ميخائيل عواد..منهجه: التحقيق في حضارة العرب..!

ميخائيل عواد..منهجه: التحقيق في حضارة العرب..!

حضارة العرب
لسان دؤوب، وعقل دؤوب، ونفس ما انطوت الا على الدأب والحركة، ونفس ما كان لها إلا ان تمرّ مسرعة، هادئة ، متوازنة، في حركة الحياة، وفي احشاء هذه الحياة التقط (ميخائيل عواد) اسرار الحضارة العربية، واحداً بعد آخر، ومجموعاً فوق مجموع، انما هذا المجموع الكلي للحضارة كان قد شغل الجزء الأكبر من ذهن ميخائيل عواد، اما جزءه المتبقي، فهو بين تأمل وصفاء،

بين ابتكار ولوعة، وبين هذا كله، وبين هذا التلهف الشديد للبحث عن مجد العرب، بالكلمة وبالمفردة، شيء كبير يعذبه، اسمه: الكتاب!
وقصته مع الكتاب، هي قصة ابيه (حنا عواد) او قصة أخيه (كوركيس عواد).. قصتهم جميعاً في هذه الأسرة (العوادية) التي ما انتفكت منذ القرن الماضي، تلبي نداءً اميناً، على أرض نينوى، في أن يبدعوا، وفي ان يقدموا الوفاء، لهذه الأرض التي منحتهم الدفء والحرية والسلام وصفاء الرؤية.
ومنذ ستين عاماً يسأل، او منذ ذاك التاريخ كان يسأل: انا عاشق الحرية، انا عاشق الجمال، انا المتبلور في احاسيس نينوى.. فهل لهذا العشق من ثمن؟! وحتماً كان يقول: انني وجدت هذا الثمن.. في الكتاب، وقبل ان يرسل اول مقال له الى احد مجلات (الموصل) في سنة 1922، كان يسائل نفسه، وأي كتاب؟!.. وبدأ قلمه يخط: لا بد ان تكون كلماتي جديدة، مرهفة، تدغدغ ذهناً جديداً، بل بدأ يسجل لوحده، على ورقة بحجم انامله: عنوانات لمشاريع كتابية، هي اطرف ما تكون في كتاب العرب..!
وربما كان يفكر ان مكتبة الأسرة او مكتبة اخيه كوركيس لم تثر فيه خيالاً طريفاً، فترك هذه الكتب، وترك فهارسها (وفهارسها محشوة بعلوم الكلاسيك) وصار يختار هذه الكتب التي يشتق منها الغريب في تراث العرب، والعجيب، ويحقق فيه، امنيته التي يكتشفها في (المدهشات) فأية مواضيع هذه التي اختارها..؟
رأى ان حضارة العرب تمتد من سور الى سور ومن جيل الى جيل ومن بحر الى بحر، من سور اوروك الى جزيرة كريت، في لحظات زمنية متواصلة، فعليه ان يمتد هو الى اعماق هذا الأفق السرمدي: الازلي، وينتقي منه الابهى، ودائماً ينتقي (المخبوء) في هذا الأفق، لماذا؟ ولماذا الف القراء فيه (انتقاء المخبوء) كلنا كنا نتساءل، لماذا اختار ميخائيل عواد ما لا يشاع في الكتب المطبوعة، وما هو خلف عين المحققين، والباحثين والذين يؤلفون كتب الزمان العربي..؟
***
وعندما امتد الى هذا الافق، كان يرى في العرب (تكاملاً حضارياً)، ولما غيبه الحلم لحظة في كنيسة من كنائس نينوى وبالقرب من محلته (القلعة) صاح: لقد اكتشف بغيتي في هذا التكامل، ثم سعى الى الاناجيل يصلي ويلتقط وسعى الى القرآن ينقب عن مشاهير الذرى والرجال وسعى الى عمق بغداد، وفي هذا العمق صار حلمه نبوءة، انه وجد لأول مرة ان مجده: العرب، وان نسبه لم يتصير الا فيالعرب، وان العرب، وحدهم ، بنوا نينوى والمدن الصغيرة، وبنوا الاسوار والقلاع الكبيرة، وبنوا له والنسله، هذا التراث الذي يجب عليه ان يبعثه، ولا سيما هذا المخبوء المتلالئ فيه..
اتعرف، ان هذا البحاثة حقق واكتشف:
ان العرب أول من استعمل جوازات السفر..
وان العرب اول من عرف الطب العدلي..
