كريم مروة يتذكر..قراءة نقدية لحقبة نصف قرن من تاريخ العراق

كريم مروة يتذكر..قراءة نقدية لحقبة نصف قرن من تاريخ العراق

بغداد/ أوراق
مفكر لبنالني اقام في بغداد منذ طفولته.. وشهد احداثاً تركت في مخيلته صوراً مكثفة استعرضها الكاتب صقر أبو فجر من خلال حوار يعد الأوسع والأشمل من نوعه كرسه بكتاب تحت عنوان (كريم مروة يتذكر في ما يشبه السيرة) والذي صدر عن دار (المدى) للثقافة والنشر،

موضحاً ان كتابه هذا ليس سيرة ذاتية ولا سجالاً فكراً، وانما هو مزيج متداخل لمواضوعات متعددة هي أقرب الى القراءة النقدية لحقبة نصف قرن من تاريخ شملت العديد من الحركات والأحزاب الوطنية والشخصيات السياسية والثقافية التي كانت تعج بها بغداد في مرحلة الانفتاح النسبي التي عاشتها بعد الحرب العالمية الثانية، المفكر والمناضل اللبناني كريم مروه لديه الكثير عن أحداث سياسية تركت أثرها على تطور الحياة السياسية والفكرية في العراق خلال النصف الثاني من عام 1947 وما عرف بمرحلة المد الثوري الذي بدأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتصارات الشعب في وثبة كانون وانتكاسات الحركة الوطنية وهجوم الحكم الرجعي بعد نكبة فلسطين والذي بلغ ذروته في النكبة التي حلت بالحزب الشيوعي العراقي حين أقدمت الحكومة على تنفيذ حكم الاعدام بحق قادته فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي.. نصف قرن ونيف من حياته ونشاطه مع شخصيات التقى بها وعمل معها بصفته سياسي ومفكر معروف وقائد بارز من قادة الحزب الشيوعي اللبناني منذ الستينات، فهو من مواليد جنوب لبنان عام 1930سليل عائلة دينية عريقة، انحاز الى الفكر الشيوعي عندما كان يتابع دراسته الثانوية في مدارس بغداد برعاية ابن عم والده الأديب والمفكر المعروف حسين مروه.. انتسب الى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1952.. انتخب في أواخر عام 1964عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني. شارك مع رفاقه من جيل الشباب في حركة تجديد الحزب انتخب في عام 1984 نائباً للأمين العام للحزب. واستمر في ذلك الموقع حتى المؤتمر السادس الذي عقد في عام 1992 ثم اعتذر عن الاستمرار في ذلك الموقع القيادي. وقرر في المؤتمر الثامن للحزب الذي عقد في عام 1999عدم ترشيح نفسه لأي منصب قيادي، بعد ان كان قد بلغ التاسعة والستين من عمره مفضلاً التفرغ للبحث الفكري.. من الدين الى القومية العربية فالشيوعية، ثم الى التصالح بين الاشتراكية والدين، لا بين الدين والماركسية والفرق كبير بين الفكرتين.. انها رحلة مضنية اجتازها كريم مروة في شعاب السياسة وفي مسالك النضال الاجتماعي وفي حقول الفكر والثقافة. خمس وخمسون سنة صاخبة اقتطعها من مسيرة عمره، ومنحها للأحلام الجميلة وللأمل وللمستقبل الباهر. كان يحلم بالعدالة للجميع، وبالحرية للأفراد، وبالديمقراطية للمجتمعات، وبالتحرر للأوطان كلها.. شيوعي برغم انه سليل عائلة دينية عريقة من جنوب لبنان. فجده لوالده كان رجل دين، وشقيق جده كان مرجعا دينيا، وجده لوالدته كان رجل دين أيضا، وشقيق جده كان مرجعا دينيا في إيران. لكن ارتباط جنوب لبنان بالمدن الفلسطينية أدخل الأفكار القومية الى وعيه في وقت مبكر.. أسباب مجيئه للعراق تكمن في سوء الوضع المادي لأبيه فأرسله مضطراً لمتابعة دراسته.. وفي العراق تابع شغفه بالسياسة والأدب برعاية قريبه حسين مروة الذي كان للتو قد خلع عمامة رجل الدين وتحول استاذا للأدب والفلسفة، وتفتح وعي كريم على الفكر الشيوعي.. يبدأ مروة بسرد قصة تطور وعيه السياسي والفكري منذ كان صبيا مراهقا في منتصف اربيعينات القرن الماضي وحتى عودته من بغداد في مطلع الخمسينات، فيقول: كانت تلك مرحلة مليئة بالأحداث العالمية والعربية العاصفة. الحرب العالمية الثانية على وشك ان تحط