من ادب الذكريات والانطباعات..مصطفى علي كما عرفته

من ادب الذكريات والانطباعات..مصطفى علي كما عرفته

وحيد الدين بهاء الدين
شغفت منذ الصبا اعجابا بشعر الرصافي، وازددت عبر الايام انكبابا على قراءته ودراسته. ولعل مقطوعته «اغرودة العندليب» الموحية بالرجوع الى الطبيعة، والداعية الى الحرية الفردية:
فالعيش عندي فوق الغصون
لا في قصور ولا حصون

اطير فيها لفرط وجدي
من غصن ورد لغصن ورد
وفي فروع الاشجار بيتي
فالظل فوقي والزهر تحتي
***
ياقوم اني خلقت حرا
لم ارض الا الفضا مقرا
فان اردتم ان تؤتوني
ففي المباني لاتحبوني
وان اردتم ان تنطقوني
فاطلقوني .. فاطلقوني
هذه التي كان معلمنا يستنشدها اياها صباح كان يوم قبيل بداية الدوام، ونحن في الصفين. الثالث والرابع الابتدائيين، هي التي بذرت في تربة نفسي، ذلك التعلق العجيب بالشعر الاصيل.
وما ينفك على حاله، بالرغم من تطاول العهود.. كان ذلك مهاز التوجه نحو الرصافي:
انسان وفنان..
من هنا، ادرك اصدقائي وزملائي – وهم كثر وان باتوا اليوم اقل من القليل، مدى حبي للرصافي وحرصي على حفظ غرر قصائده وترديدها. اذ كان لها الاثر الفاعل في تطوير الفكر العربي الحديث، وفي الاسهام في تغيير جانب من الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي على مستوى القطر والوطن العربي..
انما كان من معارفي في عهد النشأة الادبية الاولى، شاب يدعى شهاب احمد الاعظمي، فقد انبأني ذات يوم من ايام خريف عام 1948 ان مصطفى علي: وكان يومئذ مفتشا للطابو بوزارة العدلية، راوية الرصافي وصديقه الثقة، يزور مدينة كركوك لمهمة رسمية.. ثم اردف:
الا تود ان تقابله، عساه ان يفيدك في ما تريد الوقوف عليه والوثوق منه عن الرصافي، وحقيقته الادبية والذاتية..
قلت لصاحبي: هل تعرفه شخصيا؟
قال: كان يدرسنا مادة البلاغة بدار العلوم بالاعظمية.
قلت: وكيف تراه؟!
قال: فاضل ومتواضع..
قلت: الا يستثقلني، وليس لي عهد به؟
قال: لا يمكن ان يحدث هذا.. على وجه القطع.
في مساء يوم السبت الموافق للسادس من شهر تشرين الثاني عام 1948 كنت وشهاب احمد الاعظمي ومدحت عبد الواحد: احد زملاء الدراسة، ننتظر في غرفة امين المكتبة العامة بكركوك وزميل الدراسة ايضا كامل جاسم العاني، قدوم مصطفى علي بشوق خفي لا مزيد عليه..
مضت مدة غير طويلة، حتى ظهر مصطفى علي من بعيد، بوجهه المستدير الاسمر الذي يتم على الوقار والطمأنينة.. بجسده الضخم المربوع، وهو يتأنى في خطواته، ويتطلع بنظراته وقد استقرت على رأسه سدارة سوداء..
نهضنا مرحبين به.. موسعين له..
انبى الاعظمي ، يجري مراسيم التعارف بيننا، منوها له باعجابنا الشديد بشاعرية الرصافي، رحمة الله عليه...
بدا لي ان مصطفى علي سر بما ترامى اليه.. كذلك بدا ان ذلك ام يكن في الوقت ذاته، الا استدراجا له، في ا نروم الخوض فيه من حديث ذي شجون..
اكتنفنا الصمت بعض الشيء... وباندفاع المراهقين، سألته بغتة:
لا ادري اذا كان بالاماكن ان نسمع الابيات المشهورة والمحذوفة من قصيدة: تجاه الريحاني.. هي النفي.. هذه التي القاها الرصافي، في حفلة اقيمت عام 1923 ببيروت تكريما لامين الريحاني بعد عودته من رحلة الى بلاد العرب، وهجا بها الملك «فيصل» الاول؟
رفع الي مصطفى علي. نظرة مستأنية، شفت عن شيء من دهشة واستنكار، وما لبث ان حاول ان يحسم الموقف باقتضاب، متهربا من الجواب المنشود..
- هذه الابيات لم تنشر اصلا في ديوان الرصافي المطبوع عام 1931 بلبنان لانها محظورة، واذاعتها تنطوي على مسؤولية قانونية وادبية..
ومتى يمكن ان تذاع..؟
متى ما تغيرت الظروف..
وحري بالذكر، بهذه المناسبة، ان مصطفى علي كان من الد اعداء الاسرة المالكة العراقية، والعهد الاستعماري المنقرض.. ولطالما دعا في مجالسه الخاصة، وكتاباته ذات الاسلوب غير المباشر، الى الثورة والتغيير.. والانتقال من الملكية الى الجمهورية..
مع هذا نرغب في سماعها منك، ونحن في هذه الغرفة لا نتجاوز الخمسة..
شريطة ان لا تصطنعوا القلم ولا الورق...؟
كما تشاء ..
اسرع مصطفى علي، كما لو كان صاروخا،
يقرأ:
لهم ملك تأبى عصابة رأسه
لها غير سيف التيمسيين عاصبا
لقد عاش في عز بحيث اذلهم
وقد ساءهم من حيث سر الاجانبا
وليس له من امرهم غير انه
يعدد اياما وياخذ راتبا...
تبوا عرض الملك لابحسامه
ولا كان في يوم له الشعب ناخبا..

طبيعي اننا لم نستطع ان نحتفظ اي بيت من هذه الابيات الاربعة. ولكننا تمكنا من استعادة البيت الثالث، لسبق حفظنا اياه سماعا من الافواه ولو محوراً..
ثم قلت موجها كلامي اليه:
- يظهر ان الشعراء والادباء يختلفون حتى في قراءة البيتين الشهيرين اللذين ساقهما الرصافي عند انهيار ذلك المبنى الذي اتخذه الملك «فيصل» الاول بلاطا له .. في بداية عهده؟
اجاب: مقابل ساعة «القشلة» السراي ببغداد كان يقوم بناء يجلس فيه الملك فيصل الاول قبل تتويجه وبعده.. وكان يطلق على هذا البناء في العهد العثماني، والتنجى اوردى هما يوني.. (سلطنة الفرقة السادسة) وفي يوم من الايام انهار هذا البناء، بعد ان تسرب الى تحته الماء الكثير.. هنا قال الرصافي..
وما ان بدأ مصطفى علي يقرأ ذينك البيتين بتؤدة، حتى قاطعته بتأدب وتروج:
- هذان البيتان ايضا لا تسمح لنا بتسجيلهما؟
عجل:
- لا.. لا بأس..