وان العرب أول من ابتكر طرق توزيع المنشورات السياسية..
وانهم اول من اخترع الكتابة البارزة للعميان التي تتسب (ظلماً) الى العالم الغربي (برايل).. وهذا ليس (تعصباً) من ميخائيل، فهو لم يعرف يوماً التعصب الرسمي او اللغوي، وانما بحث وابتكر، شاهد ودقق، حتى التمس الأدق والاطرف من هذا وذهب به البحث الى ان يقول في كتب صادرة له: ان العرب اول من لعب كرة القدم، وهم اول من عرف معجون الاسنان، واول من لبس (النظارات)، وهؤلاء العرب اول من انشأ (المستشفيات السيارة) وانهم اول من استعمل طريقة شدّ الاسنان بالذهب.. وكان العرب في بحوثه، رواداً في الارض، في اصول (الاتيكيت) الذي يزعم الغرب بأنه مكتشة – لقوانينه، ورواد في علم (البروتوكول)، ورواداً في الكثير، مما يقال عنه انه حضارة جديدة من غرب الأرض، حتى ان هذا المنقب الباحث الصامت انشا كتاباً، يفند فيه تلك الاراء (الهشة) التي تزعم بأننا (ابن يتيم) لحضارة الغرب، ويطل بادلة التواريخ، او بأدلة النصوص، بأن هذه الحضارة الغربية، هي بضاعتنا رُدت الينا.. واعطى لأولئك جدولاً فيما اخذه الغرب من علمائنا، وجدولاً آخر يما امتصت حضارة الغرب، من حضارة العرب، في الفقه، واللغة، والطاقة، والفلسفة، ومدلولات الوعي المدني..
***
وانتشر بحثه الطريف، بل بحوثه التراثية الطريفة على أكثر من أفق، وترجمت الى اللغات، الالمانية، والانكليزية، والروسية، ولغات الشرق.. وادخلت (لجنة الروائع العالمية) في اليونسكو، بحثه الكبير، في رسوم دار الخلافة.. بين العدد المنتخب من روائع الأدب العالمي، ولم يلتمع ذهن ميخائيل في هذا البحث وحده، وانما التمع في كتب ورسائل موضوعة مطبوعة بلغت اربعة عشر كتاباً (بينها = خمسة بالاشتراك مع ...) والتمع في تسعة كتب محققة مطبوعة (بينها = 4 بالاشتراك مع..) وكان يلتمع منذ الثلاثينيات في مئة وسبعين مقالة (بينها = عشر بالاشتراك مع..) في اكثر من خمسين مجلة وجريدة، والتمع في نحو مئة وستين حديثاً اذاعها في اذاعات بغداد والكويت والقدس والقاهرة وبيروت.. ولندن!.
لا أدعو لن نقيم تمثالاً لميخائيل في احدى مدارس العلم في بغداد، وهو الذي خدم المدارس وصفوفها لربع قرن، مع مئة وخمسين وزيراً للمعارف والتربية، في كتمان وتفان قل نظيره، ولا ادعو لأن نطلق (إسمه) على احدى قاعات الكتب، في جامعاتنا او في اروقة الفكر، وهو الذي افنى، ستين سنة، من جسده النحيل للعلم وانما ادعو الى ان نترصد ايقاعه، ونقلب سفره الجليل، بوفاء.. مثلما هو اعطى هذا الوفاء لنا جميعاً، فهو وقلة من رعيله، كانوا في كتبهم، يتخيلون عالماً عربياً، فيه التراث يقدم الدهشة، وفيه المطلق بقدر الوجدان القومي للامة، فيه هذا الدعاء الكبير للعرب.
ابوه...
ولا بد للنبتة الجميلة ان تحيا في طقس جميل، وهكذا كان ميخائيل.. الأبن او البنتة التي ترعرعت في ظل ابيه حنا عواد، امتص منه الولادة النابهة، فشب في طقسه، وتعلم على يديه كما يتعلم الغصن الطري من الشجرة الطرية امتصاص النسخ الطري.
في البداية ولد الفن مع ابيه، في كوخ مرمري، تصدح في جنباته الحان الطبيعة، وفي البداية ذاتها، ابصر هذا الأب نور العلم في كوخ كنسي، على لسان المطران اقليميس داود الموصلي.. الذي علّم الأسرة العوادية الطريق الى الالحان، فولد (العود) الذي اشتهر به حنا بن حجي (تصحيف، جرجيس) بن الياس بن مراد بن عبد الاحد بن حنا، حتى قالت نينوى هذا حنا عواد، لأن (حنا) كان اول من ادخل صناعة العود الحديث في العراق.
