عباس كيارستمي.. سينما مطرزة بالبراءة

عباس كيارستمي.. سينما مطرزة بالبراءة

زياد عبدالله
يندرج كتاب”عباس كيارستمي..سينما مطرزة بالبراءة”(إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011 – ضمن سلسلة كتاب البحرين الثقافي- إعداد وتقديم الكاتب والناقد البحريني أمين صالح) ضمن المراجع التي لا غنى عنها لمعاينة عالم المخرج الإيراني عباس كيارستمي الذي توفي الإثنين الماضي 4 يوليو/تموز 2016.

ومن يعرف كتب أمين صالح في السينما له أن يوافق على القول إن من حظنا الجيد وجود هذا الكتاب باللغة العربية، هو الذي قدّم وترجم كتباً عديدة في السينما أضافت الكثير لكل مهتم ومتابع، إذ تكفي ترجمته كتاب أموس فوجل”السينما التدميرية”وتقديمه كتاب”النحت في الزمن – أندريه تاركوفسكي”2006، و"عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي.. براءة التحديقة الأولى”2009، وصولاً إلى آخر إصدارته”سينما فرنر هيرزوغ: ذهاب إلى التخوم الأبعد”2013. ولتشكل تلك الكتب مضافاً إليها كتاب كيارستمي سلسلة فريدة في عالمنا العربي، وكل كتاب منها يقدم مرجعًأ غنياً ووافراً لكل مخرج من المخرجين سابقي الذكر.
وإن كان لي أن أصف كتاب”سينما مطرزة بالبراءة”في عبارة فلها أن تكون”كل شيء عن كيارستمي”حيث يبدأ الكتاب من تعريفه للسينما”هي الصورة التي لا تكون محصورة ضمن حدود ما تراه. إن لها طبقات عديدة مختلفة، وتلك الطبقات تغمر أحياناً الصور التي تراها، فلا تفكر إلا في هذه الطبقات. تلك هي السينما"، وليضعنا الكتاب في سياق رحلة مع المخرج الإيراني في خطوط متوازية ومتوالية بين حياته وفنه في أسلوب رشيق غني، ما يجعل قراءة الكتاب فرصة استثنائية لمعرفة كل شيء عن كيارستمي مخرجاً وكاتب سيناريو ومونتيرا ورساماً ومصورا وشاعراً، وبالتأكيد محطات حياته وانعطفاتها وآرائه في الفن والسياسية والحياة.
ينقسم الكتاب إلى خمسة أقسام رئيسة، الأول يضعنا حيال سيرة كيارستمي السينمائية والحياتية، ومنابعه وتكوينه، والفنون الأخرى التي انغمس بها قبل تجربته السينمائية أو بالتوازي معها، ولتندمج وتظهر جميعاً في أفلامه، هو الذي كان يعمل في إدارة المرور ويدرس الفن التشكيلي في جامعة طهران، الدراسة التي مكنته من اكتشاف أنه لم يخلق ليكون رساماً، والتعرف على التصميم الغرافيكي، ولتكون خطوته الفنية الأولى متمثلة بالعمل مصمماً لأغلفة الكتب والملصقات الإعلانية والدعائية والعمل في مجال الإعلان عن الأفلام مقدما من 100 إلى 150 إعلاناً للتلفزيون الإيراني وذلك في ستينيات القرن الماضي، ومن ثم عمله مصمم غرافيك لكتب الأطفال في”مركز التنمية الثقافية للأطفال والشباب”وحصوله على بعثة إلى تشيكوسلوفاكيا للتعرف على أعمال السينمائيين التشيكيين في مجال أفلام الأطفال والتحريك.
"لكن ومع اندلاع الثورة والإطاحة بالشاه وإعلان الجمهورية الاسلامية في فبراير 1979، تم حظر الأفلام السينمائية، فتوقف الانتاج السينمائي كلياً، وهاجر الكثير من السينمائيين في مختلف المجالات، أما من بقي من المخرجين، وهم قلة: داريوش مهرجوي، أمير نادري، عباس كيارستمي..فقد لاذوا بالصمت والترقب. وكيارستمي يعتبر بقاءه في إيران آنذاك من أهم القرارات التي اتخذها في مسيرته، إذ إن قاعدته الأساسية، الدائمة، توجد في إيران، وإن هويته الوطنية هي التي قوّت وعززت قدرته كصانع أفلام."