فاخرج الزميل مدحت عبد الواحد ورقا وقلما:
ليت شعري ابلاط ام بلاط
بمليك او بالمخانيث محاط
غضب الله على ساكنه
فتداعى ساقطا ذاك البلاط
ثم اثيرت قضايا واستجدت احاديث اخرى حتى ادركنا الوقت..
قبيل ان يغادرنا مصطفى علي، طلب من امام الحضور، ان اراسله اذا شئت بما يهمني من شؤون الرصافي، من غير تحرج وتردد، مفيدا انه لن يقصر معي في المساعدة الادبية التي انشدها او يمكن ان انشدها مستقبلا.. فشكرته على موقفه شمائله..
لقد كانت مواقف الرصافي الوطنية واشعاره في اغراضها المتنوعة، تملأ عقلي، وتطرب نفسي، وتحضني على الكتابة فيه بحيث صارت المراسلة مع راويته: مصطفى علي، اضافة الى تشجيعه اياي عليها ، شيئا طبيعيا وذا بال..
بعد اربعين يوما من لقائي بمصطفى علي وتعرفي اليه، بمكتبة كركوك العامة، اخذت عبر الايام استدرجه للافاضة في الاحاديث تارة وللاجابة عن سؤالاتي الكثيرة المتواترة عليه تارة اخرى.. وكانت مثل هذه الاحاديث وتلك السؤالات في اواخر الاربعينا في غاية الاهمية التاريخية والقيمة الادبية.. اولاها مصطفى علي عناية رائعة وكبيرة، تدلل على حبه الحقيقة والتزامه النصفة، وتوسله بما في حوزته من مستندات ووثائقن لايمكن الحيدة عنها..
لكن صدور الجزء الاول من كتابه: الرصافي: صلتي به. وصيته مؤلفاته في ربيع عام 1949، اضافة الى توليه على كر الاعوام تدبيج فصول وابحاث عن الرصافي في الصحف والمجلات، كذلك القاءه محاضرات واحاديث عنه من المنبار والاذاعات ، جعلى ايراد عظم ما استفهمت منه وتوقفت عنده، في خلال رسائلي الدائمة اليه عن حياة الرصافي وافكاره ومواقفه امرا غير وارد لا لشيء الا لنه صار في متناول الباحثين والمؤرخين، بحيث لا يصح مع الالماع اليه كما احسب مرة اخرى.. ولكل مقام مقام..
على ان مسائل انطوى عليه العديد من الرسائل المتبادلة بيني وبين مصطفى علي، قبل استقراري ببغداد، لابد من ان يعرج المعنيون على مضموناتها اعماما للفائدة المرتجاة..
مصطفى علي طوال عمره كان مشغولا بالرصافي.. ملتزما جانبه في كثير من المواقف والحالات ذائدا عنه في كل حين، بلغة الصراحة والاقتضاب طورا وبسلاح الحقيقة والنزاهة طورا اخر، حتى قال عنه في كتابه: «الرصافي» : ان الايام لا تستطيع ان تنسيني الرصافي مهما كانت وان الليالي لا تقوى على ان تذهب بأثره في نفسي مهما امتدت مادمت اسير هذه الحياة.
وانما انحاز مصطفى علي الى الرصافي عن قناعة ودراية في ما كان يرتأيه من اراء، ويدعو اليه من افكار، ويبذل له من مساع في كل مضمار، غير ان هذا لا يعني انه لم يكن يشذ عنه ويحاوره ومن ثم يخالفه في ما لاجدوى منه ولا غناء فيه..
كنت اعرف مسبقا موقف الرصافي من امارة شوقي الشعرية.. تجلى ذلك في قصيدته «في حفلة شوقي» هذه التي القاها ببغداد عند انعقاد مهرجان شوقي لمبايعته اميرا.. وبدأها:
امارس دهرا من جديدي داهرا
ومازال ليلى في العراقيين ساهرا
ابى الحق الا ان اقوم لاجله
على الدهر في كل المواطن تاثرا
ثم يقول ساخرا :
ولكنني قد انظر الحفلة التي
تقام له ذا اليوم في مصر ساخرا
اذا احتفلت مصر بشوقي فمالها
تقيم على الاحرار في العلم حاجرا
فقد اسمعتنا جة امطرت بها
«عليا وطه» حاصبا متطايرا
فما بال هذا عد في مصر مارقا
وما بال هذا عد في مصر كافرا
اذا لم تكن الافكار في مصر حرة
فليس لمصر ان تكرم شاعرا
بعد وفاة شوقي نشر الدكتور طه حسين مقالا في بعض الصحف المصرية زاعما فيه «ان الامارة الشعرية قد انتقلت من مصر الى العراق يتنازعها الزهاوي والرصافي.».
فما كان من مصطفى علي وقد بوغت بتصريح طه حسين كما بوغت به غيره الا ان يرد عليه برد واقعي منطقي انتزع اعجاب الرصافي وتناءه المستطاب، والرصافي ضنين بالثناء الاعلى مستحقيه..
ذات يوم اعتمل في قراري ان لا ندحه عن ان مصطفى علي ضمن رده ذلك، كل ما استطاع اليه من اسباب الاصالة والاقناع والشجاعة فحين شءت هتك ذلك السر ايغالا في الكشف عنه جاءني جوابه: كنت اظن ان قضية اماةر الشعر تنطوي بوقاة شوقي واحسبني كنت مصيبا في حدسي وانها كادت تنطوي لو لم يثرها الدكتور طه حسين بتايينه. كل ذلك الضجيج حدث بعد تصريح الدكتور حتى اضطر الى التنصل منه. فاذا به يسخر من اماةر الشعر كما نسخر منها واذا به يزعم انه كان هازلا بقوله لا جادا. وما كان لنا ولا كان للصحافة العربية ان تفهم جواز هزل الدكتور في ذلك الموقف الجدي. وسواء اكان الدكتور هازلا حقيقة ام كان جادا ففطن واعتذر بهذا العذر، فهو انا يمقت هذه الامارة ويعدها مهزلة..».
ثم لئن كان لشوقي قصيدة «نهج البردة» في مدح الرسول – ص – فان الرصافي قصيدة في مثل هذا الغرض السامي عنوانها «في حفلة عيد الميلاد النبوي»:
وضح الحق واستقام السبيل
بعظيم هو النبي الرسول
قام يدعو الى الهدى بكتاب
عربي قرآنه ترتيل
هنا وددت استمزاج رأي مصطفى علي في قصيدة «الرصافي» هذه ن بالقيام الى قصيدة شوقي تلك، اذا كان ثمة وجه للموازنة فاذا هو يسوق الي: «نظم شوقي قصيدته «نهج البردة» مباريا بها قصيدة البوصيري في مدح النبي ومطلعها:
امن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
لوم يرد على ان اضاف قصيدة الى المدائح النبوية.
اما الرصافي فقد نهج في مدح النبي نهجا آخر ثم نظر الى حالة المسلمين وما هم عليه من تاخر وانحطاط من جهل بامور دينهم حتى اصبحوا كالوثنيين فانتقدهم انتقاد المصلح الذي يريد لهم كل خير. وقد فضلت قصيدة الرصافي دون تحيز ولا محاباة بالنظر الى الغرض السامي الذي كان يرمي اليه والمقاصد الاصلاحية التي ارادها».
