عباس كيارستمي.. السينما التي  لا تشبه إلا ذاتها

عباس كيارستمي.. السينما التي لا تشبه إلا ذاتها

إبراهيم العريس
«تعجز كلماتي عن وصف شعوري تجاه هذه الأفلام. حين رحل ساتياجيت راي، شعرت بانهيار شديد. ولكني بعدما شاهدت أفلام كيارستمي، شكرت ربي على كونه أعطانا الشخص المناسب ليأخذ مكانه». قائل هذا الكلام ليس سوى المخرج الياباني الكبير الراحل آكيرا كوروساوا. وهو كتبه كما يبدو واضحًا، بصدد أفلام المخرج الإيراني الراحل قبل أسابيع عباس كيارستمي،

ليضاف كلامه إلى ما قال كبير آخر من كبار السينما العالمية في أيامنا هذه، مارتن سكورسيزي مشيرًا إلى أن كيارستامي يعد من بين أفضل السينمائيين الأحياء في العالم. واليوم بعد رحيل صاحب «طعم الكرز»، و«أين منزل الصديق؟»، يمكن التساؤل عن المكانة التي يحتلها في تاريخ السينما، وقد اكتملت سينماه، ولم يعد قادرًا على إضافة شيء إلى ما سبق له إنجازه. مهما يكن، من المؤكد أن رحيل كيارستمي، سوف يعدل النظرة إلى سينماه ومساره الفني؛ إذ لم يعد قادرًا الآن على أن يحدث أي تعديل فيه.

لكن رحيل كيارستمي أتى مفاجئًا، وفي وقت كان الرجل لا يزال مملوءًا بالأحلام والمشروعات. هو الذي كان يقول دائمًا إن لديه باستمرار شيئًا يقوله، في سينماه، وهو الذي كان التجديد، في الموضوعات والأشكال السينمائية سمة أساسية لديه، ناهيك عن اهتمامه بعدد لا يستهان به من الفنون الأخرى، كالأوبرا والشعر والتصوير الفوتوغرافي والمسرح. فكيارستمي كان من طينة اولئك المبدعين القلة في الأزمان الأخيرة، الذين لا ينظرون إلى السينما، مجال نشاطه الرئيس على أي حال، كفن بين الفنون، بل كفن يشمل العديد من الفنون. ومن هنا حتى وإن كان إيرانيًّا، في تراثه وتعبيراته، فإنه لم يكن منغلقًا على هوية محددة، أو على ثقافة محدودة. بمعنى أنه حين انصرف في سنواته الأخيرة إلى تحقيق أفلام في «الخارج»، مرة في أفريقيا «إ.ب. ث. أفريقيا»، ومرة في إيطاليا مع نجمة فرنسية ومغني أوبرا إنكليزي شهير، «نسخة طبق الأصل»، وثالثة في اليابان «مثل شخص مغرم»، لم يكن يرى نفسه منفيًّا خارج بلده، وخارج ثقافته؛ بل متابعًا عمله في سبر أغوار الموضوعات التي دائمًا ما أثارت اهتمامه، ولكن أكثر من هذا، الأشكال السينمائية التي كانت تحركه فتستنفره، ويجدد فيها، كي يبدع تلك السينما المتفردة، التي من الصعب القول إنها تشبه أية سينما أخرى.

