بين الصحافة و(مختار المحلة) إبراهيم صالح شكر وتعدد المصائب

بين الصحافة و(مختار المحلة) إبراهيم صالح شكر وتعدد المصائب

أريج ناظم سيالة

كان لاعلان الدستور العثماني في 1908م وتقوض أركان الحكومة المطلقة في الامبراطورية العثمانية وانحسار ظل الاستبداد، تاثيرا كبيرا في انتعاش الافكار وانتشار الصحف في جميع انحاء الامبراطورية العثمانية والعراق واحد من تلك الاقطار التي تخلصت من هيمنة الحكم العثماني وبدأ يسعى للمطالبة بحقوقه المهدورة يقوده بعض رجال الفكر والادب،

اذ استطاع العديد من اولئك الرواد الاوائل الحصول على امتياز اصدار صحف سياسية وفكرية وظهرت في هذه المرحلة التيارات المختلفة التي سمح ذلك العهد بوجودها وتذبذبت بين الحس القومي العربي والمحافظة الاسلامية وبين الانعطاف المتوازن بين العرب والاتراك وظهر شعور عميق وبدائي بضرورة التطور والالتحاق بالدول الصناعية والتمسك بالعلم ونبذ الاوهام والخرافات فكانت الصحف تعبر عن اراء اصحابها ومعتقداتهم ويلاحظ على صحف تلك المرحلة ان اغلبها كان يسترشد بمبادئ حزب الاتحاد والترقي في نشر دعواتها ووصف روفائيل بطي وضع الصحافة انذاك بقوله (ان الازدياد الفاحش في عدد الصحف مع نقص الخبرة والدربة عند محرريها جعلهم يشتطون في كتابتها ولاسيما في الجدل السياسي والحزبي فظهرت فيها مهاترات شخصية يندى لها الجبين) هكذا كانت احوال الصحافة العراقية بعد اعلان الدستور العثماني.

انطلقت الخطوات الاولى لإبراهيم صالح شكر في ميدان الصحافة وكان عمره 17 عاما فكانت البداية مقالات في جريدة (بين النهرين) و(النوادر) و ناصر في جريدة (بين النهرين) الدعوة إلى اللامركزية التي نادى بها حزب (الحرية والائتلاف) المعارض للحكومة ممثلة بجمعية (الاتحاد والترقي) اذ كان صاحبها من اشد المؤيدين لتلك الدعوة والمبشرين بها ويبدو ان ماكتبه في تلك الجرائد لم يكن ليخرج ماتراكم في نفسه من احاسيس وعواطف وثورة ونقمة على الواقع المعاش ولم يكن كافيا للتعبير عن طموحه وافكاره لذلك صمم على اصدار جريدة تكون ميدانا يحتوي الافكار والخواطر والاراء كلها التي تموج في ذهنه ومتنفسا لكل ماترسب في اعماقه من خلجات ومشاعر فكانت جريدة (شمس المعارف) عام 1913م الا انها لم تصدر غير بضعة اعداد فقط وفي العام نفسه اسند إبراهيم منيب الباجه جي صاحب مجلة (الرياحين) الى إبراهيم صالح شكر ادارة المجلة وتحريرها ومن المجلات الأُخرى التي كتب لها في تلك المرحلة كانت مجلة (النور).

ويبدو ان القدر كان يقف دائما بالضد من إبراهيم صالح شكرففضلا عن تعطيل الصحف التي كان يكتب فيها بعدصدور بضعة اعداد منها حمل العام 1915م محنتين جسيمتين كان لهما تأثيرا مباشرا على شخصيته محدثتين في الوقت عينه انعطافة حادة رسمت خطواته اللاحقة فيما بعد فقد ظل العراق وعبر تاريخه الطويل فريسة لوبائي الطاعون والكوليرا اللذين غالبا ماكانت تنقلهما القوافل التجارية او قوافل الزائرين للعتبات المقدسة عبر المنافذ الحدودية ومما ساعد في انتشارهما غياب الوعي الصحي لدى الاهالي نتيجة الامية والتخلف الذي كرسه الولاة العثمانيون الذين تعاقبوا على حكم العراق، فقد اجتاح وباء الطاعون بغداد في هذا العام وقيل انه وباء الكوليرا حاصدا ارواح الكثيرين ومنهم ثلاثة من بيت إبراهيم صالح شكر هم والده ووالدته وجدته لامه ولم يبق الاهو وشقيقته الصغيرة زبيدة ولم يكد يفيق من صدمته ويقوي عزيمته حتى نزلت به المحنة الثانية فقد دفع ثمن معاداته لحزب الاتحاد والترقي وكفاحه مع الوطنيين من اجل الاستقلال العربي عن طريق مقالاته التي اتسمت بالجراة والنقد الحاد للاتحاديين مما اقض مضاجعهم ونبههم إلى خطورة هذا الصوت الذي بدا يعلو كاشفا عن اضاليلهم واباطيلهم وتناسيهم لمبادئ الديمقراطية، المساواة، التقدم مما حدا بوالي بغداد (نور الدين بك) وبتحريض من معاونه (شفيق بك) إلى اصدار امر يقضي بالنفي السياسي لإبراهيم صالح شكرمع عدد من الاشخاص إلى (درسم)في (الاناضول) ثم استبدل النفي فيما بعد إلى السجن في الموصلقضى فيه اربعة اشهر عانى فيها الوانا من الغربة والحرمان.