وبعد وفاة الشاعر في 16/3/1945 اخرج عنه بدوي احمد طبانة، يوم كان استاذا للغة العربية وادبها بدار المعلمين العالية ببغداد كتابا اثار ضجة في المحافل الادبية والصحفية، حملت الكتاب والنقاد من مريدي الرصافي واخدانه، على الرد على المؤلف، وفي طليعتهم مصطفى علي، الذي تصدى له على صفحات جريدة «البلاد» لرفائيل بطي.
لقد كان من الضروري ان اعرف كيفية حصول بدوي طبانة على مصادر كتابه واظهاره الرصافي في ضوئها بذلك المظهر الذي آلب الاخرين عليه. لهذا فقد اطلعني مصطفى علي على هذه الحقيقة المرة على اثر تطلعي اليها واهتمامي بها: «اما كيفية حصول طبانة على مصادر كتابه فقد ائتمل بمن ظنهم اكر الناس اطلاعا على حياة الرصافي وشعره فاعتمد على ما قالوا. ولست ادري اكانوا قد تعمدوا الاساءة الى الرصافي ليرضوا من خيل اليهم انهم يرضونهم بهذه الاساءة ام هذا هو مبلغ عملهم»..
ثم حدث ما لم يكن في التصور..
تأكد لي ان الاتصال الادبي الايجابي بمصطفى علي، افرز حقدا عليّ، وغيرة مني، لدى بعض من زملائي في الدراسة الاعدادية بكركوك.. ذلك ان واحدا .. من هؤلاء وقد طحن الغيظ فؤاده، وافسد الحسد ذمته، طير رسالة باسم مستعار الى مصطفى علي، ينافق بها عليّ، ويتهمني بما انا منه براء..
فبينما كنت انتظر رسالة جوابية من مصطفى علي وجدتني اضرب في الوهم قائلا: انها لم تصل الى يدي.. بينما هي ادركت المدرسة، لكن هذا الزميل الذي عرف على الايام بتفاهاته وسفاهاته، سطا عليها في غفلة مني ومن الاخرين، واستأثر بها، غير واع انها وديعة ينبغي ان تنتهي الى صاحبها مهما يكن شانه منه..
فاضطرت ان احرر رسالة جديدة الى مصطفى علي، ارجوه ان يتسع وقته، ونسمح حاله، للاهتمام بما سلف ان تطلعت اليه في رسالتي السابقة.. فاذا الرجل يكتب اليّ رسالة ثانية ومسجلة، ويقول بها بالحرف الواحد: «تلقيت رسالتك المؤرخة 19/1/1949 وفيها تطالبني بالاجابة عن اسئلتك التي تضمنتها رسالتك المؤرخة 29/12/1948، فاستغربت كل الاستغراب لانني اجبتك عنها بكتاب مؤرخ 8/1/1949 على ما اتذكر. وقد القيته بيدي في البريد فلا مجال للشك في ارساله ولايجوز ان اتهم البريد باضاعته. فرجائي ان تتصل بدائرة بريد كركوك وتسأل عن الكتاب فلعل الموزع سلمه الى سواك.
وسبب ذهابي هذا المذهب هو تأكدي من وجود شخص ساءته اجابتي عن اسئلتك واسئلة زميلك مدحة عبد الواحد. فقد وردتني رسالة بتوقيع مستعار يلومني فيها مرسلها على ما اجبتكما به ويزعم انكما تلعنان الرصافي وتسبانه. وقد سخرت منه ومن سخافة رأيه. وتمنيت لو عرفته لكي اجيبه الجواب الشافي. فالرصافي حين ينظم الشعر لم يكن يفكر في ان يخص به اناسا دون اناس. ولو فرضنا انكما تلعنان الرصافي – وحاشاكما – فاللعن لا يؤذي الميت. وانا ما ذكرت هذا الخبر الا لادللك على هذا الحسود السخيف ولعلك تستطيع ان تعرفه».
على ان اهتمامي المتصل بالرصافي جعلني اسال مصطفى علي بصفته كاتم اسراره وحافظ اشعارهن عن القصيدة الاولى التي نظمها الرصافي في بداياته الادبية، فما عتم ان رد عليّ قائلا: «لا اعرف القصيدة الاولى التي نظمات الرصافي ولا كان هو يعرفها ولعلها احترقت فيما احترق له من شعره الاول..»
غير ان تتبعاتي في المظان في ما بعد ادت بي الى الوقوف على ذكر لتلك القصيدة الاولى في مجلة «الحرية» التي كانت تصدر بالعشرينات..
هنا اسرعت بالكتابة الى مصطفى علي مخبرا اياه بما كان من امر هذه القصيدة التي جرى البحث عنها، وكيفية وقوفي عليها مصادفة..
فلم يتردد في ان ينهي اليّ شاكرا مقدرا وهو يقول: «اشرت في كتابك الى حديث الرصافي الذي نقلته من مجلة «الحرية» وهو حديث مهم جدا. عندي نسخة منه، فاشكرك على تنبيهك اياي اليه..»
ثم في ما بعد افضيت لمصطفى علي بقولي: هناك من يزعم ان النقاد قد اعطوا الرصافي حقه.. وهل له من رأي في هذه الصدد..؟
اجابني بمنتهى الصراحة وبوجازة «لا والله.. ان الرصافي لم ينل عشر معشار حقه لا في الحياة.. ولا بعد الوفاة..».
***
بعد ثلاثة اسابيع من ذلك كله، اضطررت ان اسافر بصحبة افراد اسرتي الى بغداد، لانجاز شواغل خاصة بنا، واسعدني الحظ بان اقوم باول زيارة لمصطفى علي في 27/1/1949، بديوان وزارة العدليةن وكان قد عين بها مدونا قانونيا.. فرحب بي الى ابعد حد، واهداني نسخة من كتابه «ادب الرصافي: نقد ودراسة». ثم دعاني الى دارته بالاعظمية في اليوم التالي وكان جمعة..
هناك راجعت بعض المصادر ناقلا منه ما كان يعنيني عن الشاعر الراحل معروف الرصافي .. ثم خرجنا نتجول في ضواحي الاعظمية. ترويحا للنفس، واستكمالا لبعض جوانب ما اتصل بيننا من حديث.. الى ان حان موعد الغداء، فعدنا..
في اذا عام 1949 صدر لمصطفى علي الجزء الاول من كتابه «الرصافي». وحين اهداني نسخة منه، شكرته عليها اكرم الشكر، مقدارا وفاءه للرصافي واخلاصه في خدمة الادب العراقي..
اما الصحافة العراقية فقد تناولت الكتاب وصاحبه – من خلاله – بالتقريظ مرة، وبالنقد مرة اخرى.. كذلك اختلف الادباء والشعراء في تقييم الكتاب وتقدير مؤلفه.. كل يرى على هواه...
