في مقهى ( إبراهيم عرب ) .. ذكريات

في مقهى ( إبراهيم عرب ) .. ذكريات

بلند الحيدري

مقهى كان يجاور كلية (دار المعلمين العالية) ولم يكن آنذاك في بغداد غير ثلاث كليات هي كلية الطب وكلية الحقوق، وهذه الكلية التي تعوّد طلابها ان يملأوا مقاعد المقهى، ضمن حلقات صغيرة، ليراجعوا دروسهم فيها، وعلى الاخص في ايام الامتحانات،

وبهذه الخصوصية يتميز بكونه مقهى هادئا وعلى من يؤمه من غير الطلاب ان يراعي هذه الخصوصية، وكان من رواده من الطلبة يتناقلون فيما بينهم وبين اصدقائهم الكثير من النكات والنوادر التي كانت تروى عن صاحب المقهى، ربما كان اسمه (ابراهيم عرب) وتختلف آراء الطلبة بشأنه فمنهم من يحسبه رجلا ملتاث العقل، ومنهم من يعتبره رجلا حصيفا ادرك سر المهنة فجعل من نوادره سبيلا لرواج سمعة مقهاه ولأنه في غير هذه النكات والنوادر دقيق في آرائه واحكامه، ومن درس علم النفس من هؤلاء الطلاب ذهب في تحليله لشخصيته الى انه مصاب بعقدة النقص التي افرزت عقدة العظمة عنده، وقد سعيت مرتين اليه بصحبة واحد من الطلبة فما حظيت بلقائه، ومع ذلك فقد اعاد عليّ من صحبته ومن موقع المشاهدة بعض تلك النوادر فلكل شيء في المقهى سر عظيم، فهذا الكلب الاجرب القابع عند باب المقهى والذي لايقوى على الوقوف هو سبب الحرب العالمية الثانية، ذلك لان ابراهيم عرب كان قد قدمه هدية، وهو مرغم، الى السفير الالماني، وعندما سمع بذلك السفير البريطاني غضب غضبا شديدا على ابراهيم عرب لانه سبق له ان سأله ان يهديه اياه فبخل به عليه، ولم يشفع له اعتذاره للسفير البريطاني الذي اصر على ان يستعيده، فما كان منه الا ان استرده من السفير الالماني، فكان ان اتصل كل منهما بدولته وتأزمت العلاقات بين الدولتين وهكذا نشبت الحرب وان الكلب لايزال هنا.. ومن تلك النوادر ان الطلبة شاهدوا ابراهيم عرب ذات يوم من ايام الصيف القائظة يدخل المقهى راكضا وهو يلهث ويتصبب عرقا، فبادروه بالسؤال عن السبب، فقال: آه لو تدرون ماذا حدث.. لقد كاد فريق الكرة العراقي ان يخسر لولا انه اسرع والتحق به فأنقذه من الخسارة، وقد ضرب الان الكرة عاليا- اي نجمها كما يقول العراقيون- وجاء مسرعا ليأخذ استكانا من الشاي ريثما تهبط الكرة، ثم يتركهم راكضا ايضا بعد ان اخذ رشفتين من الشاي ليعود الى الملعب قبل هبوط الكرة..

وفي الباحة المفتوحة من المقهى ثمة شجرة عجفاء، مايكاد ابراهيم عرب يرى وجها غريبا يدخل المقهى حتى ينادي بأعلى صوته على صبي المقهى ليسقي الشجرة ابريقا آخر من الشاي، فهي تكره الماء وتحب الشاي، ثم يلتفت الى صبي المقهى ليطلب شهادته على صحة ما يقول والويل له ان سكت او لم يجد له مدخلا لقصة جديدة،، قل لهم.. قل لهم من اين جئت بهذه الشجرة ياعم ابراهيم.. فيرد عليه ابراهيم عرب: الكل يعرفون.. كلهم يعرفون ذلك.. لقد قلعتها من حديقة نوري باشا بسحبة واحدة من يدي ولم ينقطع اي جذر من جذورها.. ولكومة الحديد المرمية الى جانب المقهى، قصة ايضا، فقد كان القطار يمر يوميا مرتين بمحاذاة المقهى وعزّ على ابراهيم عرب ان يزعج القطار بصوت عجلاته وصغيرة اعزاءه الطلاب فكان ان طلب من سائق القطار تغيير طريقه فما امتثل لطلبه، ثم كتب لنوري باشا ويقصد نوري السعيد رئيس الوزراء- ناصحا اياه بأن يأمر بتغيير طرق القطار فلم ينتصح ايضا، فما كان منه الا ان خرج لمواجهته حتى اذا دنا القطار منه عاجله بركلة قوية من رجله جعلت كل قاطراته تتهشم ويدخل بعضها ببعض وهذه الكومة من الحديد الصدئ (المزنجر) هي كل بقاياه واذا حدث لواحد من الطلاب ان ضحك، وكان في المقهى رجل غريب، امتعض ابراهيم عرب وقام ينادي بأعلى صوته على صبي المقهى ليسقي الشجرة ابريقا آخر من الشاي، وان لم يضحكوا لما يرويه عليهم وهم (وحدهم) معه غضب عليهم لانهم ماعادوا يستلطفون حكاياته، اما ان يعلن اي واحد منهم بأنه لايصدق بطولاته الخارقة، فتلك هي الطامة الكبرى فسيظل لفترة طويلة غاضبا عليه ويأمر صبي المقهى بأن لايقدم اليه اية خدمة، الى حين يتشفع له بعض الطلاب المقربين اليه، فيغفر له زلته .

عن ( بغداد بين مقاهي الادباء وادباء المقاهي ) ، مجلة المجلة لسنة 1982