***
وفي اديرة الموصل او ديار نينوى عرف حنا بفضيلتين:
الخط العربي وقد جوّد فيه منذ نعومة اظفاره، وما زال ميخائيل او كوركيس يحتفظ في خزانة الكتب بمخطوطة عربية كتبها حنا في الموصل سنة 1878، وهي: كتاب (تأملات الشهر المريمي) في الكنيسة القديمة المعروفة، بالبيعة العتيقة.
و.. صناعة الوتر في مصدره الشرقي.. وهاتان الفضيلتان اللتان اجاد فيهما حنا عواد، اضافة الى طهر القلب، هما متبع احساس الأسرة الشفاف، اي الطبيعة والانسان معاً، فمن الخط استمد ميخائيل حرفة التحقيق في كتب الاولين، بالموهبة الفطرية، ومن الوتر تعلم ان ينسق اشياءه في الحياة والزمن وطرق الكتابة، ومن طهارة قلب ابيه، ابتعد، هو، وكوركيس عن الأثم، فلم يدنس الاثم اصابعه، او اي شبه من اشباه الاثم، لسانه وقلبه وفمه وجوارحه، فلم يدخن، ولم يقامر ولم تنل الخمرة رأسه، و، و، وبالوراثة كان بيت عوّاد اميناً في طهر القلب!
هل اعطى حنا عواد شيئاً جديداً.. حتى يستحق منا هذا الاجلال..؟ نعم، كان ماهراً في زمن خامل، ومبدعاص للفن، في دهر كان يجعل الابداع من باب المحرمات، ومن الوفاء ان نبدأ فيه رحلة قصيرة، هي، على كل حال، رحلة بداية الفن الموسيقي الشرقي في العراق، رحلة ولد فيها ميخائيل عواد الابن، ساهم فيها الأب، عن طريق "الوراثة" الفنية!
وكان هذا الأب يشغف بالآلات الموسيقية الشرقية، شغفه بتراتيل الاناجيل، وفي ظل الكنيسة صنع (الجنبر) ويعرف هذا الجنبر، في نينوى، على انه نمط من (البزق) وفي بعض القرى، على انه (الطنبور) ولا سيما قرى التركمان والشبك.. وكان الجنبر موجوداً، لكن حنا عواد اضاف اليه من احساسه فأبدل (الطاسة) التي كانت من جوزة النارجيل المجففة باضلاع من خشب على ما يتبع في صناعة جسم العود، وهذا الخشب الذي استخدمه في صناعة (جوزة الجنبر) كان الواناً من خشب المشمش والنارنج والجوز والجتار، وكان من نتيجة هذا الاحساس الابداعي ان صار صوت الجنبر مرخماً انتبه اليه الفنانون بدهشة.. وتقول وثائقه ان حنا صنع (الفاً) من هذه الالة.. ثم صنع (القانون) بنصف هذا العدد، وابدع فيه كذلك، فمن الخشب الجتار الى خشب (الجام) اصبح صوت (القانون) جهورياً، واصبح جسمه سهل التنقل، وتقول احدى الوثائق، ان هذا التحسين الذي اجراه حنا عواد على آلتي الجنبر والقانون يذكرنا بما صنعه زرياب المغني الموسيقي البارع (المتوفي نحو سنة 220 هـ - 845 م) بشان عوده، حينما قال للخليفة هارون الرشيد، انه يقع في نحو الثلث من وزن عود استاذه اسحق بن ابراهيم الموصلي، على ما ذكره المقري في كتاب "نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب".
***
اما (عوده) الذي كان سبباً في (لقبه) ولقب ابنائه واسرته فيما بعد، فقد اهتدى الى صناعته في نحو سنة 1890، وصار الفنانون يؤرخون هذه السنة على انها السنة التي ابتدأ فيها حنا عواد بصناعة اول عود في العراق الحديث، وشرع منذ ذاك التاريخ يهندم عوده يسحنه ويطوره، حتى تحقق لديه (318) عوداً، وتتم صناعة كل عود بستة ايام بآلات غاية في البساطة، وفي مكتبة الشقيقين (ميخائيل وكوركيس عواد) ينام (عودان) انيقان ما زالا يجددان ذكرى والديهما، رقم الأول (316) والثاني (318) وهذا الرقم هو ىخر الارقام التي قامت في صناعة هذا العود، وهو الذي صنعه في عام 1932، هو آية في الفن، بل الصورة التي تجلت فيها عبقرية حنا عواد، في الزخرفة والتنسيق الجمالي، والاحاسيس المرهفة التي اضفاها على التطريز، وملء الفراغات بما يناسب التوازن.. وفي هذا العود (18000) قطعة من خشب الدلب والاسيندار والجام والأينوس، وضعها بدقة هندسية تشبه النغم الهارموني المتسق..!