إعادة اختراع الحقيقة
ولعل «الشكل» السينمائي الأول لديه يتلخص في ذلك المزج المدهش بين الواقع والخيال، أو بالأحرى، إعادة اختراع الحقيقة انطلاقا من فكرة تخييلية مستمدة أصلا من الواقع. وليس هذا لعبًا على الكلام هنا، بل قسط من جوهر اللعبة الفنية، يتمثل لدى كيارستمي منذ البداية، ويجد نموذجه الأمثل في العلاقات الاستنباطية التي تربط أفلام ثلاثيته المشتهرة والمسماة «ثلاثية كوكر»، لأن «أحداث أفلامها الثلاثة» تقع في منطقة جبال كوكر الإيرانية، المنطقة التي بقدر ما اشتهرت بأفلام كيارستمي، اشتهرت كذلك بالزلزال العنيف الذي وقع يومًا فيها. لكن ما يجدر ملاحظته هنا هو أن كيارستمي قد بدأ الاشتغال سينمائيًّا على قرية في تلك المنطقة الجبلية، قبل وقوع الزلزال، وكان ذلك في أول أفلامه الشهيرة «اين منزل الصديق؟». أما الزلزال فقد حدث لاحقًا بعد إنجاز الفيلم، ما دفع المخرج، في ربطه المحكم بين الواقع والسينما، إلى أن يعود بعد الزلزال إلى المنطقة ليصور فيلمًا ثانيًا هو «الحياة مستمرة»، موضوعه الزلزال، والبحث عن مصير صبي الفيلم الأول على وقع تلك النكبة…

قد يبدو كلامنا هنا أشبه بالكلمات المتقاطعة، ولذلك سنعود إليه مواربة، انطلاقًا من سؤال قد يبدو تبسيطيًّا هنا، لكن أهميته سوف تنجلى بعد قليل: ترى لولا الزلزال المريع الذي عرفته منطقة شمال إيران خلال حزيران (يونيو) 1990م، هل كان من شأن سينما المخرج الإيراني الكبير عباس كيارستمي، أن تلفت نظر العالم إلى الحد الذي لفتته به؟ وبشكل معاكس يمكن طرح السؤال على النحو الآتي: لولا ثلاثية عباس كيارستمي المؤلفة من أفلامه «أين منزل الصديق؟»، «الحياة مستمرة»، و«عبر أشجار الزيتون»، هل كان يمكن لذلك الزلزال المرعب أن يبقى في ذاكرة الناس الذين لم يعيشوا ذلك الزلزال حقًّا؟

نطرح هذين السؤالين لمجرد الإشارة إلى ذلك التواصل المدهش بين ما ينتمي إلى عالم الواقع والحياة، وما ينتمي إلى عالم الفن، نعني الفن الحقيقي الذي ينهل من الحياة وشرايينها. ومع هذا فإن العلاقة بين سينما كيارستمي والزلزال الذي ضرب شمال إيران يوم 21/6/1990م، لم تبنها سوى صدفة مدهشة جعلت من تلك المنطقة المكان الذي صور فيه كيارستمي واحدًا من أجمل وأول أفلامه وهو «أين منزل الصديق؟».

إذًا، حين صور المخرج فيلمه هناك، لم يكن الزلزال قد حدث بعد. والفيلم يدور من حول حكاية هادئة عن فتى يبحث عن منزل صديقه ليعطيه دفتر دروس كان هو قد احتفظ به، خطأ. الذي حدث بعد إنجاز الفيلم، هو أن الزلزال ضرب المنطقة نفسها ودمر القرية التي يسكن فيها الصديق الذي بحث الفيلم الأول عن منزله. ومن هنا كان من الطبيعي لكيارستمي أن يحقق فيلمًا جديدًا يدور من حول البحث عما آل إليه مصير بطل الفيلم الصغير. فإذا بالفيلم يكشف عن إصرار الناس على العيش على رغم قسوة الزلزال. أما الجزء الثالث من الثلاثية فأتى متحدثًا عن قوة الفن وارتباطه بالحلم من خلال حكاية شاب يحب فتاة، لكن أهلها لا يرغبون فيه عريسًا لها، لأنه لا يملك بيتًا. وإذ يحدث الزلزال، يصبح أهل الفتاة أنفسهم من دون بيت، فيتساوى الطرفان. لكنهما (الفتاة والفتى) لا يجتمعان إلا ككومبارس خلال تصوير فيلم كيارستمي الثاني، حيث يحل اجتماعهما في الفن ـ الفيلم، محل اجتماعهما في الحياة. وهكذا صار للزلزال ثلاثية. ولكن لئن كان العالم كله قد اهتم بالثلاثية فإن الإيرانيين أنفسهم – وهذا طبيعي – اهتموا بالزلزال نفسه، لأن جمال السينما وعمقها لا يمكن أن ينسيا أحدًا عمق المأساة ورهبتها.