أوزارها وانتصار الحلفاء على ألمانيا الفاشية شكل زخما قوياً وحافزاً لدى الشعوب العربية لتعزيز مطالبتها الدول الغربية بتنفيذ الوعود التي قطعتها لهذه الشعوب في العمل على منحها الاستقلال والسيادة. وكان للدور البطولي الذي لعبه الاتحاد السوفيتي في دحر الفاشية أثره الكبير على تنامي وعي الشعوب في المنطقة العربية. وفي المقابل هناك الهجمة المتصاعدة من أجل تصفية قضية الشعب الفلسطيني والمتمثلة بتصاعد المحاولات المحمومة من قبل الصهيونية العالمية والدول الاستعمارية من أجل اقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين واستفحال الدور الذي كانت تلعبه الحكومات العربية العميلة لكبح تنامي الوعي الوطني لدى الشعوب العربية التواقة الى الحرية والعدالة والعيش الكريم كبقية شعوب العالم الحر.. ويشير مروة الى ان هذه الأحداث المتتالية والمتناقضة والتراكمات دفعته للبحث عن حل، وقد استطاع العثور على هذا الحل بنفسه من خلال الأحداث ذاتها التي أثرت فيه، فيقول: كنت قومياً عربياً بالمعنى العام للمفهوم وكنت متأثراً أيضا بانتصارات الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، وكنت في حينها أختلف مع بعض زملائي في المدرسة الذين كانوا يعتقدون ان انتصار هتلر سيكون نصراً للعرب ضد اليهود، لأن من كان عدوا للبشرية لا يمكن ان يكون صديقا للعرب، ولم يكتمل وعيي بالفكرة الاشتراكية إلا فيما بعد، أي بعد ثلاثة أعوام من انتهاء الحرب، وبعد خيبات متتالية أصبت بها جراء ما كان يحصل في بلداننا من فساد وقمع وتآمر وتواطؤ مع الدول الاستعمارية إذ اعتبرت ان الفكرة الاشتراكية هي التي يمكن ان تشكل مدخلاً الى حل المعضلات التي تواجهها الأمة العربية في نضالها من أجل التحرر والاستقلال والتقدم، بما في ذلك إيجاد حل عادل لقضية فلسطين، لذلك انتميت الى الشيوعية كفكرة في بادئ الأمر. ولا بد ان أشير الى ان الجانب التقدمي في فكر حسين مروة وسلوكه ووضوح الرؤية في فكر صديقه وزميله في التدريس محمد شرارة، وكان في ذلك الحين ينتمي الى الحزب الشيوعي العراقي، وقد أثرا من دون شك في توجيهي بصورة مباشرة وغير مباشرة، وكان كلاهما يقيمان علاقة صداقة مع قياديين في الحزب الشيوعي العراقي وبالأخص مع حسين الشبيبي، الذي كان يعتبر الشخص الثاني في الحزب بعد فهد. وأدى ذلك في النصف الثاني من عام 1948 الى انتسابي لاحدى منظمات الحزب الشيوعي العراقي لفترة قصيرة جداً. لكن حسين مروة ومحمد شرارة وبعض أصدقائهما من الشيوعيين نصحوني بعدم استمراري في العمل المنظم لأسباب أمنية. لذلك لا أعتبر اني كنت عضوا في الحزب الشيوعي العراقي بالمعنى الدقيق للكلمة. وكان من أقرب أصدقائي في تلك الفترة باسل الجادرجي ابن الزعيم العراقي كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، وأذكر باعتزاز وامتنان ان أستاذاً في كلية الهندسة محمد عبد اللطيف أولاني الكثير من الاهتمام فكنا نتمشى معا في شارع الوزيرية، وكان يطلب مني الا أتردد بالسؤال عن أي شيء يخطر في بالي. وأحسست انه ربما كان يعمل على تثقيفي بمبادئ الشيوعية، إلا انه لم يطلب مني الانتساب الى الحزب، وما أربكني حينذاك هو بعض القضايا الداخلية العراقية المتشابكة، وبعض الشعارات التي كان يطرحها الحزب، وطريقة تعامل بعض قيادييه وكوادره مع القوى الأخرى، كرد فعل على المواقف المتشنجة عند هذه القوى من الشيوعية والشيوعيين. وأكثر ما ساءني في موقف الحزب يومذاك، برغم إعجابي بشجاعة مناضليه وثقافتهم، هو طرحه في بعض بياناته شعار التآخي العربي اليهودي ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية في وقت لم تكن قد جفت آثار الحرب العربية اليهودية وفجائعها، فلم أستسغ هذا الشعار وهذه هي المرة الأولى التي أفصح بها عن هذا الأمر. أقول ذلك مع انني كنت