ففي السادس والعشرين من اذار، اصدرت صحيفة «القدر» البغدادية لصاحبها سعيد البدري، عددا خاصا بالرصافي.. وعلى صفحتها الاولى كلمة عنوانها «مساجلة الى السيد مصطفى علي» نشرها نعمان ماهر الكنعاني.. وقال بها: «ما اردت اغاظتك بنشر هاتين القصيدتين وان كنت واثقا من ان الحقد ما ينفك يملأ قلبك كلما قرأت او سمعت بصلة احد الناس بالرصافي حتى كأن الرصافي كان يعيش في المريخ لا يستطيع انسان الوصول اليه والتعرف عليه. كما اني لم ارد ايلامك مع وثوقي من انك ستتألم لان الناس سيقرأون هاتين القصيدتين. ولكن ذكراهما عزيزة عليّ فاردت ان اجعل من نشرهما تحية للراحل في شهر ذكراه. اما حقدك وشقاؤك فليأخذ سبيلهما الى مساعد الرصافي على العيش «عبد بن صالح» الذي لم ينج من حسدك اذ توهمته قد سلبك تراث الرصافي الفكري. ذلك التراث الذي تمنيت ان يخلد اسمك على حسابه بعد ما فشلت في حياتك الفكرية فشلك المعروف فمعذرة..» .
الواقع اني عندما قرأت هذه الكلمات الحادة غير الخالية من تطاول على مصطفى علي بحق او بغير حق، اردت ان اعرف بالتأكيد وقعها في ذاته، وما اذا كان له رأي في ذلك، او موقف ايجابي يمكن ان يتخذه دفاعا عنه؟
وسرعان ما باغتني بجوابه المؤرخ بالثاني من نيسان عام 1949 وفيه يقول: «تريد مني ان اجيب من كتب في جريدة «القدر» .. وقد صممت على الا اجيب الشاتمين. فليكونوا احرارا فيما يكتبون كما ابحت انا لنفسي الحرية فيما كتبت..»..
اذا كان الشيء يذكر بالشيء .. فانما رغبت الى مصطفى علي في ما كتبت اليه، ان يسلط لي النور على ما يضمه او يمكن ان يضمه الجزء الثاني من كتابه «الرصافي» بعد ان بدأ القراء والادباء يتداولون ويتخاطفون جزءه الاول منه.. اذ قال في رده: «تسألني عن موضوعات الجزء الثاني من الكتاب. انه سيحتوي على شيء من اراء الرصافي وعلى سلوكه مع الناس وعلى وضعه مع الزهاوي».
وفي الثلاثين من اذا 1949 نشرت صحيفة «صوت الاهالي» البغدادية لكامل الجادرجي مقالا بقلم فاضل مهدي عن كتاب «الرصافي» ورد فيه: «... حتى اخرج الاستاذ مصطفى علي مؤخرا الجزء الاول من مؤلفه الذي يحمل اسم «الرصافي». فاذا هو يخلف الظن به واذا بكتابه هذا مصروف الى غرضين في نفسه «هما اطنابه في اظهار شخصيته على حساب الرصافي واندفاعه الى النيل من اشخاص كثيرين يضمر لهم حقداً تختلف دوافعه باختلاف اهوائه. وقد استبد به هذان الغرضان استبدادا اثقل كاهله. وسد عليه منافذ تفكيره فحشد له «مواهبه الادبية» وافرغ منهما ما يملك من جهد، حتى اذا شفى منهما ذات صدره رمى بالقلم جانبا وكأنه انجز واجبه».
طبيعي ان مصطفى علي كما قرر من حيث المبدأن لم يرد على المقال الذي كتب بتحريض من بعضهم.. ولم يلق له بالا..
لكن بعد اسبوع، اي في السادس في نيسان 1949 طلع علينا حارث طه الراوي في الصحيفة ذاتها يرد على فاضل مهدي مدافعا فيه بحماس عن مصطفى علي، مناقشا ما حاول الناقد ان يلصقه بالمؤلف من اتهامات وسلبيات..
هذان الحادثان وما اكتنفهما في ذلك العهد.. ثم ما افرزاه، اكدا لي ولغيري ان مصطفى علي، ثبت على موقفه، متجاهلا النقاد المغرضين وغير المغرضين.وشبيه بهما حادث ادبي آخر.
كتب عبد القادر البراك في مجلة «البلاغ» البغدادية، على اثر صدور الجزء الرابع من ديوان الرصافي، هذا الذي حققه مصطفى علي، وطبعته وزارة الثقافة والاعلام، مقالا عنوانه «ديوان الرصافي وما يجب ان يحذف منه»، حيث تناول فيه «قصائد» تسيء لسمعة الرصافي وتسيء للادب والفضيلة – على حد تعبيره -.
وهذه القصائد اصلا لا تتعدى قصيدتين هجائيتين هما «فاسق مراء او جاهل يدعي العلم» و»زجر النوابح» الى جانب قصيدة جنسية مغرقة في الجنس تحمل عنوان «بداعة لا خلاعة» منتقدا محقق الديوان على نشره اياها.
وذات يوم اتفق اني زرت مصطفى علي، بدارته بالحارثية، على جاري عادتي.. وما ان تطرقت الى ما كتبه البراك، حتى قال بكل هدوء وثقة:
- لقد اراد الرصافي في حياته ان ينشر ديوانه كله بعد موته، عدا قصائد ومقطعات نظمها في اوائل عهده بالقريض.. وانا لم افعل الا ان نفذت وصيته بحذافيرها. وتلك امانة في عنقي.. ينبغي ان ابرئ ذمتي منها.. ليعقب من يعقب.. وليقل ما شاء له القول.. في ما بعد..
واستطرد بشيء من انفعال:
- ولماذا لم يتكلم البراك حينما نشرت اثنتان من هذه القصائد الثلاث في بعض الطبعات التجارية من ديوان الرصافي.. قبل اليوم..!
ولما لم اعلق على كلامه ببنت شفة.. واصل:
- عجيب...؟!
سكت.. الا انه لم يرد ان يسكت.. بل تابع منساقا بقانون تداعي الافكار:
- حاول بعضهم ان يحول دون نشر القصيدتين المنوه بهما، بالاتصال بمديرية الثقافة العامة بوزارة الثقافة والاعلام، ولكن محاولته باءت بالاخفاق.. لاصراري على موقفي الثابت في وجوب نشرهما والا فلا يطبع الديوان كله.. ثم لالتزام مديرية الثقافة العامة جانب الامانة التاريخية الادبية في ذلك..
واحسست ان مصطفى علي اشتمله قدر من انفعال، فحاولت على نحو غير مفتعل ان انقله الى جو في شيء من الانس الادبي البريء، فتساءلت عن ما اذا كان يمكن ان يستعيد خيوطا ولو واهية عن ازمة الثلج التي حصلت في صيف عام 1936 في بعض مناطق بغداد؟
فاعتدل شبه متبسم وهو يعقب:
- اما كنت طفلا يومذاك، فمن اين لك هذا التساؤل ، وكيف ادركت؟
- من بعض معارفك..
في خلال عام 1936 كنت اسكن في شارع «غازي» المسمى اليوم شارع الكفاح، ومنه انتقلت الى الاعظمية في ما بعد..