والحقيقة أننا ما أسهبنا في الوقوف عند هذه النقطة، إلا لأنها تكاد وحدها تختصر تلك العلاقة التي يقيمها كيارستمي بين الواقع والفن. ونعود هنا إلى رحيل كيارستمي، الذي لم يكن أحد يتوقع له أن يأتي على مثل تلك السرعة؛ فالرجل كان معروفًا منذ شهور، أنه مريض وتزداد حال مرضه سوءًا يومًا بعد يوم، لكن أحدًا لم يكن يتوقع أن يكون رحيله بمثل هذه السرعة. فصاحب الأفلام الكبيرة التي طبعت السينما العالمية بتجديداتها اللغوية والمفهومية، وساهمت في السمعة المبهرة التي حازتها السينما الإيرانية في العالم، كان لا يزال يعطي حتى شهور قليلة خلت، مؤشرات حيوية لا تنضب، ويشتغل على موضوعات عدة لمشروعات مقبلة. ومع هذا، ها هو نبأ رحيله يصل في وقت كنا نتساءل عمّا سيكون مشروعه المقبل؟ سينمائيّ، أوبراليّ، فوتوغرافيّ، أدبيّ…؟ فكيارستمي خاض كل هذه الأنواع وغيرها، مجتمعة أو متفرقة، في داخل إيران وخارجها، وخصوصًا بالنسبة إلى الأنواع غير السينمائية، خارجها.

مهما يكن، وعلى رغم أن كل الدلائل كانت دائمًا تشير إلى أن عباس كيارستمي غير راضٍ عن بعض سياسات بلاده، من دون أن يجعل من نفسه وفنه سلاحًا في أي معركة من هذا النوع، كان كثر يدهشون لكونه لا يغادر إيران نهائيًّا كما فعل حتى الآن معظم كبار المبدعين والمفكرين الإيرانيين، تمامًا كما دهشوا حين انصرف، من دون أي إعلان سابق، ومن دون أداء دور المضطهد أو الشهيد، خلال الأعوام الأخيرة إلى تحقيق فيلميه الأخيرين في الخارج: في إيطاليا بالنسبة إلى «نسخة طبق الأصل»، وفي اليابان بالنسبة إلى «مثل شخص مغرم». واللافت أن ليس لأي من هذين الفيلمين علاقة بسينماه القديمة الرائعة، ولا بإيران نفسها، ظاهريًّا على الأقل كما سوف نرى بعد قليل.

ألم نعرف دائمًا أن كيارستمي فنان تجريب متواصل، وعلى كل الصعد، منذ أفلامه الأولى؟ وتجريبية كيارستمي كانت تشمل كل شيء، من الاشتغال بالتصوير الفوتوغرافي، إلى ربط أفلامه بعضها ببعض.

عوالم استثنائية
باكرًا، منذ أول أفلامه إلى «ستحملنا الرياح»، و«كلوز آب»، وما تلاها من أفلام، سرعان ما غزت العالم وحققت الجوائز الكبرى، وأضافت اسم عباس كيارستمي إلى أسماء أولئك السينمائيين العالميين الكبار: ساتياجيت راي الهندي وكوروساوا الياباني، وحتى يوسف شاهين المصري، الذين يؤكدون دائمًا مقولة أن لا مكان لنبي في بلده، حدد كيارستمي عوالمه السينمائية: سينما عن الموت والحياة، سينما عن السينما، سينما لا تخاف خوض التجارب، سينما تتأرجح بين الوثائقي والروائي، سينما عن الفرد وموقعه، سينما روحية تكاد تكون صوفية، سينما تستنجد بالصورة لكنها لا تخشى اختفاءها تاركة للأصوات أن تشتغل بديلة منها، ثم بخاصة سينما تشاكس إنما لا يبدو عليها أنها تفعل ذلك، تشاكس أخلاقيًّا وسياسيًّا وجماليًّا… ولكن دائمًا بالاستناد إلى ذلك المكر الإيراني الظريف والخفي الذي كان كياروستمي ملكًا من ملوكه في مجال الفن.