ونهمه كان عالياً، فبالاضافة الى صناعته الجنبر والقانون والعود، صنع (الكمنجة) وهي التي تعرف في المغرب (بالكمان).. وقد صنعها من خشب (الجام) بدلاً من (الماهوكاني) وهو الخشب الاجنبي، وكان حنا عواد، في كل ما صنع، من هذه الآلات الموسيقية، يجيد العزف عليها، وإجادته اللحن او العزف، جعلته يهب الجمال فيها، او لولا حنجرته، كما يتخيلها ميخائيل ابنه، لما استطاع ان يستنطق الخشب، وينشئ فيه نغمة ساحرة من انغام الحياة.. هذا الغريد بروح، وهذا الساحر الخشبي، حنا عواد، ذهب الى قبره سنة 1942، وقد ترك لآبنه ميخائيل او لنا جميعاً، ثمانين عاماً، مملوءة بالزخرفة والعذوبة وصفاء النية!.

الشقيقان
ومن غرائب الأتفاق، أن يكون الشقيقان: كوركيس عواد (1908) وميخائيل عواد (1912) متشابهين في كثير من صفات الجبلة، وفي كثير من صفات الخلق، وفي كثير من صفات أدب الأسرة او البيت..
تجاورا، معاً ، لخمسين سنة..
وتشابه في الخط..
وتشابه في الحركة والمشي في الشارع..
وخطهما: واحد..
وصوتهما: في الهاتف واحد..
وشكلهما: واحد..
وتزوجا في مدينة واحدة: هي الموصل..
واسم زوجتيهما: واحد..
وتزوجا: في يوم واحد..
وسكنا في دار واحدة..
ونهلا العلم: من مكتبة واحدة..
وكانا: معلمين في بدء حياتهما العملية..
اما في حياة العلم: فكوركيس يفهرس الكتب والمخطوطات..
وكذا ميخائيل..
وكوركيس يحقق كتباً في القدامى بصبر الناقلة..
وكذا ميخائيل..
وفي السياسة: يرفعان علماً واحداً، هو الوطن دون الحزب!
وفي .... حتى انهما في بيتهما: ينامان في ساعة واحدة ويبكران.. ويتأبطان كتباً متشابهة، وقرطاسية واحدة، وفي هذين الشقيقين إباء وشمم، هدوء وسكينة.. وشكران واحد الى كل ذي وجه أبيض!.
واستاذهم.. واحد: هو الكرملي!
أهو حكم الاتفاق الغريب في هذا القدر الذي جعل الأب حنا عواد يتتلمذ على عقل راهب كنسي، هو اقليميس الموصلي، كما تتلمذ الشقيقان على عقل راهب كنسي، هو الأب انستاس ماري الكرملي.. والراهبان عالمان في عصرهما؟!
***
وليست غريبة ظاهرة (الشقيقين) في تراثنا أو تاريخنا الأدبي، الذين يجمعهما التصنيف والتأليف، وانما هذان الشقيان يتكرران كلما ازدهر أدب في مرحلة، او تجدد أدب في تاريخ.. ففي العصر العباسي، هناك (الخالديان)، ابو بكر محمد المتوفي سنة 380 هـ وأبو عثمان سعيد المتوفي سنة 391 هـ أبنا هاشم بن وعلة، وقيل ان نسبهما ينتهي الى بني عبد القيس، وهما من الموصل، من قرية تسمى (الخالدية) وقال فيهما الثعالبي انهما من اخوة الأدب، مثل ما ينظمهما من اخوة النسب، فهما في الموافقة والمساعدة، يحييان بروح واحدة، ويشتركان في قرض الشعر وينفردان، ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان.. وثمة في صدر الاسلام ثلاثة اخوة شعراء، هم: المزرد بن ضرار والشماخ بن ضرار وجزء بن ضرار، وهم من نسب غطفان..
وكذا ابنا الاثير الثلاثة: عز الدين المتوفي 630 هـ وضياء الدين المتوفي 637 هـ ومجد الدين المتوفي 606 هـ، وهم محدثون مؤرخون.. وهكذا!