ولم يكن يومذاك قد انتشرت الثلاجات في البيوتات كما هي الحال.. بل كان الناس يشترون الثلج من البائع.. وحدثت ازمة ثلج..
من هنا كتبت مقالات عن هذه الازمة في صحيفة «صوت الشعب» ليوسف هرمز، بامضاء مستعار «بغدادي ريان»..
وكان يرد عليّ صديقي محمد علي الكردي، الموظف في وزارة العدلية، (وكنت بها ملاحظا للذاتية) بامضاء بغدادي عطشان.. لقد كانت المقالات طريفة..
حين انيطت بي مهمة تحرير القسم العربي من صحيفة «كركوك» في ربيع عام 1952، طفقت اواصل مصطفى علي بكل عدد يصدر منه، وذات يوم كتب الي بهذا الصدد مثمنا ومقدرا: «ارجو ان تكون موفقا لكل خير. ان جريدة «كركوك» تصل الي منذ توليت تحريرها واقرؤها بكل لهفة ولاسيما ما تكتبه انت فيها، وقد صرت اشعر بتقدمك في صناعة الانشاء تقدما محسوسا.. ظاهرا. ولي الامل ان اراك بعد قليل في الرعيل الاول من الادباء».
وعلى ذكل هذه الصحيفة فقد نشرت بها كلمة عن «مصطفى علي» وبها وفيت حقه على قدر، في مجالات الادب والبحث والقانون..
ثم ما ان حل عام 1953، حتى قام ساطع الحصري مدير معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية، يدعو مصطفى علي لالقاء محاضرات عن الرصافي والتعريف بفكره وشعره، على طلبة القسم الادبي.
حيث لبى مصطفى علي الدعوة.. وسافر لينجز المهمة.. ثم عاد.. بيد ان الصحافة العراقية يومذاك تاخرت في اذاعة الخبر والاشارة الى هته المحاضرات التي كانت لها اهميتها وجدتها في تلكم الايام..
وعلى عادة المعهد، طبعت المحاضرات، وصدرت في كتاب مستقل عنوانه: «معروف الرصافي: حياته وشعره».
وانما كانت مناسبة ملائمة وطبيعية ان تناولت المحاضرات في مقال تحليلي نشر على صفحات جريدة «الحرية» البغدادية..
وبعيد صدور المحاضرات نشر مشكور الاسدي في حقله الخاص «خواطر» من صحيفة «الاخبار» البغدادية مقالا هاجم فيه باسلوب غير مباشر محاضرات ملقاة في معهد الدراسات العربية ، دون ان يشير الى عنوانها ولا الى صاحبها «لا من بعيد ولا من قريب» من ما اوقعني في وهم مستبد حملني على الاعتقاد ان مشكور الاسدي يقصد في كلمته المنشورة مصطفى علي ومحاضراته.
فما لبثت ان رددت على مشكور الاسدي بمقال عنيف ساخر عنوانه «خواطر» ايضا في صحيفة «اخبار المساء» البغدادية، يبدوا انه تألم له حتى اخذ يجفوني ويقاطعني..
في الوقت ذاته انهيت ذلك كله الى مصطفى علي، الذي سرعان ما ادركني جوابه: «اما ما جاء في كتابكم عما نشر حولي وردكم عليه، فتاكدوا انني الى حين كتابة كتابي هذا لم اقف عليه. ومن واجبي ان اشكركم على نبل العاطفة التي تحملونها نحوي، وان كنت اود من صميم قلبي اهمال هؤلاء وتركهم وشأنهم يقولون ما يريدون ان يقولوا ومن العبث ضياع الوقت معهم..» اكراما لثمار قلمكم ساجتهد في الحصول على جريدة «اخبار المساء» واقرأ الرد الذي نشرتموه فيها».
ثم في خلال لقائي بمشكور الاسدي بمكتب صحيفة «الاخبار» بعد ذلك بايام، وكان معي سنان سعيد، هذا الذي كان هاجم هو الاخر مشكور الاسدي في مناسبة ادبية اخرى وعلى صفحات «اخبار المساء» ايضا، اتضح لي ان كما اضفت عشرات الفروع الى بجوز الشعر ما سلف ان نشره مشكور الاسدي من نقد لا يعني الا محاضرات عبد الرحمن الزاز الملقاة ايضا في معهد الدراسات العربية الصادرة في تلكم الايام، والمطبوعة في كتاب مستقبل بعنوان «العراق بين احتلالين».
هنا اسقط في يدي.. فندمت على ما اجترحت.. واعتذرت لمشكور الاسدي.. طالبا عفوه وصفوه..
بعد التخلي عن صحيفة «كركوك» انتقلت الى تحرير صحيفة «الآفاق» التي كانت تصدر هي الاخرى باللغتين: العربية والتركية والتي كانت اعدادها تتوالى على مصطفى علي كالمعتاد..
وحاولت يوما ما ان استدرجه ليكتب بها، امتاعا للقراء والادباء، بعض الطرائف الادبية، فاذا هو يبسط لي هذا الجواب الدال على الثقة والصدق: «اتمنى لك التوفيق في عملك الصحفي وان «الافاق» تصل اليّ فاقرؤها. وكم كنت اود ان اشارك في تحريرها لولا الاعمال التي تقعد بي. اما تنشره لي «البلاد» فانها كتبت بالبصرة قبل مدة، وبعد ان تقيدت بالوعدلابي بديع بنشر تلك الكلمات في جريدته، يصعب عليّ ان البي طلب «الافاق» وان كان ذلك عسيرا عليّ. ارجو ان تساعق الظروف فتساعدني على خدمة «الآفاق» وتفضل بقبول تحياتي».
في منتصف الخمسينات صادف ان حضر مصطفى علي الى كركوك، لتأدية مهمة رسمية مستعجلة، دون ان اعلم بحضوره او اخبر به مسبقاً.
وجاءني من ينهي اليّ عصر يوم وانا قائم بوظيفتي كامين لمكتبة كركوك العامة، قائلاً: ان مصطفى علي يريد ان يراك.. فذهبت اليه بنادي الموظفين القريب من مقر عملي، وكان معه رئيس محاكم كركوك يومذاك.. فرحبت به ودعوته الى المكتبة..
وبها اطلع وتصفح ما امكن له من مظان ومصنفات حتى ادركنا العشاء، فتعشينا، ومن معنا..
ومن ثم اقلتنا سيارة خاصة الى محطة القطار، لمغادرته كركوك مضطرا الى حيث اتى.. في تلك الليلة..
فودعته وانا مسرور بلقائه المفاجئ..
على اثر ثورة الرابع عشر من تموز 1958 صدرت بكركوك صحيفة «البشير» باللغتين: العربية والتركية، وقد اكسبت حياتنا الثقافية والوجدانية ابعادا جديدة.. على اني كنت اكتب صفحتها الاخيرة، واشرف على ما يردها من موضوعات وتعقيبات..
طبيعي اني كنت ارسل بكل عدد يصدر منها الى مصطفى علي.. لكن عددا من الاعداد اعيد الينا مرفوضا مقرونا بالشكر..