وعلينا للتيقن من هذا على أية حال، أن نتذكر امرأة فيلم «عشرة”وهي تتجول بسيارتها في شوارع طهران مبدّلة ركّابها عشر مرات، أو نساء إيرانيات وهنّ يشاهدن بشغف حكاية «شيرين» تمثَّل أمامهن على شاشة لا نراها. أو ذلك الشغف بالسيارات ودلالاتها في درامية أفلامه… هذا كله وغيره علينا أن نتذكره كي ندرك الخسارة التي يمثلها غياب هذا المبدع الكبير الذي حين سئل يومًا لماذا لا يغادر إيران كما فعل غيره، أجاب مبتسمًا: «أنتم لو انتزعتم شجرة من أرضها وزرعتموها في أرض أخرى، قد تواصلون الحصول على ثمارها، لكنها لن تكون طيبة المذاق كما كانت حالها في أرضها القديمة». والحقيقة أن مقارنة سريعة بين أفلام كيارستمي الإيرانية، والسينما التي حققها في الخارج، ستحسم الجواب هنا.
في زمن العالم
على رغم أن فيلم «طعم الكرز» حقق لكيارستمي الفوز السينمائي الأكبر في تاريخه، إذ نال عنه السعفة الذهبية في مهرجان «كان”السينمائي، بعدما كان تخلى منذ زمن عن تلك الافلام التي تتناول الأطفال، والتي كانت تشكل المسموح بلا جدال في الإنتاج السينمائي الرسمي الإيراني، على خلاف السينما التجريبية التي كانت دائمًا هوى كيارستمي الأكبر، لم يتوانَ الرجل عن المجازفة بكل شيء ذات يوم، ليتصرف على هواه، وبالتدريج. فهو استأنف عمله السينمائي مع فيلم «عشرة»، الذي ابتكر له شكلًا سينمائيًّا يكاد يكون توثيقيًّا: وضع كاميرات في مقدمة سيارة بطلته (ليلى خاتمي) وجعل هذه تتجول بسيارتها في شوارع طهران، عشر جولات تترافق فيها، غير مرة مع ابنها، ومرات مع صديقات لها، ليعالج في الفيلم، وكأنه يحقق ذلك العمل الوثائقي عن إيران، تجربة سينمائية فيها قدر كبير من الارتجال. ولكن الأهم من ذلك أن فيها، إلى جانب تلك الأشكال الفنية المبتكرة، معالجة جدية، وإنما دون تطبيل أو تزمير لقضية المرأة الإيرانية، من منطلق إنساني شامل، غير ذي علاقة كبيرة – في الجوهر – بالوضع الإيراني الخاص. ونعرف أن هذا المخرج شعر بعد «عشرة”بشيء من الانسداد الإبداعي، إذ صار من الصعب عليه إن يعثر على موضوعات جديدة ترضي تجدّد لغته السينمائية، هو الذي بدأ يتجه أكثر وأكثر ناحية التجريب الشكلي. ومن هنا، حتى حين كتب «دماء وذهب» ليحققه بنفسه، رأى في نهاية الأمر أن فكرة الفيلم لا تناسبه كمخرج، لذلك انتهى إلى أن يعهد به إلى صديقه – ومساعده السابق – جعفر باناهي فحققه هذا ليغدو من بين يديه فيلمًا كبيرًا حقًّا.
في عالم التجريب
في العام 2004م يعود كيارستمي إلى «كان”ولكن هذه المرة مع فيلمين آخرين تجريبيين، يحملان قدرًا أكبر من الجرأة اللغوية، وكانا، على أية حال، حصيلة تجربة الانسداد التي عاشها عباس كيارستمي. فهو، من ناحية، حين كان منكبًّا شمالي طهران على ضفاف بحر قزوين على كتابة سيناريو «دماء وذهب»، راح يلهو بكاميراه الرقمية، وبدأ تصوير مجموعة من الصور واللقطات اختصرها في نهاية الأمر إلى خمس هي التي تشكل جوهر فيلم «خمسة»… وهي لعبة بصرية بحتة لا تخلو من الجمال، وتقارب ما كان يفعله فيم فندرز حين زار أميركا للمرة الأولى. هنا بالنسبة إلى كيارستمي، من الصعب إيجاد علاقة بين المشاهد «بل إن العمل يدنو أكثر ما يدنو من فن الرسم» كما في معرض علقت على جدرانه لوحات، لا يجمع بينها في نهاية الأمر سوى كون رسامها كلها واحدًا: فمن الكاميرا التي تتبع قطعة خشب تطفو فوق سطح مياه البحر، إلى أشخاص يتنزهون على كورنيش قرب الشاطئ ثم يخلون المكان حتى لا يبقى سوى الأمواج تتكسر عند ذلك الشاطئ، وصولًا إلى أشكال عند شاطئ بحر شتوي من الصعب تمييزها أول الأمر، حتى يتبين لنا ما يسميه كيارستمي «حكاية حب ومجموعة من الكلاب اللاهية»، ثم إلى مجموعة من البط تحل محل الكلاب آتية ذاهبة على الشاطئ، وأخيرًا إلى حركة البحر ثم الليل والضفادع والعاصفة حتى طلوع الفجر. هذه المشاهد تشكل في مجموعها حركة تشبه حركات عمل موسيقي متكامل يريد أن يصل إلى النهاية، ولو عبر وجوه ودروب عدة تبدو مفـرقة أول الأمر.

