الاحتفاء بالرفاعي هو احتفاء بالعقلانية والتدين الملهم للتراحم والمحبة والجمال في العالم

الاحتفاء بالرفاعي هو احتفاء بالعقلانية والتدين الملهم للتراحم والمحبة والجمال في العالم

هاجر القحطاني*
بالنسبة لي فان الكتابة عن الدكتور عبدالجبار الرفاعي هي كتابة عن جزء اساس من تشكل وعيي بالحياة. اذ على يديه تحسست لاول مرة طريقي الى دهاليز غير مطروقة في التفكير والشعور تجاه الانسان، الدين، الفكر، الثقافة والمجتمع.

سنوات ثرية منذ منتصف الثمانينات وحتى منتصف التسعينات من القرن الماضي، واكبته في رحلة صيروة معرفية مستمرة، طبعته دائما وشكلت علامة فارقة في حضوره الثقافي والفكري.
بدا لي الرفاعي وانا طفلة عطشى، مثل نهر فكر متدفق حي يزداد عمقه يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وسنة بعد سنة .
في بيئة مؤدلجة حتى النخاع مثل مدينة قم بعيد الثورة الاسلامية، حيث يرسم لك الشارع والمدرسة والمرئي والمسموع والمكتوب من وسائل الاعلام، صورة ذات لون واحد عن العالم، وعن نفسك وعن الحياة، لوّن الرفاعي مخيلتي "وآخرين غيري من تلامذته المقربين" بألوان من الأفق كثيرة.كان يجلب لي كل ما تقع عليه عيناه من كتب أدب عالمي وعربي، وكان يقول لي اقرأي كل شيء واي شيء، فهذه العين الحرة وحدها الكفيلة بتمكينك من التفكير المتين.
عن قصد، كان يستفز ذهني بكتب محرمة على المراهقات، وكان يدافع عن ذلك، حين يعترض أحد من رجال العائلة، انني اخطط لاحتراف الكتابة، ولابد لي من قراءة امهات الكتب .
على ذلك كانت القراءة بالنسبة له عملا محترفا، فيه من العلم وفيه من الفن الكثير، ولم تكن مجرد تيه في الكلمات والكتب، ينتج هذيانا إنشائيا بعد اشباع.
يصف الرفاعي نفسه بالقارئ، وهو بذلك ينحت صفة غير متداولة في المشهد الثقافي العربي، اذ يتم في الغالب تجاوز فعل القراءة الى ما ينتجه من كتابة "كاتب"، تفكير "مفكر"، وابداع "مبدع" وغيرها.
لكن الرفاعي، المتسائل دوما، ليس متيقنا من أي من النتائج ، لذلك يتوقف عند القراءة، فهي الفعل الأكيد الذي يمكن ان يكون مرتاح البال بادعائه.
هل هذا تواضع؟ لا يمكن الجزم بذلك. لكن يمكن الجزم انه يعكس خصلة مهمة فيه، قد تكون أرهقته كثيرا، وهي ارتفاع سقف توقعاته من نفسه "ربما من الانسان عموما" ، وارتفاع سقف معاييره للانجاز ، فمن المألوف لي ان أراه منزعجا، وان بشكل خفي ومتوار، من إغداق الألقاب جزافا، ربما لأن تلك الألقاب تفرض حدودا على سقف توقعاته الذي لا يتوقف عن الارتفاع... ربما!
سهرت معه ليالي الشتاء والصيف وهو يبحر بين الكتب في مكتبته، ذائعة الصيت لمن يعرفه، التي توسعت باستمرار، مثل صياد ماهر وعاشق يعود بالثمين من الصيد ويفرزه بشغف عال، ويحدثني عنه باحتفاء نادر. تأكدت لاحقا حين انطوت سنوات بعد ذلك ان الرفاعي لم ولا تلمع عيناه لشيء كما تلمع لجواهر الفكر. مؤخرا صار يشتكي من فقر البحار التي يغوص فيها رغم مهارته ، فاقول له : تلك بحار العرب وما يكتبون او يترجمون.
بشكل طبيعي ضاق المشهد الفكري والثقافي العربي على تطلعاته ونهمه ، ولولا انفتاحه على لغة اخرى هي لغة الفرس لاختنق ربما ...
حين كان منهمكا في الاشتغال على عمله الموسوعي الكبير " معجم ما كُتب عن الرسول وأهل البيت/ 1991-1995 " الذي صدر في "12" اثني عشر مجلدا ، كنت ارافقه وهو يبحث ويدقق ويجمع ويصنف، بطريقة تبدو امام "تقنيات اليوم" بدائية ومضنية للغاية، لكنه كان يشع سعادة وانطلاقا ومرحا .
تعلمت منه، من تلك الفترة بالذات، ودون جهد او تكلف، ان المتعة كل المتعة في التعلم والانجاز، وان كل ما يأتي نتيجة ذلك من مكانة او مال او جاه هو خير زائد. وقد حصنتني هذه الخبرة خاصة من تضييع عمري في اعمال لا تضيف لي ما يستحق العناء وساعدتني، وله كل الفضل، في اتخاذ قرارات مصيرية في حياتي، بما يخص توجهاتي الوظيفية.
لكن الحديث عن الرفاعي، وعن تلك المرحلة يظل ناقصا وغير وفي، اذا تجاوز رفيقة حياته ومعينته الاولى، زوجته الكريمة والسيدة الدافئة "إنتزال الجبوري".