عرتني الدهشة من هذا التصرف المشين غير المنتظر..
ثم صادف ان قدمت بغداد لشواغل ذاتية.. وزرت مصطفى علي بمكتبه الرسمي وهو يومئذ وزير العدل..
فقد تشعب بنا الحديث من هنا ومن هناك.. ثم تساءلت معاتبا عن سبب اعادته صحيفة «البشير» الينا.. مرفوضة..؟!
فابدى استغرابه.. وعجل يطلب سكرتيره..
عبر الحوار ظهر ان هذا السكرتير هو الذي تصرف من تلقاء ذاته فاعاد الصحيفة.. نظر اليه مصطفى علي وقال باقتضاب مشيرا الي، وموجها الكلام اليه..
- ... صديقي.. وصحيفته هدية.. فتكريما له لا ترفض..
هكذا خرج السكرتير بصعقة الخجل.. وعندما نشرت مكتبة «عبد القادر فكري» بكركوك عام 1962 كتابي «من ادب التركمان» قدمت نسخة منه الى مصطفى علي، عملا بمبدأ ايصال انتاجي الادبي، الى الاقربين من عقلي وقلبي قبل الاخرين..
فظهر لي ان مصطفى علي ارتاح من الكتاب وما تضمنه وتوخاه، لوقوعه منه ذلك الوقع الطيب الرائع؟ واذا ما انتهى الى آخر صفحة من الكتاب؟ ارسل اليّ برسالة ذات دلالة وموضوعية قائلاً بها: هديتك «من الادب التركماني» التي اتحفتني بها تلقيتها بشوق وقرأتها برغبة وارتياح فاليك شكري وثنائي.. شكري على هديتك وثنائي على تأليفك هذا الكتاب، فقد وفيت به لقومك خير وفاء.. وخدمت بنيه اجل خدمة. خدمتهم من ناحية الادب بان اظهرت ادبهم الى اخوانهم العرب وعرفتهم به ومن ناحية السياسة بان اوضحت رأيهم الصريح وجلوت شعورهم الصادق بعراقيتهم، فوفقت لان تحبط مزاعم من يرميهم بالخروج عن نطاق وطنيتهم...».
في اواخر عام 1964 جئت بغداد متخذا اياها مقراً.. هنا جعلت صلاتي الادبية والوجدانية باصدقائي وزملائي تتعاظم عمقا وقوة، وتزداد استمرارية واصالة، واهتماماتي في مضامين الفكر والثقافة والتيارات المعاصرة تشكل رافدا جديدا وعلى نحو اوسع واشمل..
فقد كنت ازور مصطفى علي بين فينة واخرى، كلما سنحت الفرصة، وان شئت فقل كلما دعت حاجة الروح والاحساس الى ذلك كله، وكنت الاقي منه ومن اسرته دواما آيات من الاعتزاز والاكتراث.. بحث ما كنت اتردد في بعض الاحوال ان اخذ معي الى زيارته بعض الاخوة الراغبين من المعنيين بشؤون الادب وشجونه بغية التعرف اليه والسلام عليه، واذكر بالمناسبة ان عبد الله الجبوري رافقني مرة اليه، وابراهيم الداقوقي مرة اخرى وناجي جواد مرة ثالثة..
وبمجرد انتقالي الى بغداد واضطلاعي بتحرير القسم العربي من مجلة «الاخاء» التي كان وما برح يصدرها نادي الاخاء التركماني حتى بعثت بعشرة اعداد منها دفعة واحدة الى مصطفى علي، عربون ولاء واكرام. فاذا هو يسوق اليّ ما شاء لطفه ويقول: «تلقيت عشرة اعداد من مجلة «الاخاء» قارداشاق» التي تفضلت باهدائها اليّ.. تصفحتها فسرني كثير من ابحاثها فاتمنى لها التقدم الرواج ولمصدريها التوفيق والنجاح.. واليك واليهم اطيب التحيات من اخيكم..».
ومن ثم واتتني فرصة طبيعية، استغللتها لاستدراج مصطفى علي لان يشارك في تحرير مجلة «الاخاء» اذا كان في وقته متسع، ولديه ما يمكن ان تتوج به عددا من اعداد مجلتنا.. فما لبث ان اعطاني قصيدة «حول البسفور» للرصافي محققه مشروحة، اذ نشرتها له شاكراً ذاكراً..
في مستهل صيف عام 1965 اصدرت كتابا عن «اعلام من الادب التركي» بمساعدة من المجمع العلمي العراقي.. وسرني ان اتقدم منه بنسخة الى مصطفى علي تذكيرا له بصلته باللغة التركية ايام الشباب الاول، وتعبيرا عن تقديري له انسانا عفيفا وكاتبا نزيها..
على انه لم يتردد لحظة ان يوجه اليّ بعيد تلاوته الكتاب من الفه الى يائه رسالة اضافية، نشرت يومذاك في صحيفة «البلد» لعبد القادر البراك اجتزئ منها بعض السطور: «كتابك: اعلام من الادب التركي» نقلني الى عهد صباي وشبابي. عهد الدراسة الاولى. يوم كان «الملا» يلقننا التعابير التركية السهلة فنقبل على تعلمها وحفظها يوم كانت هذه اللغة لغة التدريس، ومازلت اذكر الكلمات «ايشته، واولسون، وديمك، وجانم، وافندم» ونحوها التي كنا نلمع احاديثنا ونعدها من الاناقة في الكلام والظرافة في المخاطبة. وكان يزيدنا فخرا اننا كنا نجيد نطقها ونحسن استعمالها في مواقعها. ومازلت الى يومي هذا اذا احتدم بي الغضب على احد قلت بغير شعور «الله بيك بلا ويرسون». واذكر انني كنت من المتقدمين في اتقان قواعد اللغة العثمانية وفن حفظ المحفوظات «ازبر» ومازالت ذاكرتي تسعفني ببقايا ابيات او شطور مما كنت احفظ . منها هذان البيتان:
دست اعدادن صووق صو
ايجه فاندرمز سنى
مستقيم اول حضرت الله
وطاندرمز سنى
وهذا البيت:
فكر حر، عرفان حر
وجدان حر بر شاعرم
لتوفيق فكرت. وهذا الشطر « باق شور بطا قلقده قاج شريكك وار» من قصيدته «تاريخ قديم».. الشطر الذي تمثلت واتمثل به في مناسبات كثيرة. وما اكرها عندنا. ولعلك تكمل لي البيت براوية شطره الاول او بما قبله من بيت او ابيات تتعلق به وتوضح معناه..».