صديقا للعديد من الشيوعيين، وكنت ممتنا لدور محمد عبد اللطيف في تثقيفي، وكنت شديد التقدير للأمين العام للحزب فهد الذي كان في ذلك الوقت سجيناً مع بعض رفاقه. وهذا التقدير لفهد اكتسبته من تقدير حسين مروة ومحمد شرارة لهذا القائد الشيوعي الكبير، والذي تعمق فيما بعد لدى اطلاعي على سيرته، وبعد ان قرأت أعماله الفكرية والسياسية.. ولم يكن حسين مروة شيوعيا في العراق. لكنه كان على علاقة وثيقة بعدد من قياديي الحزب الشيوعيي العراقي. وكان يحظى باحترامهم وتقديرهم. وقد قادته مواقفه التقدمية وتطورات الأحداث الى الإقتراب من الفكر الماركسي ومن الشيوعيين، الى ان أصبح عضواً ممارساً في الحزب الشيوعي اللبناني، ثم عضواً في اللجنة المركزية في أواخر عام 1964. وتمكنت من خلاله وبمساعدة بعض أصدقائه من إقامة علاقات عديدة في الوسط الثقافي السياسي. ومن خلاله تعرفت على محمد شرارة الذي كان رجل دين مثل حسين مروة، ونزع العمامة مع صديقه، وأصبح مثله أستاذاً للأدب العربي في مدارس العراق. وبرغم من انه كان حادا في الدفاع عن أفكاره إلا انه كان إنسانا رائعا في التعامل معنا نحن الشباب. ولا أستطيع ان أذكر محمد شرارة من دون ان أشير الى سيرة هذا الرجل الشجاع في مواصلة الصعاب والمحن وأشكال الاضطهاد التي واجهته وواجهت عائلته. وقد كانت ابنته حياة شرارة من الطينة ذاتها التي ميزت والدها الذي كانت له اسهامات فكرية كبيرة كان آخرها كتابه الذي صدر قبل وفاته (مقوضات النظام الإشتراكي العالمي وتوجهات النظام العالمي الجديد). وكان مقهى الزهاوي في وسط بغداد المكان الآخر الذي تعرفت فيه الى العديد من المثقفين الآخرين. وتلك اللقاءات بمجملها هي التي بلورت عندي فكرة الانتماء الى الشيوعية. إلا ان علاقتي بالجواهري كانت قد نشأت أولا من خلال قراءتي لقصائده وجريدته (الرأي العام) ومن خلال صديقه حسين مروة، ثم ربطت بيننا الصداقة واستمرت حتى وفاته.. يواصل كريم مروة سرد قصته العراقية التي ميزتها مرحلة ما بعد الهزيمة والحملة الإرهابية التي عرفها العراق وما رافق اعدام القادة الشيوعيين وتهجير اليهود. فقد استلمت زمام الأمور حكومة رجعية. وفي النصف الأول من عام 1949 أقدمت السلطة على اعدام قادة الحزب الشيوعي فهد ورفاقه الثلاثة حسين الشبيبي وزكي بسيم ويهودا صديق. وهذا الأخير تخاذل وانهار قبل ان يصل حبل المشنقة الى عنقه في حين واجه الثلاثة الآخرون حبل المشنقة بشجاعة الأبطال. وعلقت مشانق هؤلاء الأبطال في باب المعظم، وهي المنطقة التي تنطلق منها الباصات في اتجاه الضواحي. كنت عائداً في ذلك اليوم المشؤوم مع ابن عمي وصديقي نزار مروة من الكرادة الشرقية، حيث كان يقع منزل محمد شرارة، في طريقنا الى منزل حسين مروة في مدينة الكاظمية، الواقعة على ضفاف دجلة في الجهة الشمالية من بغداد. ولم تكن المشانق بعيدة عن مكان تجمع الباصات، أي غير بعيدة من المكتبة الوطنية ومن معهد الملكة عالية. ومع ذلك كان صعب علي وعلى نزار ان نرى هذا المشهد الرهيب. وقد تصورت يومها هؤلاء الأبطال وهم يهتفون بمثل ما هتف به أبطال آخرون خلال مقاومة النازية في أوربا: لو أتيح لنا ان نعود الى الحياة من جديد لكنا سلكنا الطريق ذاته. وهذا بالضبط ما قاله الواحد تلو الآخر، قبل ان يضغط حبل المشنقة على أعناقهم، باستثناء يهودا صديق. وقد أحسست يومها اني أرى أعناقهم، من دون ان أشاهدهم، تشد رؤوسهم الى الأعلى، وهي تحمل أفكارهم ومشاريع تحرير بلدهم التي تتلخص بشعار الحزب: وطن حر وشعب سعيد. أما بقية أجسادهم فكانت تشدهم الى أرض وطنهم والى جذورهم العميقة فيها.. ثم يذكر مروه موت حياة شرارة مع ابنتها مها بحادث سير في بغداد 1997.. وعندها توقف الأمسيات الأدبية، والتي اشارت بلقيس شرارة في مقدمة كتاب الأديبة الراحلة حياة شرارة"اذا الأيام أغسقت."