كتب إبراهيم صالح شكر عن تلك المرحلة من حياته بعد سنين طويلة في رسالة طويلة وجهها إلى صديقه احمد عارف قفطان في 17 حزيران 1934م جاء فيها (في عام 1915 دهم الطاعون الجارف البيت الذي درجت فيه، فاجتاح في يومين اثنين والدي ووالدتي، في الاربعاء قضى على امي وفي الخميس على ابي، وفي السبت الحق بهما جدتي.....) ثم يقول (ثم اعقبت هذه النازلة شهور ثلاثة، فاذا الاتحاديون يحكمون علي بالنفي إلى درسم في الاناضول نفيا سياسيا يحمل عار الخيانة الكبرى). ونشرت الصحف:(في يوم 25 ذي الحجة ابعد إلى الموصل كل من عبد الجبار غلام وإبراهيم صالح شكر وإبراهيم حلمي العمر مع 65 شخصا لينفوا إلى درسم فذهبوا إلى الموصل ثم صدر العفو عنهم فعادوا إلى بغداديوم الجمعة في 6جمادي الاولى سنة 1334هجرية).

هذه المحن الجسيمة التي ألمت بإبراهيم صالح شكر في مطلع حياته والمتمثلة بوفاة والد ووالدته وجدته بمرض الطاعون على ثلاثة ايام متعاقبة ومن ثم نفيه وسجنه في الموصل فضلا عن فقره المدقع ذلك كله كان اساسا لخلق شخصية عصامية صامدة لم تكن لتتهاون او تغض النظر عن المطالبة بحقوق البلاد المشروعة التي سلبها المحتل تحقيقا لمصلحة او منفعة شخصية شان البعض من اصحاب الصحف في تلك المرحلة ولم تكن لتتوقف يوما عن التصدي ومقاومة الطغيان الاستعماري انذاك وهو مااكسبه صرامة في الطبع وعصبية في المزاج وتطرفا في النزعة فكان الناس عنده ضربان لاثالث لهما اما قديس واما شيطان وقد كلفته هذه النظرة المتشائمة إلى الحياة باهضا فاكسبته خصوما وسلبته اخوانا واصدقاء وجعلته يركن إلى النقد العنيف المر غير مبالٍ بان يصيب صديقا او يخطئ عدوا وبعد الاحتلال البريطاني للعراق عاد إبراهيم صالح شكر إلى بغداد ليحل محل والده كمختار لمحلة قهوة شكر وكان مايزال يرتدي العمامة والجبة واشتهربانه كان يقدم خدمات المختارية للاهالي دون مقابل رافضا اية هدايا ومنها هدية رفضها كانت قطعة ارض في لواء ديالى (محافظة ديالى) عرضها احدهم عليه مقابل معاملة تحتاج لتوقيع المختار وتدخله لتخليصه من دعوى قضائية مقامة ضده وفي الوقت عينه كان يتردد باستمرار على(مقهى الشط) بادبائه وشعرائه وكانت لقاءاته بهم مادة غنية لمجلته (الناشئة) التي كان يعد العدة لاصدارها كانت المختارية بالنسبة لإبراهيم صالح شكر محطة مؤقتة يداوي فيها جروحه ويطوي احزانه من العهد السابق ويشحذ همته ونبوغه عن طريق تغذية حاسته الفنية بالعمل الادبي والانصراف إلى قراءة كتب الادب والتاريخ ومادبجته اقلام البلغاء ليستانف جهاده في العهد الجديد عهد الاحتلال البريطاني وتاسيس الدولة العراقية.

عن رسالة (إبراهيم صالح شكر صحفياً).