استعادة الماضي..الحكومات أزمة الحياة وليست الحضارة المزدهرة بالإبداع

استعادة الماضي..الحكومات أزمة الحياة وليست الحضارة المزدهرة بالإبداع

بغداد/ أوراق
آفاق من التقليد والتجديد في عالم الأدب باتجاه إحياء ماضٍ فقد بوصلته المركزية عند الأكثرية المبدعة في وقتنا الحاضر. دراسة للباحث جابر عصفور ضمّنها كتابه (استعادة الماضي ـ دراسات في شعر النهضة) والصادر عن دار (المدى) للثقافة والنشر. مبيناً ان الإحياء والبعث عند رواد الفكر والأدب في مطلع القرن العشرين

يستكمل دور تبني أسلوب المحاكاة في البناء اللفظي والمعنوي بين الماضي والحاضر، حتى نكون في حال تصريف المضارع بالزمن الماضي لاستمرار عملية التواصل والنهضة، لذا لابد من دعوة القادرين العارفين للانتقال من الماضي المستوعب نسبياً الى المضارع المتصرف والمستهلك كي نصل الى تصريف الفعل في زمن المستقبل، فالحاضر الفاعل هو الذي يعي علاقته الموجبة بماضيه كدافع اصيل من دوافع تقدمه.. ومن هذا المنظور فان استعادة الماضي ابداعياً هي الوجه الآخر من التطلع الى المستقبل في العملية نفسها التي يتولى بها الوعي الفاعل في الحاضر تطور الاحتمالات الموجبة التي يراها.. هذا ما يشير الى جدلية التاريخ وتواصل حلقاته في معارج الفكر الإنساني، لأن المستقبل هو الهدف، والغاية هي التطور والتقدم في منظومة الحاضر الفاعل الذي يعي أن علاقته الموجبة بماضيه هي دافع أصيل من دوافع تقدمه شأنها في ذلك شأن علاقته الموجبة بمستقبله الموعود في الحرية والتقدم، ومنهجيته الفكرية في النظر الى الماضي المتصل بالحاضر هي مجددة ومواكبة لتطور الفكر ولا تعني توثين الماضي والاتباع الجامد والتقليد الساذج، ومن دون هذه المنهجية المتجددة لا نضفي معاني السلب على الماضي كله. ويحدد أن الاتباع الأعمى قرين التقليد الجامد، الذي لا يخلو من العقل في الفكر والإبداع، وكلاهما سمة من سمات التخلف أو العقم الذي تنتهي اليه الفنون، أو تنتهي اليه الحضارات. ويحدث ذلك حين تفتقر الحضارات الى الدافع الخلاق، وحين تغلق الأبواب المفتوحة للاجتهاد، ويحارب الابتكار الذي عادة ما يوصف ببدعة الضلالة. وشأن الحضارات في ذلك شأن إبداع الفنون الذي يزدهر بازدهارها، وينحدر بانحدارها، ويرتبط ازدهاره بتسامح تيارات عقلانية حاكمة، أو تيارات فكريَة تؤمن بالحرية، وتحرم المخالفة والتجريب، ثم ان الفنون جزء من التشكيل الحضاري في حقبة محددة، أو في حِقَب متتالية ماضياً وحاضراً. فالاتباع والتقليد حجر عثرة أمام عملية التطور والتقدم. لذلك لا يغدو ابداع الفنون ابداعاً حين يستبدل بالتحديق في امكانات المستقبل المهووس باسترجاع صور الماضي فقط. ويعزى انهيار الحضارة العربية الى حال الاغتراب بينها وبين العقل الذي ألقي به في دورات متعاقبة من التشدد. وهذا ما أدى الى اجازة مفتوحة في العقل العربي الحاضر. لذلك أصبح العقل محاصراً بالنقل والاتباع بدلاً من الابتداع، والتصديق ملاذ المحكومين بالقمع المتعدد الوجوه والصور ابتداءً من تسلط السلطان وبطش الجلاد، مروراً بفتاوى فقهاء النقل والجمود والتقليد.. ونرى ان أزمة الحياة العربية المعاصرة هي أزمة حكومة أنظمة بمجملها، أكثر مما هي أزمة حضارة. فالابداع ركيزة التطور والتقدم والحرية، وهذه عناوين لأزمات سياسية اجتماعية، في المنظومة الرسمية العربية، تلقي بثقلها على كاهل الجماهير المغلوبة على أمرها، والمحكومة بتقديس الماضي من دون رفع سقف العقل الى المستوى المطلوب. لذلك سادت نمطية الاتباع والتقليد على معاناة الابتداع والتقدم. وهذا ما أدى الى انحدار مستوى الفكر، والآداب بصفتها فنوناً توازت في خطوطها ومستوى الفكر السائد عموماً. ويرى المؤلف أن رياح الاتباع والتقليد ظلّت سائدة حتى عصر النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر. فكانت مبادئ إعمال العقل وفتح باب الاجتهاد والابتكار من الأسس التي شيدت صروح النهضة العلمية والأدبية. فالدعوة الى الاجتهاد عكست نفسها، في ضوء التطورات التي شهدها العصر على الأدب. وذلك من خلال تحرير الشعر وانقاذه من هوة العقم، والعودة به الى عصور فتوته، وبعث هذه العصور وإحيائها بما يدفع حركة الاجتهاد الشعري في طريق المستقبل الذي بدا واعداً، ومواكباً لحياة العصر الجديد.. لكن هذا التجدد الشعري لم يخل من حالات التقليد والاسترجاع للماضي عند أبرز شعراء مطلع القرن العشرين شوقي والبارودي والزهاوى.. ويحدد المؤلف أن شعر عصر النهضة في القرن التاسع عشر تضمن عاملي الإيجاب والسلب. فكان الإيجاب متمثلاً بالدعوة الى الابتكار والتجديد. أما السلب فتمثل بما لزم عن هذا الاسترجاع من حركة محكومة سلفاً بالقديم، أي بالإطار المرجعي الذي ينقاد اليه كل فعلٍ لاحق. لذلك كان لا يمكن ان يظهر الوجه السلبي لفعل الاستعادة الإحيائي إلا بعد اكتمال جهود البعث من ناحية، ووضع نتائج هذه الجهود موضع المساءلة من ناحية مقابلة. وهذه المساءَلة لم تبدأ برأيه إلاّ بعد الحرب العالمية الأولى حيث انفتحت آفاق جديدة لطرح أسئلة جديدة. ويضم الكتاب دراسات لشعر الإحياء في حركته المفصلية، وذلك من منظور الكيفية في استعادة هذا الشعر ماضيه جامعاً بين أوجه الإيجاب وأوجه السلب، والتي انبنت على الانطلاق في نقطة البدايات لا النهايات، فحققت ايجاب البدايات وسلب النهايات. ويقدم المؤلف في القسم الأول من الكتاب بحثين مستفيضين عن الشاعر الحكيم، وشعر البارودي. وأبرز ما يتضمنه هذا القسم دراسة مقارنة بين أمراء الشعر في العصور العباسية أمثال ابن الرومي وأبي تمام والمتنبي والمعري، وبين أمراء الشعر العربي في مطلع القرن العشرين أحمد شوقي وحافظ ابراهيم والزهاوي والبارودي. ويشرح المؤلف نزعة التجديد بمضامينها الفكرية الفلسفية عند هؤلاء الشعراء الذين ألبسوا أفكارهم أطراً قديمة. ولو بعث أمراء الشعر العباسي في مطلع القرن العشرين لقالوا ان بضاعتنا ردت الينا.