واستمر بمنصبه حتى 6 ايلول 1931، وهي المرة الاولى له بهذا المنصب اذ تولاه مرة ثانية بعد نحو سنتين، وهذا ما سنذكره في الفصل الثالث من هذا الكتاب. وبسبب الثورة الشعبية ضد رسوم البلديات التي أقرتها الحكومة. فقد أنتهت أمانة الدفتري الأولى على النحو الذي سنذكره. وكان لوزير الداخلية الدور الكبير في عزل الدفتري وفق قانون ذيل قانون إنضباط موظفي الدولة، ومن الطرائف ان الشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي استقبل هذا العزل بقصيدة ساخرة:

يا كرخي يا مال العمة أتعذيل امين العاصمة

وأتذيل كناية عن شموله بقانون الذي!

لما احتل الانكليز بغداد عام 1917، وضعت السلطات العسكرية المحتلة بياناً بالرسوم التي تستوفى من الأهالي لحساب البلديات، فبقي هذا المرسوم معمولاً به حتى أواخر عام 1930، وكثيراً ما كانت السلطات تتغاضى عن الجباية لمختلف الأسباب. فلما جاءت وزارة نوري السعيد الى دست الحكم في 23 آذار 1930 أقرت لائحة قانونية لرسوم البلديات، وقد أقر المجلس النيابي هذه اللائحة في 10 مايس 1931 ثم صدرت بأرادة ملكية في 2 حزيران 1931، وقد قوبل هذا القانون بسخط عام من قبل الشعب، ولاسيما العمال، فعقدت الأجتماعات ونظمت المظاهرات المستنكرة لصدوره، بسبب الوضع الأقتصادي الصعب في تلك الفترة

وفي يوم 5 تموز 1931 أضربت بغداد بجميع مرافقها الحياتية وأقفلت اسواقها ومحالها التجارية الكبيرة والصغيرة عن بكرة أبيها، واستمرت الحالة على هذا المنوال أربعة عشر يوماً، وهو اضراب شامل لم يشضهده العراق من قبل. وسرت هذه (الثورة الصامتة) كما وصفها المؤرخون الى سائر المدن في العراق، كما وقعت بعض المصادمات مع الشرطة اسفرت عن حوادث مؤلمة.

في البداية حاولت الحكومة إفهام الناس فائدة قانون رسوم البلديات، وخولت وزير الداخلية الغاء بعض الرسوم او تخفيفها، وبعد اعلان الاضراب العام اذاعت بيانها بأنها لاتكره أحداً على إستئناف عمله ولاتتدخل في حرية الناس، وأوعزت الى أمانة العاصمة بفتح منافذ لبيع المواد الغذائية المختلفة باسعار متهاودة، كما اوعزت الى سائقي السيارات الكبيرة تأمين النقل في العاصمة الذي توقف كلياً. وقد حاولت السلطة اكراه فريق من المضربين على فتح محلاتهم كالصيدليات، لكنها أخفقت في ذلك.

وقد حاولت أمانة العاصمة وبعض الجهات التفاوض مع المضربين وبعض رؤساء الجمعيات، غير ان الحكومة فوجئت بأن مطاليبهم تجاوزت الغاء رسوم البلديات الى مطالب اخرى كألغاء قانون ضريبة الدخل وإعادة العمال المفصولين واطلاق سراح كافة الموقوفين جراء الاضراب والمصادمات والاحتجاج على اجراءات الشرطة، ولما تفاقمت القضية قررت الحكومة اغلاق (جمعية اصحاب الصنائع) وامرت بتوقيف رؤسائها واعضاء جمعيات اخرى، فأكتضت السجون بالموقوفين، وأخذت المحاكم تطلق احكامها المختلفة عليهم.

وفي يومي 11 و 12 تموز 1931 وقعت مصادمات بين المضربين والشرطة في بغداد اسفرت عن نتائج مؤلمة، وكان المضربون والمتظاهرون يهتفون بسقوط الوزارة وبحياة الاحزاب السياسية المعارضة، مما دل على وجود أصابع سياسية شاركت في الأحداث. كما وقعت مصادمات في مدن عراقية اخرى.

ولما كان الملك فيصل الأول ورئيس وزرائه خارج العراق عندما وقع الأضراب، وبدأت القضية تسوء يوماً بعد يوم، فقد عاد رئيس الوزراء نوري السعيد الى بغداد يوم 15 تموز 1931 واجتمع برؤساء الجمعيات برؤساء الجمعيات، وكانوا رهن التوقيف، وعادت الحياة تعود الى طبيعتها تدريجياً، كما وضعت رسوماً لردع كل من يخل بالنظام العام او يمنع الأهالي من مزاولة اعمالهم او يشيع بين الناس اخباراً كاذبة، وعندما عاد الملك الى بغداد يوم 29 ايلول 1931 استقبل بكل مظاهر الفرح والزينة، بعد ان اعلن عن نجاح الوفد العراقي في مفاوضاته لبحث استقلال العراق.

وكان وزير الداخلية مزاحم الباجه جي قد أسندت اليه وكالة رئاسة الوزراء عند سفر نوري السعيد واند\لاع الثورة الشعبية. واتهمت جهات عديدة الباجه جي بأنه كان سبباً رئيساً في تفاقم الأزمة لسوء ادارته وقسوته. وعندما شرع المجلس النيابي في بحث هذه الأزمة، اشتد الجدال واستعملت عبارات قارصة، وحملوا على وزير الداخلية الباجه جي حملات شديدة الذي لم يستطع المواجهة، حتى ان مجلس أمانة العاصمة تقدم اعضاؤه باستقالاتهم احتجاجاً على تصرفاته ومنها أمره بعزل امين العاصمة محمود صبحي الدفتري، كما قدم رئيس مجلس النواب جميل المدفعي احتجاجاً على ما فعله وزير الداخلية مما كان سبباً في توسع الاضراب، وقراراته في عزل الموظفين الاكفاء ومعاقبة آخرين، وتورطه في قضية (المكاتيب السرية) التي عدت قذفاً في الملك وامين العاصمة.

وفي 17 تشرين الاول 1931 أصدر الديوان الملكي كتاباً يرى فيه ان الأزمة انتهت وإعلان الغاء مرسوم رسوم البلديات. وفي اليوم التالي رفع نوري السعيد كتاب استقالة وزارته الاولى ووافق عليها الملك، وأوعز الى السعيد تأليف وزارة جديدة لتكملة الجهود المبذولة لأعلان استقلال العراق، فشكلها في اليوم نفسه 19 تشرين الاول 1931.

لقد كانت أزمة رسوم البلديات سبباً رئيساً بسقوط وزارة نوري السعيد الاولى، والأطاحة بوزير داخليته الباجه جي وامين العاصمة الدفتري.

في 24 تشرين الاول 1931 كلف الدكتور فائق شاكر بتولي منصب أمين العاصمة بالوكالة، وبعد نحو شهر أسند المنصب الى السيد أرشد العمري الذي رفض المنصب وفضل ان يبق بمنصب مدير البريد والبرق العام، لكن الملك فيصل الاول اقنعه شخصياً بضرورة تسلمه أمانة العاصمة، فصدرت الارادة الملكية بذلك في 19 تشرين الثاني 1931، وبقي حتى 25 تشرين الاول 1933، وكانت هذه المرة الاولى له في منصب أمين العاصمة، فقد تولاها ثانية عام 1936.

عن كتاب (امانة بغداد في 100 عام)