رسمت انتزال الجبوري لنفسها، بشكل يقل نظيره، دورا بطوليا أحبته وتبنته وتمسكت به، كامراة متزوجة من رجل باحث، وكأم محبة وحنون .
أمام عيني، كنت أرى سعادة من نوع مختلف، تتحصلها أمرأة لنفسها ببذل الجهود ونكران الذات والتضحيات الكبيرة.كان النموذج يستفز نرجسيتي قليلا، وربما احتجت زمنا قبل التخلص من عبئه على ضميري، وانا ارشد واجرب الحياة الزوجية.
نموذجها المشرق ساعد الرفاعي في استقرار عاطفي،كان أشد ما يحتاجه ليبقى قادرا على المواصلة في طريق شاق، وفي ظروف قاسية.
لطالما تصورت ان ذلك كان لحسن حظ الرفاعي في زواجه، غير انني وعيت بعد ذلك خصلة فيه كانسان ميزته كرجل، فكان إن أغدقت عليه امرأة ذكية وحنون كل ذلك الحب، فإن الرفاعي للقريبين منه، وفيّ جدا، يتابع أصدقاءه وأقرباءه، ويهتم بهم وبشؤونهم، ويعينهم اذا احتاجوا بحرص ورعاية. تمتاز رعايته بحس مرهف، وذكاء حاد، ودفء عال، فهو يدرك جيدا ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين التدخل في الشؤون وبين تفقد الأحبة.
يحمي علاقاته بالاخرين بمساحة مقدسة من الخصوصية ، له ولهم. وبذلك فرض دائما إيقاعا ميّزه ووسم ادارته لشبكة متنوعة ومتباينة وواسعة من العلاقات الخاصة والعامة على حد سواء، وجاء هذا الايقاع متقدما على فوضى العلاقات في محيطه العراقي بالذات، دون اي يخسر حميميتها. وكثيرا ما لفتت هذه القدرة انتباهي، غير اني ادرك الآن انها لم تكن تحصيل حاصل، اذ بشكل طبيعي يعكس سلوك الرفاعي غالبا فلسفته عن: الحياة ،الانسان ،والدين.
ويبدو لي انه يسعى ان تنسجم افعاله واختياراته مع هذه الفلسفة المتفلتة دوما من آسار الراكد والمسلّم به والنهائي، الوفية، لكن للتطلع الى الجمال، والحب، والابداع.
لذلك ولغيره ،
فان الإحتفاء بالرفاعي هو إحتفاء بالقراءة، في أمة تتخلف عن الامم الاخرى بعيدا في مزاولتها كفعل حضاري هام لا غنى عنه،
والإحتفاء بالرفاعي هو احتفاء بالعقلانية، في وسط يطلق العنان لعواطف مشوهة ومرتبكة، بنتها قرون من التجهيل والظلم والفقر والحروب، فترسم حاضرا مضطربا ومستقبلا مخيفا،
والاحتفاء بالرفاعي هو احتفاء بالتدين، باعتباره: "ظمأ انطولوجيا لا يروى، الا من خلال التواصل مع المطلق"، الذي يجب ان يقود الى: "إلهام التراحم والمحبة والجمال في العالم"، بدل الدين الذين يتلاعب به "فيعاد تكوينه ويشوه فهمه بتفسير همجي، ينقلب الى الضد، ويتحول (...) الى اعصار يبدد كل مسعى انساني بناء، ويحطم الكثير من معطيات الحياة البشرية ومكاسبها الرائعة عبر التاريخ". نقلا عنه،
والاحتفاء بالرفاعي هو احتفاء بثقافة التسامح، لا كمنّة من الغالب على المغلوب، بل كقانون اخلاقي لابد منه لازدهار الامم ونجاح تجربة الانسان على الارض،
الاحتفاء بالرفاعي هو احتفاء بالعراقي، الذي جسّر الهوة بين مذاهب المسلمين، دون تكلّف او دوغما، بل بايمان عميق بحتمية الالتقاء والحوار، وتجاوز الشكلي من الانتماءات الى الجوهري منها،
الاحتفاء بالرفاعي هو احتفاء بالعربي، الذي قادته ظروفه الى الاغتراب في بيئة غير عربية، لكنه لم ينطو على نفسه ولا استلب منها، بل انفتح بها على المختلف والجديد، وعاد بغلة ثمينة فتحت نافذة لقومه على هواء طلق مجاور من الحرية والجرأة في الفكر تم تجاهله، وخسارة اضافاته طويلا، دون ان يرهن عقله او ارادته لأي ايديولوجي او سياسي،
الاحتفاء بالرفاعي هو احتفاء برجل ظل يقرع الاجراس طويلا دون كلل وملل، بوجه احتقار الانسان، الاستهانة بالحياة، ونبذ العقل، في وسط انحنت فيه الظهور من تركة الموروث والماضي، والغفلة عن العصر والمستقبل، وهام فيه الفرد في حيرة وضياع، وغرقت فيه المجتمعات في ظلمات القهر والجهل.
والاحتفاء بالرفاعي هو احتفاء بالأمل في الانسان على هذه البقعة الممتحنة من الارض، الذي له ولغيره، تظل الشمس تشرق كل يوم.
*المدير التنفيذي للمنبر الدولي للحوار الاسلامي في لندن، ابنة شقيق الرفاعي وتلميذته