أما «الفيلم”الثاني لكيارستمي في «كان”ذلك الحين فكان «عشرة على عشرة». وهو فيلم يستغرق عرضه قرابة الساعة ونصف الساعة، والتجريب فيه يبدو أقل. وعنوان الفيلم واضح: إنها عشرة دروس تتعلق بفيلمه «عشرة». فهو هنا يفعل ما فعله دائمًا من العودة في «فيلم جديد» لى فيلم سابق له، أو ربما إلى سينماه كلها، أو حتى إلى كل تاريخ السينما، وهكذا نراه يجيب هنا في هذه الدروس، عن كل الأسئلة التي طُرحت أو كان يمكن أن تطرح حول ذلك الفيلم، عبر تقديم وحديث عن حركة الكاميرا؛ فالموضوع والسيناريو وإعداد أماكن التصوير وصولًا إلى الموسيقا… وبقية الأمور المتعلقة بالفيلم. ويقول كيارستمي: إن ما دفعه إلى صنع هذا العمل «التعليمي»، و«التفسيري”أولًا وأخيرًا، هو رغبته في توضيح الفارق بين «عشرة”وبقية أفلامه، التي صور معظمها في الطبيعة، فيما صور «عشرة”داخل سيارة امرأة تجوب شوارع طهران. وكذلك رغبته في المقاربة بين «عشرة”الذي هو فيلم عن المرأة وحساسية المرأة ومعضلات حياتها، وبين فيلمه الأسبق «طعم الكرز»، الذي كان فيلمًا عن حساسية ذكورية واضحة. وللوصول إلى هذا ركز كيارستمي كاميراه في حيز متعلق بـ«طعم الكرز»، وراح يصور ويلقي درسه السينمائي معلنًا أن للأمر أهميته بالنسبة إليه؛ «إذ هنا استخدمت للمرة الأولى في العام 1996م كاميرا فيديو، أنهيت بها بعد صعوبات، آخر مشاهد «طعم الكرز». واليوم أشعر أن ذلك الربط، عبر كاميرا الفيديو، ساهم كثيرًا في ما أراه من تقارب بين الفيلمين»…
من الواضح أن عباس كيارستمي الذي حقق في 1970م فيلمه الأول «الخبز والشارع» كفيلم قصير وحقق في العام 1974م فيلمه الطويل الأول «مسافر»، كان عَرْض «فيلميه”التجريبيين هذين في «كان»، تمهيدًا لذلك العرض الكبير الذي خُصّ به في سينما «م ك 2”في باريس، ليشمل كل أفلامه، إضافة إلى عرض لصوره بدأ بالفعل قبل أيام منه في باريس أيضًا. والحال أن كل هذا إنما أتى يومها تتويجًا لجهود مخرج من إيران، عرف بسرعة كيف يتجاوز تعامل أهل السينما العالمية والجمهور معه، ذلك «التعامل الاستشراقي» الذي يكون عادة من نصيب هذا النوع من السينمائيين ليفرض حضوره في الساحة العالمية، مخرجًا استثنائيًّا من طراز خاص، يجمع بين عبق السينما ذات الرسالة، ونقاء الفن البصري الخالص…
انعطافة إلى الخارج
ومن هنا نعود مع كيارستمي إلى «كان”مرة أخرى ولكن هذه المرة، بعد سنوات، وبعدما كان قد سكت مدة من الزمن تبين بعدها أنه متجه للاشتغال، خارج إيران، وهذه المرة أيضا دون تطبيل أو تزمير ودون إعلانات انشقاق أو غضب أو ما شابه ذلك.