ويوم اتيح .. ان يصدر لي في اواخر عام 1970 كتاب جديد عن الدكتور مصطفى علي لقراءه توطئة لابداء ارأي فيه واصدار الحكم عليه،. لما كان له من موقف معروف سبق من مصطفى جواد.. وجدها سانحة، فحرر على اثرها رسالة تحليلية مفصلة اليّ بهذا الصدد، نرت في مجلة «الاديب» اللبنانية، بكاملها حينذاك. وهذه مقتطفات منها: «لايسعني – بعد شكري لك على هديتك . الا ان اثني ما تحليت به من خلق رفيع هو الوفاء لمن كان لك استاذا ومرشدا ومقوما لقلمك وسخيا في الجواب عن كل ما سألت من المشكلات اللغوية والادبية والشخصية. فكتابك في «مصطفى جواد» عنوان وفائك له.. انك مهما اطنبت بذكر استاذك ومهما اطنب غيرك من عارفي مزاياه والمشيدين بعلمه وفضله فلن تستطيعوا ان تبدلوا رأيي فيه. فان لي فيه رايا كونه وقوفي على كثير من ارائه اللغوية والادبية وغيرها يتفق معكم في جانب ويخالفكم في جانب آخر. فمصطفى جواد، من الغلاة في اللغة العربية الى حد الجمود الذي تفاقه ارباب الاقلام الحرة من الكتاب والشعراء. ولعل غلوه هذا ورثه من ابائه واجداده اكثر من وراثته نظم الشعر من جده. وانا لا ارى في اللغة الا واسطة للتعبير عما يجول في النفوس ويحوك في الصدر مع رعايا قواعدها وبنية الفاظها لا انها مقصودة لذاتها. اما نبش المعجمات لاستخراج ما دفن فيها من حوشي غريب ومحاولة احيائه فلا..؟ ويستطرد مصطفى علي قائلا: «واغرب ما قرأت في كتابك واعجبه هو زعم مصطفى جواد انه اول من ادخل القصة الشعرية الى الادب العراقي المعاصر. ولا اكتمك التي كررت قراءة زعمه مرات لاتاكد من صحته .
يدعى انه نظم القصة الشعرية قبل الرصافي وان ذلك كان عام 1915!! ليت شعري كيف جرؤ عى هذا الادعاء وهو الاديب المؤرخ.!
انه يعلم يقينا ان اول ديوان للرصافي طبع سنة 1910 وهو حافل بالشعر القصصي! ماذا ترى ؟ّ اجاد هو في قوله ام هازل..»
في مطالع السبعينات بدأت وزارة الثقافة والاعلام بطبع اجزاء ديوان الرصافي هذا الذي حققه ونسقه مصطفى علي.. فعلى اثر صدور الجزء الاول منه نشرت عنه مقالا في صحيفة «التآخي» البغدادية، جاء فيه: «انما اختط الاستاذ مصطفى علي في تحقيق الديوان وترتيب قصائده بشكل صحيح وتحديد تواريخها وشرح ما غمض من معانيها ومراميها نهجا سليما سديدا يرضي الضمير الادبي ويحقق نزاهة القصد: ففيه خدمة للرصافي نفسه وقد ظلم حيا وميتا. كذلك فيه مساهمة ايجابية في تسليط الانوار الكاشفة على كثير من الحقائق والاحداث التي تتكشف لنا عبر القصائد التي لم ينظمها الرصافي الا بعد ان عركته الحياة ومزقته المعاناة واخذت منه اسباب التحوط والتأمل في كل ما يجري هنا وهناك ويتحقق هنالك ماخذا كبيرا عميقا. وجاءت مبادرة وزارة الثقافة والاعلام تقييما لهذا كله..».
حينما زرت مصطفى علي بعد ذلك بايام كنت انتظر بالضرورة منه ان يعلق بشيء ايجابي او سلبي على ما نشرت ، ولكنه فاجأني:
- لقد كان ثناؤك على وزارة الثقافة والاعلام اكثر من ثنائك على مصطفى علي.
فما ترددت ان اوضح:
انما جهودك مشكورة وفي الوقت عينه اولا وزارة الثقافة والاعلام لما ظهر الديوان الى الوجود بهذا الشكل..
بعد تلك المدة نشرت كتابا جديدا عنوانه «مباحث في الادب العربي المعاصر» تضمن فصلا مستفيضا عن «مصطفى علي ذلك الاديب الحر المتحرر» وما ان عتمت ان اهديته نسخته الخاصة منه، ايفاء لحقه عليّ، وتقييما لدوره في الادب العراقي المعاصر، ثم اعزازا لمنزلته في نفوس الاخرين من ادباء ومفكرين وغيرهم.
فما كان منه الا ان يقول كعادته بلغة البرقيات:
اشكرك.. لا شك انك تعبت في ما كتبت.. اثرت الصمت مقدرا..
وفي احدى زوراتي الى دارته بالحارثية، وبعد ان استقر بي الجلوس على مقربة منه، وتواصلت الكلمات التقليدية بيننا، طرحت عليه سؤالا:
- مطالعاتي اسفرت عن ان هناك من الكتب النقاد من يجعل من الرصافي بلشفيا، باستغلال بيته الشهير في قصيدته «حكومة الانتداب»:
للانكليز مطامع ببلادكم
لا تنتهي الا بان «تتبلئفوا»
فليس لي الا ان استوضحك حقيقة ذلك، بصفتك راوية الشاعر لا تزيغ عن الحقن وكما عهدتك ثقة لا تنحرف عن الامانة..
فكر مصطفى علي قليلا ثم قال:
في عام 1930 دعا بعض المثقفين بالعراق الى الفاشية كامي شكوت وفائق شاكر ومن اليهما- وهم من حزب العهد الذي الفه يومذاك نوري السعيد – هنا نظم الرصافي بيتين فقط من هذه القصيدة.. المعروفة، اولهما هذا البيت الذي قرأته والبيت الذي قبله وهو:
يا قوم خلوا «الفاشية» انها
في السائين فظاظة وتعجرف
وعندما اطلعت على عادتي الجارية، على هذهين البيتين لدى الرصافي قلت له:
- لماذا لا تكملهما؟!
قال الرصافي – اهكذا؟!
فلتكن
ردد الرصافي – فلتكن..
ثم اردف مصطفى علي بالنص: ولا قصد للرصافي في هذه القصيدة».. بالرغم من هذا كله ، تشوقت اليه متسائلا:
اذا لم يكن الرصافي كذا، فهل كان اشتراكيا؟!
فعجل يجب:
الذي اعرف ان للرصافي قصيدة تحت عنوان «الى العمال» تطرق فيها الى الاشتراكية، كالذي يقول:
انما الحق مذهب الاشتراكية فيما يختص بالاموال!
مذهب قد نحا اليه ابو ذر
قيدما في غابر الاجيال
وواصل:
- كذلك فان للرصافي قصيدة اخرى سماها «آل السلطنة» ونظمها في العهد العثماني، اذ تتجلى عبرها نزعته الاشتراكية، وبها يقول:
تركوا السعي والتكسب في الدنيا
وعاشوا على الرعية عاله
يتجلى النعيم فيهم فتبكى
اعين السعي من نعيم البطالة
يأكلون اللباب من كد قوم
اعوزتهم سخينة من نخاله
فكان الانام يشقون كدا
كي تنسال النعيم تلك السلالة
وكان الاله قد خلق الناس
لمحيا آل السلاطين آله..
