احتفاء باللبوة الجريحة .. نزيهة سليم والحرية الأوسع

احتفاء باللبوة الجريحة .. نزيهة سليم والحرية الأوسع

فضيلة يزل
" ها انا أدخل القصة من زاوية أخرى بدت أكثر تراجيدية، نزيهة سليم بثيابها الرثة وسط باحة بيت بغدادي قديم، كل شيء فيه تُرك كما هو منذ عقود طويلة، وهي بالكاد تحمل بقاياها لتواجهنا بما تبقى لها ولبيتها من تاريخ، أرث عائلة أنجبت مجموعة من الفنانين وأسست لمدرسة سميت في كتب النقد مدرسة الرواد، ثم مدرسة بغداد للفن الحديث.

كانت تتصدر جدار الباحة الأيسر لوحة زيتية لمنظر طبيعي بتوقيع محمد سليم مؤرخة في العام 1934، ولوحة أخرى لعازف غيتار رسمها جواد سليم لأستاذه الأسباني في الأربعينيات، وعلى الجدار الأيمن وضعت نزيهة سليم لوحتها (اللبوة الجريحة) ورسمتها في الثمانينيات".
كنت أحاول ان لا استبق الأمر بسؤال يلح عليَّ : " قبل أكثر من عشرين عاماً سمعت ان هذا المكان سيتحول إلى متحف يحفظ تراث العائلة، فلماذا تحول إلى خربة؟" لكني أثرت الصمت بعد ان شلتني المفاجأة.
قالت : كنت وحدي في البيت عندما حدثت الحرب، كان القصف يعصف بالبيت، وأنا بدون طباخ أو ثلاجة، ولا أملك حتى راديو كي أعرف الأخبار ، كنت وحدي خائفة ولا أحد سأل عني".
وتحدثت الفنانة نزيهة سليم عن بدايتها فقالت :
"في البداية احتضنني والدي وكنت اقلده في الرسم، ثم أصبحت اقلد جواد واستهدي به. أذكر مرة عرضت عليه لوحتي (سوق الصاغة) واسلوبها يتبع اسلوبه أي بغدادياته، فأدار وجهه ونظر بعصبية وقال: لماذا تقلدين عملي. قلت : لأنني أحببت هذا الأسلوب. فقال : لن يصدق الناس انها من عملك وسيقولون أنني رسمتها لك ووضعت عليها أسمك".
" كان والدي استاذي الأول ، ثم عند دراستي في البوزار في الأربعينيات تأثرت بأستاذي فرنارد ليجيه الفنان المعروف ثم عملت بورتريتات تأثراً بموديغلياني وأسلوبه. عندما عدت الى بغداد في الخمسينيات، استأنفت مشروع رسم النساء، الذي بدأت به على النهج الواقعي أول الأمر، أعطي للريفيات وبائعات اللبن مبلغاً من المال وأطلب منهن الجلوس أمامي، وقد رسمت أيضاً كل صديقاتي وطالباتي، فكانت بعض معارضي تتسبب باشكالات عائلية، فالعوائل المحافظة ترفض رسم صور بناتها، فاضطر الى الأمتناع عن عرضها، وهكذا كنت اذهب انا إلى الأسواق والجوامع والطقوس الشعبية ومنها عزاء الحسين والأعراس وغيرها. كانت الحياة في عراق الاربعينيات والخمسينيات تضج بالفن والمعارض والثقافة، وكنت أشارك فيها وتدفعني الى مزيد من الجدية والأهتمام بعملي. ومع أنني بدأت كمدرسة للبنات ببغداد بعد تخرجي من معهد المعلمات ، إلا ان عودتي من باريس بشهادة فنية نقلتني الى تدريس الفن في اكاديمية الفنون، فتخرجت أجيال من الفنانين على يدي وبينهم من أصبح مشهوراً. كنت مهتمة بالجانب الأجتماعي من الحياة العراقية فذهبت الى المدن والأرياف بصحبة الفنانين، كنا نطلب المواضيع ونستمدها ليس من الحياة البغدادية فقط، بل من كل المدن العراقية حتى الأهوار كنا نذهب اليها ونصورها كي نعود بحصيلة جديدة.
وتواصل فاطمة المحسن الحديث عن نزيهة سليم فتقول :
" نزيهة سليم من أوائل الفنانات العراقيات المشاركات في النهضة التشكيلية التي بدت معالمها تتوضح في الأربعينيات والخمسينيات ولم تسبقها أو تعاصرها سوى الفنانة مديحة عمر التي ادخلت الخط الى اللوحة قبل كل الفنانين العراقيين، وحاولت التنظير لهذا الأجراء.
لعل نزيهة سليم في وحدتها الآن ، وفي هذا البيت الذي يوشك على الرحيل ولا يشفع له ماضيه العريق، تمثل مشهداً واحداً من مشاهد العراق، سفينة تصارع الموج بدون صوار ولا عدة تقذف بها الى بر الأمان.