يومها، وعلى رغم كميات الدم القياسية في فيلم «هيجان”للياباني تاكيشي كيتانو، وكميات الدموع المدهشة في «المال لا ينام»، ونصف دزينة من أفلام أخرى عرضت في دورة «كان»، حتى اليوم وكميات السوائل الأخرى المرعبة وأمراضها على الأقل في فيلم المكسيكي أليخاندرو إيناريتو «بيوتيفول»، عرف ضيوف العروض «الكانيّة”كيف ينعمون لساعات ولو قليلة بلحظة سعادة شاعرية، ربما أنستهم، ولو مدة يسيرة، بؤس العالم وعنفه، وضراوة الوجود التي عبّر عنها معظم ما عرض من أفلام داخل المسابقة وخارجها. هذه اللحظة السعيدة سينمائيًّا على الأقل أمّنها عباس كيارستمي في فيلمه الجديد المتباري يومها، في التظاهرة الأساس «نسخة طبق الأصل».
ومن هنا حين صفّق المتفرجون كثيرًا عند نهاية عرض الفيلم كان من الواضح أن تصفيقهم حمل معاني كثيرة: صفقوا للمخرج الإيراني الكبير؛ إذ حقق أول فيلم له خارج حدود بلاده – بعد فيلمه الإفريقي التسجيلي عن الأوبئة في القارة البائسة -، وربما أيضًا خارج موضوعاته المعتادة، وهذا أمر قابل للنقاش طبعًا. صفقوا للسعادة التي أعطاهم الفيلم إياها خلال ساعتيه تقريبًا. صفقوا للفنانة جولييت بينوش وقد أدت هنا دورًا حيويًّا مدهشًا جديرًا بكل أنواع الجوائز في «كان”وغيرها. لكنهم صفقوا أكثر للفيلم نفسه. ففيلم «نسخة طبق الأصل» على رغم موضوعه القديم قدم البشرية نفسها، الحب بين رجل وامرأة، وانفراطه أمام فخ الحياة الزوجية… مبدئيًّا! فيلم ما كان يمكن أن يحققه سوى سينمائي كبير؛ بل استثنائي من طينة كيارستمي.
فالحال أن بصمات كيارستمي واضحة في الفيلم من أوله إلى آخره. فرحلة البحث عن شيء ما موجودة. والحوارات الطويلة واللقطات الثابتة تملأ الفيلم كما العادة لدى صاحب «مذاق الكرز»، و«عبر أشجار الزيتون». والمرأة، خاصة المرأة، موجودة هنا في تقلباتها وإحباطاتها وشكواها وفرحها الصغير وأحزانها. إنها هنا تكاد تكون صورة من نساء فيلم «عشرة”مجتمعات… كل هذا وغيره بدا ماثلًا هنا في هذا الفيلم مثول كاميرا كيارستمي التي تتأرجح في كل لحظة بين حدّين: اللقطات البانورامية واللقطات الثابتة، بما في ذلك لحظات الصمت الطويلة التي تقول أكثر من الكلام. كل هذا قال: إن كيارستمي هنا على رغم أنه لم يكن.