ثم ليس هناك نصوص شعرية اخرى في مثل هذا المعنى.. ذلك ما في علمي.. هنا لك ان تستنتج او لغيرك ان يستنتج من هذا كله ما اذا كان الرصافي من دعاة الاشتراكية ام لا؟!
بعد انتهاء طبع الجزء الخامس من ديوان الرصافي عام 1977 بمدة مررت بمصطفى علي، رعيا لعهد الصداقة القديمة، وعرضا لبعض من قضايا الفكر والثقافة الدائرة هنا وهناك..
كان اول شيء فعله هو ان آتى لي بنسخة من الديوان وقال:
- هذه نسختك من الجزء الاخير.. بينما نفدت نسخ الجزءين الاول والثاني من المكتبات والاسواق، وكلي رجاء ان يعاد طبعهما اكراما للشاعر الراحل، واعماما لفائدة الاجيال الادبية.
علقت على كلامه:
- اريد نسخة من الجزء الاول، اذا كانت متوفرة .. تحقيقا لرغبة صديق من الادباء في خارج القطر العراقي يتشوق اليه بحرارة.
هناك نسختي ولك ان تستعيرها مني اذا شئت؟
لديّ نسخة من هذا الجزء مهداة منك الي في 26/5/1972 ولكن اسعى للحصول على نسخة منه، لابعث بها الى صديقي، هذا الذي اود ان اؤدي له خدمة مسكنه.
كما المعت ، ليست لدي الا نسختي الخاصة..
ثم افضى اليّ مصطفى علي، بما نم على احساسه الباطني المتفجر.
انا الان مرتاح جدا .. لصدور هذا الجزء الخامس وهو الاخير من الديوان كما تعرف، وقد كان شغلي الشاغل في الفوائت من ايام واعوامي بعد هذا كله لا املك من نفسي شيئا الا ان ارجي الثناء على جهود عبد الحميد الرشودي، لاشرافه على تصحيح تجارب معظم اجزاء الديوان اثر الكارثة التي اصيبت بها عيناي..
ان الرشودي يستحق ثناءك.. وثناء كل منصف ومعجب بادب الرصافي. ولكن أليس للرصافي شعر غير هذا الذي تحويه الاجزاء الخمسة من ديوانه؟!
بلى .. هناك اشعار لم يرد الرصافي في حياته ان تنشر في ديوانه.. وقد نقلتها بنفسي الى دفتر مستقل من مصادرها، وحين اردت ان اطلع الرصافي عليها انبرى محتدا بعض الشيء، وقائلا باللهجة الدارجة:
وهاي وين لكيتها..؟؟
صمت مصطفى علي برعة..
وتهيا لي المناخ النفسي الملائم لان ابوح له ما يجول بتلافيف عقلي:
اخشى ان تكون هذه الاشعار، تلك التي عثر عليها محمود العبطة ، واعلن عنها وعن اهتمامه بنشرها؟
ابتسم مصطفى علي ورد:
لا ادري؟.. الا ان الذي ادريه ان عبد الحميد الرشودي جاءني يوما يحمل من محمود العبطة قصيدة للرصافي على اساس انها غير منشورة سابقا، فاذا القصيدة احدى قصائد الجزء الثالث من الديوان الذي تم طبعه ونشره.
ترى اية قصيدة هذه؟
قصيدة الانقلاب يوم سقوط وزارة الهاشمي.
وبالمناسبة عن اشعار الرصافي هذه التي لم تنشر، فهل يمكن الاطلاع عليها، لمجرد الاطلاع..
بكل سرور.. واذا شئت اعطيتك اياها.. لتنظر فيها، او تنشرها مستقبلا..
شكرا كثيراً..
وفي زيارتك المقبلة، ستجد هذا المخطوط حاضراً..
في مساء يوم الاربعاء: التاسع والعشرين من اب 1979 زرت مصطفى علي بمناسبة حلول عيد الفطر وكنت بالضرورة اجهل ان هذه الزيارة كانت الاخيرة..
جلسنا في فناء البيت.. تطل على حديثة لطيفة زاهرة .. ثم غاب مصطفى علي برهة.. وعاد يحمل بيده ذلك الدفتر الذي سجل فيه بخطه اشعار الرصافي غير المنشورة في ديوانه.. اذ قدمه اليّ برغبة وثقة.. انجازا لوعد كريم قطعه عليّ مثبتا انه صاحب اخلاق بالمعنى الصحيح.. فتقبلت ذلك بقبول رائح حري بالذكر الدائم..
واحسبني ترددت في القاء سؤال اخير عليه دار بخلدي لتسوي في هذا الصدد.. بيد ان شخصية مصطفى علي القوية المحببة، تجعل المرء الجالس قبالته يفيض ويضيف.. ثم قلت:
اذا سمحت ان اعرف اذا كان هناك شعر مخطوط آخر للرصافي لا يحويه حتى هذا الدفتر ايضا..
اعطيت عبد الحميد الرشودي ملفا فيه بعض المقطوعات الشعرية غير المنشورة ايضا..
ثم جعلنا تجاذب حبال الحديث من كل طرف وفي كل لون..
عاش مصطفى علي ثمانين عاما، فما رأيته في يوم ما، يشكو من دار او عارض.. كان كلما زرته او لقيته، يذكر لي: ان حصته العامة جيدة، وضغطه الدموي طبيعي، وانه يتطلع الى انبائي مستفسرا ومستزيدا باشتياق.. لكنه في اعوامه الاخيرة، وبالتاكيد بعد اكماله اعداد ديوان الرصافي بجميع اجزائه اصيب في عينيه.. ذلك تقدير العزيز العليم، على نحو لم يقدر معه في ما بعد ممارسة اي نوع من النشاط.. وجعله يقبع بدارته، منكمشا على نفسه. مجترا ذكرياته وانطباعاته.. ثم مستقبلا دواما احباءه واصدقاءه وانا احدهم، برحابة ومودة واعزاز.. غير خارج الا للضرورة، واذا اراد الخروج مضطرا فمع آخر.. في صبيحة السبت: الواحد من شهر اذار عام 1980 نهض مصطفى علي من نومه بغتة، وهو متعب مضطرب الى اقصى حد، فطلب من اهله استقدام الدكتور عبد الله الجنابي فورا.. حتى اذا ادركه الطبيب وجده فاقدا وعيه واحساسه.. مصابا بجلطة.. وهبوط في القلب .. وعجز في الكلى.. تعددت الاسباب والموت واحد؟ّ! فسرعان ما نقله الى المستشفى.ظل على هذه الحالة الميؤوس منها، ثلاثة ايام..
وفي ظهيرة يوم الثلاثاء: الرابع من اذا فارقنا فراقا ابديا..
كان الحزن على غيابه بين اصدقاءه وزملائه على القرب والبعد عميقا شديد الوطأة..
قال لي استاذنا جمال الالوسي وانا اطيب خاطره: «ماتت زوجتي.. ومات ولدان من اولادي. فلم احزن عليهم كما حزنت على موت مصطفى علي، هذا الصديق والانسان الذي عرفته منذ ستين عاما...».
في ذمة الله يا ابا علاء.. يا امثولة الشرف والوفاء..
مجلة صوت الاتحاد 1984