وجهان يتقابلان
واجتمعت بهما، معاً، قال كوركيس كلمة باخيه، واخرى لميخائيل بأخيه وكأنهما قالا نداء في معبد صوفي، يتناجيان بحرقة القلب.
قال كوركيس: هذه المرحلة الطويلة من العمر التي بلغتها، تتيح لي اليوم ان ابدي رأيي الشخصي في أخي ميخائيل عواد.. لقد كنا، طوال حياتنا، شقيقين وصديقين معاً، نتفق في كثير من آرائنا، وننسجم في سلوكنا، بل في وسعي القول اننا لم نختلف في أمر بعينه، ولم يحصل بيننا فتور او نفور.. ويكفي ان انوه في هذا المقام، بأمر ذي بال في مجرى حياتنا الأخوية، ذلك اننا تيسر لنا ان نعمل سوية على اصدار ستة كتب، عنينا معاً بتأليفها، او تحقيقها وهي:
1- رسائل أحمد تيمور الى الأب انستاس ماري الكرملي.. (وهو اول كتاب حمل اسم كلينا، وقد نشرناه منذ اربعين عاماً، اي سنة 1947).
2- مقامة في قواعد بغداد في الدولة العباسية لظهير الدين الكازروني المتوفي سنة 697 هـ - 1298 م.. (طبعناها مرتين: الاولى سنة 1962 والثانية سنة 1979)..
3- ابو تمام الطائي (1971)..
4- الخليل بن احمد الفراهيدي – بغداد 1972..
5- رائد الدراسة عن المتبني – بغداد 1977 والسادي عن : والدينا..
وعهدي بالاخ ميخائيل، انه شخص محب للنظام في الاعمال المنوطة به، دقيق في سلوكه، يضبط المواعيد، ويخلص لأخوانه واصدقائه، ويبتعد عما لا طائل تحته، وهو الى ذلك مثابر على التتبع والمطالعة، مدقق ثبت في ما يكتب، حذر حين يقتبس نصاً ولا ينشر بحثاً إلا بعد ان يطمئن الى سلامته.. وما زلت اذكر، كيف انه ابلى البلاء الحسن، حين حقق كتاب "رسوم دار الخلافة". فلقد امضى سنوات في سبيل ذلك، وراجع امهات المصادر القديمة والحديثة ذات العلاقة بهذا السفر التراثي الذي تهيأ له ان ينشره عام 1964..!
أما رأي ميخائيل باخيه كوركيس عواد، فيستهل قوله:
- انني افخر بشيء واعتز به غاية الاعتزاز، ذلك ان اول من اخذ بيدي في حياة المطالعة والكتابة والتأليف والتحقيق، هو أخي وشقيقي كوركيس عواد، فله الفضل الأول، واني لانتهز هذه الفرصة لاعبر له، عما يكنه قلبي له من اجلال واعجاب، حفظه الله نصيراً للغة الضاد، قيّماً اميناً على تراثها الخالد..
كتب ابو منصور الثعالبي (المتوفي سنة 429 هـ) ترجمة لأحد اصدقائه الادباء الكبار، اودعها كتابه الشهير "يتيمة الدهر" قال: "قد خنق التسعين في خدمة العلم والادب واللغة".. فهذا ما يجعلني ان اقول: ان اخي على ميخائيل بكلمة : (ولدي بالروح)...
وفي دير الاباء الكرمليين خزانة كتب تضم عشرين الف مجلد في علوم الارض جاء ميخائيل اليها فقرأ الكتب البلدانية وسأل الكرملي: هل أؤلف في الجغرافيا والرحلة؟، قال له الراهب. إقرأ.. فقرأ في كتب التاريخ فلم يؤلف فيها، لأن الراهب اعاد عليه: اقرأ وقرأ وقرأ، حتى اذا جاء عيد الغفران جلس الراهب وتلميذه تحت نقرات الناقوس، وتحادثا، فادرك ميخائيل، ان تحقيق الكتب بغيته، فسلك فيه، ومنه اشتق الفهرسة والتأليف.. وكان ميخائيل يقضي زمناً في (معرفة) اصول التحقيق والفهرسة في خزانة الكرملي، يخط كلما اشار عليه هذا الراهب الكرملي، ويشطب ثم يسوّد ويبيض بأمر منه، بأمر عقلي علمي.. وهو الى هذا النهج كان يحفظ عليه اللغة في مفرداتها الانيقة، لأن الكرملي كان معجمياً يهيم في عالم اللغة الفصحى، وكان يتدرب في هذا النهج على طرق تباين استعمال هذه اللغة، ولم يتعب الكرملي في تلميذه، فقد فتح هذا المجتهد اللغوي ابواب ديره او ابواب خزانته التي كانت تشغل اربع غرف كاملات من بناية الدير الى كل الرعيل الاول والثاني ليقرأوا وليمحصوا وليستغلوا في اللغة ومصادرها ومظانها، وان وجد تعب فيه بسبب مرض او سفر فهو الضريبة الروحية التي فرضها هو على نفسه، منذ رسم قسيساً باسم (انستاس ماري الكرملي سنة 1894) بعد عودته من فرنسا او بعد انهائه دراسة الفلسفة واللاهوت فيها..
