الشيخ كاشف الغطاء.. رائد الوحدة الوطنية

الشيخ كاشف الغطاء.. رائد الوحدة الوطنية

ياسر الربيعي
محمد حسين بن علي بن محمد بن رضا بن موسى بن جعفر كاشف الغطاء، ولد في النجف الأشرف سنة 1294هـ، يتحدر من أسرة عريقة في الجهاد والعلم، نشأ بين أحضانها، ولما بلغ العاشرة من عمره، شرع بدراسة علوم العربية والرياضيات وغيرها، وأتمّ دراسة السطوح وهو بعد شاباً، ثم حضر دروس البحث الخارج على يد الشيخ محمد كاظم اليزدي،

والشيخ آغا رضا الهمداني، ولازم حلقات هؤلاء العلماء لسنين عدة حتى عدّ من المبرزين، فحظي باحترام أساتذته ونال إعجابهم لغزارة علمه وسعة تبحّره، وكان من خيرة تلامذة السيد محمد كاظم اليزدي، ومن خواصه ومناصريه في أيام حركة (المشروطة) في إيران، حيث قاد السيد اليزدي والذي كان حينها المرجع الأعلى للشعية، الحركة التاريخية للمطالبة بكتابة أول دستور في بلد اسلامي.
*المسيرة*
درس الفلسفة وعلم الكلام على نوابغ العصر الثلاثة، الميرزا محمد باقر الاصطبهاني، والشيخ أحمد الشيرازي، والشيخ محمد النجف آبادي، فأظهر قدرة علمية عالية، وصار مرجعاً للتقليد بعد وفاة أخيه الشيخ أحمد، حيث قلّده جماعة من الناس في التبت، والهند، وأفغانستان، وإيران، ومسقط، والقطيف، والعراق.
كانت حلقاته في التدريس عامرة بالفضلاء والعلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد نهلوا من معينه في مختلف العلوم، وكتب كثير من طلابه تقريرات دروسه القيّمة في الفقه والأصول، حتى بلغت عشرات المجلدات.
أمضى في ربوع سوريا ولبنان ومصر ثلاث سنوات، شارك خلالها في الحركة الوطنية، ونشر في أمهات الصحف والمجلات مقالات نفيسة وقصائد بديعة.
تابع سيره بعد ذلك إلى القاهرة في مصر، وبقي فيها زهاء ثلاثة أشهر، وحضر على أكابر علمائها، كشيخ الأزهر الشيخ سليم البشري، ومفتي الحقانية العلاّمة المحقق محمد بخيت المطيعي، وبحقه يقول سماحته: "لم أجد في مصر عالماً محققاً مثله يباحث أصول الفقه عصراً في جامع رأس سيدنا الحسين(ع)، والتفسير بين المغرب والعشاء في الأزهر، وله مؤلفات كثيرة طبع أكثرها.
بعد الفراغ من درس شيخ الأزهر، كان يلتقي جماعة من طلبة الأزهر يباحث في الفقه مرة وفي الفصاحة والبلاغة أخرى، وقد التفّ حوله الطلاب والناس عندما لمسوا منه علماً جديداً وأسلوباً طريفاً، ومنهم القاضي الشرعي في تلك الآونة الأستاذ أحمد محمود شاكر.
عزم على مغادرة مصر اواخر شهر صفر سنة 1331هـ، فطلب إليه الشيخ محمد بخيت المفتي البقاء إلى نصف ربيع الأول لمشاهدة الحفلات التي تقام في عيد المولد النبوي، حيث حافظت على طابعها الأصيل، وكانت مقصداً للسواح من أوروبا وغيرها. وفي آخر ربيع الأول قفل عائداً إلى صيدا، وفي أواخر رجب رجع إلى العراق
أولى الشيخ كاشف الغطاء قضية فلسطين اهتماماً كبيراً، وجعلها القضية الأولى في حياته، فقد ناضل وجاهد وأفتى وحث الجماهير والأمة الإسلامية والعربية على الجهاد، ولكن نداءاته ذهبت هباءً منثوراً، حيث كانت الأمة العربية والإسلامية وحكوماتها وما تزال تغط في سبات عميق.