اما المدهش فهو الموضوع والأسئلة الكثيرة التي تداعب خيال المتفرج؛ إذ ينتهي العرض ويكتشف أنه لم يعرف حقيقة ما حدث. إنه هنا كمن يقرأ القصيدة الصينية القديمة حول الفتاة التي حلمت أنها فراشة، وحين افاقت لم تعد تدري أهي فتاة حلمت أنها فراشة أم فراشة تحلم أنها فتاة. والإحالة إلى القصيدة ملائمة هنا لأن ما قدمه كيارستمي في هذه السينما الخالصة، في هذه الشاعرية الخالصة، ليس أكثر من لقاء بسيط بين كاتب إنكليزي وصاحبة «غاليري» فرنسية في قرية إيطالية جميلة تعيش هي فيها، ويزورها هو ليلقي محاضرة حول كتاب له عن أهمية التزوير في تاريخ الفن. يلتقيان بناء لطلبها ويقومان معًا برحلة تستغرق ساعات هي زمن «أحداث”الفيلم. وخلال الرحلة لا يعودان يعرفان، ولا نعود نحن نعرف ما إذا كانا غريبين التقيا أم زوجين يحاسبان ماضيهما.
أو بالأحرى تحاسب المرأة «زوجها» على إهماله إياها. إنه دائمًا غائب. يكاد ينظر إليها. يكاد يحسّ بوجودها. وهي تفعل كل شيء كي يحس أنوثتها لكنه لا يفعل. يكاد يراها. فماذا يحدث بعد هذا؟ لا شيء: ينتهي الفيلم كما كل قصيدة جميلة، ويخرج المتفرج كحال الفراشة – الفتاة، ولكن مغلفًا بعبق شاعري يؤكد له كيارستمي من خلاله أن السينما وجدت من أجله أيضًا. وتؤكد له جولييت بينوش أن المرأة خلقت من أجله أيضا!
أغنية البجعة الأخيرة
بعد فيلم «نسخة طبق الأصل» لم يعد كيارستمي إلى السينما كثيرًا. عاد فقط في فيلم مميّز آخر هو «ياباني» هذه المرة، كتبه وأعطاه عنوان واحدة من أشهر أغنيات الغرام الإنكليزية في الستينيات «مثل شخص متيّم». وكالعادة إذ يشكل أي فيلم جديد لكياروستمي يعرض في أي مهرجان سينمائي، حدثًا كبيرًا ينتظره هواة السينما وأهلها. ومع هذا ليس الفيلم إيرانيًّا. وربما يمكن القول: إن هذا من حظ السينما العالمية، وهذه المرة من حظ اليابان، تحديدًا طوكيو التي تدور فيها أحداث «مثل شخص متيّم». ومعروف أن هذه ثالث تجربة «كوزموبوليتية”لكياروستمي بعد «أ. ب. ث. أفريقيا» ومغامرته الإيطالية البديعة في «نسخة طبق الأصل». إذًا، كيارستمي في اليابان هذه المرة… فهل هو هنا لتحقيق فيلم ياباني؟ ظاهريًّا نعم… فالفيلم ياباني وأبطاله يابانيون، وجغرافيته ولغته وكل ما فيه ياباني… ومع هذا هو أولًا وأخيرًا فيلم لعباس كيارستمي، يحمل ثيماته الأثيرة، وكذلك إيقاعه المعهود، ويخلو كالعادة لديه من أحداث. إنه ربما صورة للحياة. والحقيقة أننا إذ نستخدم كلمة «صورة”هنا فليس الأمر كناية أو عبثًا، وذلك بالتحديد لأن كيارستمي يضعنا هنا مرة أخرى أمام سؤال الصورة والواقع… أمام لعبة المظاهر وضروب سوء التفاهم، وكالعادة من خلال حكاية قد تبدو أول الأمر حكاية حقيقية.