طبعاً تغيرت الأمور مع خطاب للخميني (المعجب بفيلم مهرجوي الشهير”بقرة") قال فيه”السينما هي اختراع حديث ينبغي أن يستخدم من أجل تعليم الشعب..”وحدث الإنفراج النسبي في الانتاج السينمائي مع تولي محمد خاتمي وزارة الثقافة (من 1982 إلى 1993) وإنشاء مؤسسة الفارابي السينمائية.
في هذا القسم يضيء الكتاب على كيارستمي المصور الفوتوغرافي ومعارضه الكثيرة التي أقامها في أكثر من مكان حول العالم هو الذي كان يعتبر الفوتغراف”وسيطاً أنقى من السينما بما أنه متحرر من عبء السرد والترفيه"، كما يسلط الضوء على تجربته في الإخراج المسرحي وصولاً إلى الأوبرا التي أخرجها في بريطانيا عن بعد كونه لم يمنح تأشيرة تخوله دخول الأراضي البريطانية.
يحتوي القسم الثاني من الفيلم فيلموغرافيا كيارستمي في استعراض لجميع أفلامه ابتداء من أول فيلم له”فيلم وزقاق”1970 (مدته 12 دقيقة)، وصولاً إلى آخر أفلامه”نسخة طبق الأصل”2009، أخرج كيارستمي فيلمين بعده هما”كمن هو عاشق”وفيلم قصير جماعي”فينسيا 70". يقدم هذا القسم شرحاً مستفيضاً لكل فيلم وملابسات صنعه، وما قاله عنه كيارستمي، مع تسليط الضوء على أهمية كل واحد منها في مسيرة صاحب”طعم الكرز".
وليأتي القسم الثالث تحت عنوان”هكذا تحدث كيارستمي"، حيث يمكن للقارئ أن يتعرف على بعض مما ورد في القسم الأول لكن كما كتب عنه كيارستمي بنفسه، متحدثاً عن حياته وطفولته وعلاقته بالتشكيل والغرافيك، وليكون الجزء الأكبر مخصصاً للسينما وهو يقول على سبيل المثال”الاختلاف بين الفيلم والحياة هو اختلاف بين شيء مختلق وشيء حقيقي، أو اختلاف بين شيء مصنوع أو متخيل وشيء واقعي. ما أحاول أن أفعله هو أن أحقق أفلاماً هي حقاً قريبة من الصدق، لكن هذه مجرد محاولة، تجربة. إن أحاول، وهذا لا يعني أني نجحت..”وفي اقتباس آخر يقول”أنا لا أميل إلى الانشغال بسرد القصص. لا أميل إلى إثارة المتفرج عاطفياً أو توجيه النصيحة إليه. لا أميل إلى التقليل من شأن المتفرج، أو الاستخفاف به، أو جعله مثقلا بالاحساس بالذنب. تلك هي الأشياء التي لا أحبها في الأفلام. أظن أن الفيلم الجيد هو ذاك الذي يمتلك طاقة دائمة وأنت تبدأ إعادة بنائه مباشرة بعد مغادرتك صالة السينما. هناك العديد من الأفلام التي تبدو مضجرة، غير أنها أفلام جديرة بالاحترام. من جهة أخرى، هناك أفلام تسمّرك إلى مقعدك وتثبّتك في مكانك وتغمرك إلى درجة أنك تنسى كل شيء، لكنك تشعر فيما بعد بأنها خدعتك واحتالت عليك..”وليأتي بعد ذلك نص ليكارستمي بعنوان”معجزة السينما”وقد كتبه في مناسبة الذكرى المئوية للسينما، وهنا يوضح صاحب”عبر أشجار الزيتون”مفهومه عن السينما الناقصة واصراره على أن لكل قصة فجوات وثغرات ومساحات خالية على الجمهور أن يملأها.
ويفرد ما تبقى من الكتاب، لحوارات مع كيارستمي، ومن ثم قسم أخير يحتوي مختارات من أهم المقالات التي كتبت عن صاحب”أين منزل صديقي”وأفلامه، ولنكون في النهاية أمام مرجع هام وجميل يضع القارئ أمام خفايا عالم كيارستمي المترامي