سافر عام 1350هـ/1931م إلى فلسطين ليشارك في المؤتمر الإسلامي الذي عقد فيها في ليلة المبعث، تلبية لدعوة تلقاها من المجلس الأعلى في فلسطين، وحضره أكابر علماء المذاهب الإسلامية من مختلف أقطار العالم الإسلامي، وبعد أن أقيمت صلاة الجماعة في المسجد الأقصى، ارتأى القيّمون على المؤتمر أن يرتقي المنبر أحد أعضاء الوفد ويخطب في ذلك الجمع، فوقع الاختيار عليه، فقام بإلقاء محاضرة تاريخية على مسامع أكثر من مئة وخمسين ممثلاً من الأقطار الإسلامية، وحضور أكثر من عشرين ألف مشارك، تناول فيها قضايا تهم الإسلام والمسلمين، وعلى رأسها وحدة المسلمين واستقلالهم، و وجوب التصدي للمستعمرين والصهاينة المحتلين.
سُحر الحاضرون ببليغ كلامه، ورقة ألفاظه وعمق معانيه، ولذلك تم اختياره ليكون الإمام في جميع الفرائض اليومية طيلة فترة تواجدهم في القدس، واعتبر ذلك بمثابة حدث تاريخي لم يسبق له نظير، حيث لم يجر من قبل أن اتفق علماء الإسلام جميعاً، وعلى اختلاف عناصرهم ومذاهبهم على الاقتداء بإمام من الإمامية مع تباعدهم عنها منذ عهود الإسلام الأولى، وقد كان لهذه الإمامة في القدس دوّي في الشرق والغرب، وعقد عليها الناس آمالاً عريضة، ونشرتها الصحف والمجلات، وتناولتها أقلام الباحثين والمؤلفين من محبي الوئام واتفاق الكلمة، وذاع صيته في البلاد الإسلامية وغيرها، وأخذ البريد يحمل إليه كتباً من الأقطار البعيدة والقريبة، تشتمل على مسائل غامضة ومطالب عويصة في الفلسفة وأسرار التشريع، كل ذلك بالإضافة إلى الاستفتاءات الفقهية من الفروع والأصول وما إلى ذلك.
كان همّ الشيخ كاشف الغطاء على طول الخط مواجهة كل أشكال الممارسات الاستعمارية، والدعوة إلى التحرر والاستقلال. وعلى هذا الطريق تزعّم الحركة القبلية في منطقة الفرات التي أطاحت بحكومة علي جودة الأيوبي.
ومن مواقفه السياسية التي تعبر عن مدى إيمانه وشجاعته في طرح المشاكل التي تخص عامة المسلمين، ما كان من لقائه بالسفير البريطاني في العراق بتاريخ 20 جمادى الأولى 1373 هـ الموافق لعام 1955 بالنجف الأشرف، فانتقد بكل صراحة وشجاعة السياسة الاستعمارية البريطانية التي تتعامل بها مع العالم الإسلامي، وعلى رأسها قضية فلسطين، وحمّل فيها بريطانيا مسؤولية الإعداد لاحتلال فلسطين من قبل الصهاينة، وتعرض الشعب الفلسطيني الى التشريد والابادة. وانسحب هذا الأمر على الولايات المتحدة الأمريكية، حيث سجل اعتراضه على السياسة الأمريكية، وهذا ما كان عندما التقى بالسفير الأمريكي في العراق، ملقياً على دولته باللائمة والمساهمة في اغتصاب فلسطين وغيرها من الممارسات التي لا يمكن السكوت عليها.
أطلق كلمته الشهيرة إن الوحدة الإسلامية تتحقق بالارتكاز إلى دعامتين: (كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة)، ومن خلال التنسيق بين المسلمين وعقد العهود والمواثيق بين العرب والمسلمين، بعيداً عن أي تدخل أجنبي، وهذا ما يفضي إلى إيجاد قوة عظيمة مقابل الدول الأخرى. ولكن هذه الدعوات، كما يبدو، ذهبت أدراج الرياح ولم يتحقق منها شيء، وإنما بقيت عند المطالبين بها مجرد أفكار نظرية لم تنزل إلى أرض الواقع.
للمرجع الراحل الشيخ كاشف الغطاء مؤلفات عديدة في الفقه والأصول والفلسفة والكلام والأدب والتفسير وغيرها تتجاوز الثمانين وفي آخر المطاف تعرض الشيخ لوعكة صحية أدخل على أثرها إلى مستشفى الكرخ في بغداد، ولكن صحته لم تتحسن، فقرروا نقله إلى مدينة كرند في غرب محافظة كرمانشاه الإيرانية، لغرض النقاهة، أملاً في شفائه، وبعد وصوله بثلاثة أيام توفي هناك، وذلك بتاريخ 18 ذي القعدة 1373هـ.
نقل جثمانه الطاهر إلى العاصمة بغداد، ثم إلى مدينة النجف الأشرف، و دفن في مقبرة وادي السلام .