وكان لراهب الدير مجلس ادبي، مجلس الجمعة الذي غدا مزاراً يؤمه ادباء ومفكرون من لغة الضاد ومن لغات اوربا، يساجلون فيه ويتناظرون، وتطرح على بساطه المعاجم ويقوم فيها جدل واشتقاق ومقارنة، من الثامنة صباحاً حتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، ودائماً كان ميخائيل يجلس بالقرب من الكرملي، يستمع اليه، بل يطلب اليه ان يخوض شيئاً من نقاش، ورداً من الردود، إذ كان هذا الراهب الكرملي يعتقد ان النقاش مفتاح الشخصية الى عالم جديد، وان المناقش (الذي يتقن قوانين المناظرة) ان لم يكن فاعلاً في اداء حق علمه، فهو (شيطان) صامت لا قيمة لعلمه، وقد اعطى الكرملي مثلاً عاليا في أدب المناظرة، واعطى لتلاميذه قوانين هذه المناظرة، وكان يقول لهم: الجدل وسيلة لا غاية في اكتشاف الحقيقة..
ولقد شهد ميخائيل في مجلس الكرملي بعمر ابيه، وجوهاً ادبية من كل لون ونزعة، واقلاماً بعمر جيله، فجالسهم واختلط في مذاهبهم، وخرج من مذاهبهم، ثم زاملهم وزاموله وكتب عنهم وكتبوا عنه، وكاتبهم فيما بعد وكاتبوه، ومن هؤلاء: الدكتور داود الجلبي وابراهيم حلمي العمر وجواد الدجيلي والدكتور حنا خياط ورزوق شفو ورزوق غنام ورفائيل بطي وجلال الحنفي وعبد الرحمن البناء والدكتور مصطفى جواد والدكتور ابراهيم عاكف الالوسي وعبد الرزاق الحسني ويوسف غنيمة ويوسف مسكوني ومشكور الاسدي ومحمد رضا الشبيبي ومحمود العبطة وطه الراوي.. وشقيقه كوركيس عواد.. وغيرهم وغيرهم.. اجيال ومذاهب، مدارس ونظريات، رؤى واتجاهات، وكلهم كانوا يشكلون الحزام الأمني للغة العربية..
اعطى الكرملي لميخائيل اكثر من شمعة، وانه لولا شموعه لما حقق ميخائيل شهرته في كتاب (رسوم دار الخلافة..) إذ هو الكرملي اعطاه نسخة نفيسة من كتاب رسوم دار الخلافة لأبي الحسين هلال بن المحسن الصابئ المتوفي سنة 448 هـ ، وانه لولا مرضه لحقق الكرملي هذا الكتاب الخالد الذي حصل عليه من الجامع الازهر ، ولحظة اهدى الكرملي هذه النسخة قال لتلميذه سنة 1940 : يا بني ميخائيل .. جد فهذه تحفتك في المستقبل ، ويوم اصدر ميخائيل هذا الكتاب سنة 1964 كان قد اولى لاستاذه بجده وتعبه الروحي ومعاناته في تحقيق هذا الكتاب ..
وفي فراش مرضه سمع ميخائيل هذا الكرملي يقول : لقد نفد الزيت من المصباح ، وكان يعني : انه يرى الحياة تفارقه مفارقة الضوء لذلك المصباح ، حتى انطفأت شعلته في كانون الثاني من سنة 1947 ، وسار ميخائيل في جثمانه الى دير الآباء الكرمليين ببغداد ، وصلّى عليه في كنيسة الدير وتمتم : آه .. ايها الرأس الجليل ، ما حيلتنا اذا جاء الأجل في ساعة من ساعات الزمان !.

عن كتاب المفكرين والادباء العراقيين