في الحكاية لقاء من نوع يحصل ملايين المرات في اليوم، في أي مكان في العالم. لقاء هو هنا بين صبية عشرينية امتهنت لقاء رجال في أماسيها مقابل مبالغ تعينها على إكمال دراستها، ورجل ثمانيني يبدو ان له مكانته وأهميته في المجتمع. والمصادفة جعلت من الفتاة في حياتها اليومية طالبة في علم الاجتماع، ومن الرجل أستاذًا سابقًا في المادة ذاتها، ولكن، لا شيء سوف ينبني على هذا. كذلك لاشيء سوف ينبني على كل «المصادفات”الأخرى و«الحقائق» الأخرى في الفيلم، لا سيما في حوارين يعتقد خطيب الفتاة في أحدهما بأن الرجل جد خطيبته، وفي الثاني تعتقد جارة الرجل بأن الفتاة حفيدته… لا شيء حقيقيًّا سيحدث باستثناء سهرة عشاء مجهضة، وجولتين في السيارة، واحدة ليلية في تاكسي توصل الصبية إلى شقة الثمانيني، والأخرى صباحية في سيارة الأخير توصل الفتاة إلى جامعتها… وطبعًا كما العادة في سينما كيارستمي ستكون جولتا السيارتين أجمل ما في الفيلم وأهمه، وليس فقط لأن الكاميرا والحوارات ستطلعنا من خلالهما على أجمل ما صوّرته السينما ليوميات طوكيو، حتى سياحيًّا إذا شئتم، بل لأن الجولتين هما المكان الذي يضع فيه المخرج هواجسه المعتادة حول الهوية والمظاهر وسوء التفاهم وهشاشة العلاقات بين البشر…
قسم «مثل شخص متيّم”المتفرجين يومها بين متحمّس له ومتسائل عن جدواه، وهو أمر يبدو لنا معهودًا بالنسبة إلى سينما كيارستمي التي يحتاج أي أفلامها إلى زمن قبل أن يتسلل إلى العقول والأفئدة. فسينما هذا المبدع تبدو دائمًا في بداية الأمر باردة، وربما تقنية أيضًا، وربما ليس أدل على ذلك من أن كيارستمي بنى فيلمه الجديد هذا، مرة أخرى، انطلاقا من مشهد تخيّله، محوره سيارة تدور في الساحة المجاورة لمحطة طوكيو، تحاول الكاميرا من داخلها تأمل امرأة واقفة تحت تمثال الساحة من دون أن نعرف لماذا هي هناك وماذا تفعل. في الفيلم مشهد مثل هذا، لكن المرأة لا تظهر على رغم أننا نعرف أنها يجب أن تكون هناك، ونعرف لماذا كان ذلك حتميًّا. في المقابل هناك امرأة داخل السيارة هي حفيدة الغائبة… هل يبدو هذا كله معقدًا؟ ربما على الورق، ولكن على الشاشة، وبفضل سينما كيارستمي وإيقاعها المدهش، بفضل قوة بصرية في هذه السينما، ستبدو الأمور أكثر بساطة… ولكن هذه البساطة ستكون في حقيقتها خادعة بدورها، بالتأكيد.

عن الحياة اللبنانية